نصيحة من جورج الى جورج!

الذكرى الثامنة لرحيل القائد المؤسس د . جورج حبش 

                       نصيحة من جورج الى جورج!

بقلم : مروان عبد العال 

حدثني قبل بدء الجلسة الاولى للمنتدى الثالث للمناضل البحريني العروبي :عبد الرحمن النعيمي.. المنعقد في بيروت ١٨ ديسمبر ٢٠١٥ . جلس جانبي حين أسرى لي د. جورج جبور بنصيحة تقدم بها يوماً للدكتور جورج حبش ، استهل كلامه بجملة مفتاحية بأنه قد كتب كثيراً عن جورج حبش ، لكن هناك واقعة يريد البوح لي بها واعطاني الحق في كتابتها إن شئت، في زمن مقلوب تستفعل فيه الانقسامات والاحتراب والفتن والنزعات المصلحية ونحن أحوج ما نكون الى النموذج القيادي من طراز جورج حبش . عندها وجدني امنحه اصغائي غير مكترث للضجيج  الذي يصاحب افتتاح اي جلسة ..
حدثني  بأنه ذات يوم حظي بزيارة خاصة الى د. جورج حبش  في منزله  قرب فندق أمية في دمشق. أيام الانشقاق الذي حصل في حركة فتح عام ١٩٨٣م وتداعياته التي أدت الى خسائر معنوية وسياسية واخلاقية اصابت القضية الفلسطينية نتيجة هذا الاحتراب الذي كان الحكيم قد وصفه بشتى النعوت ، من المجرم الى المدمر الى الحرام . ولا يخفى ان هدف الزيارة كان للبحث  في ما آلت إليه القضية في ظل قيادة مأزومة ، اي ان الطرح الذي يريده مع الحكيم هو أزمة القيادة البديلة للحالية التي تتحمل مسؤولية ما جرى بعد الخروج من بيروت . أي التفكير ببديل  للقائد العام الأخ أبو عمار الذي لم يعد وقتها قاسماً مشتركاً وصار خاضعاً لحسابات الخلاف والقسمة الاخيرة أي أنه أدخل الشعب الفلسطيني في عقدة فقدان الزعامة التاريخية.. ويقدم عرضاً يقول أنه آن الآوان ان يتصدى الحكيم لهذه المهمة ..!
 كان جورج جبور  وقتها يشغل منصب مدير مكتب رئيس الجمهورية العربية السورية ( حافظ الاسد)  للدراسات والسياسات العربية. وأكد أن زيارته شخصية من منطلق الاعجاب بالحكيم  والحرص على القضية الفلسطينية التي تعصف بها مرحلة الخروج من بيروت وتداعيات الخلافات على الخيارات التي تعيشها ..
حدثني ان اللحظة الحرجة  وانه معجب بحكمة وثورية ونزاهة ورومانسية جورج حبش،  وأحلامه العظيمة التي لا تتعارض مع نظرته الجدلية لتفسير الواقع ، إلاّ انه حسب وجهة نظر جبور  يظل القيادة الأكثر تأهيلاً ليتبوأ مهمة إنقاذ الحركة الوطنية الفلسطينية . 
يعترف محدثي  انه استهل الكلام مع الحكيم بوابل من عبارات الاعجاب المعلل بميزاته القيادية والطهرانية و الاخلاقية وحكمته السياسية ومكانته النضالية والشعبية، ثم اقترح على الحكيم عرضاً أو نصيحة  مفادها : ان لا يترك  مكان الزعامة التاريخية فارغاً حتى لا يشغله  من لا يستحق، وذلك رأفةً بالشعب الفلسطيني . عندها لاحت علامات الخجل على وجه الحكيم وارتسمت على وجهه ابتسامة مزدوجة ، واحدة منها  تدل على علامة استحسان لما قاله واخرى  مليئة بالوجل والحيرة في لملمة الفكرة بكامل جوانبها وبلحظات  وهز رأسه واصبعه  كعلامة قطع طريق على العرض ورفض مسبقٍ للنصيحة ..
قبل ان يبدأ الحكيم بتعليل سبب تمنعه . باشر د. جبور  يتخيّل سبب الرفض أن يكون  الرفض السريع  ناتج عن اعتبار ذلك تدخلاً لا يحبذه أو موقفاً استطلاعاً رئاسياً على ابعد تقدير..  فأخذ يقسم  مستبقاً شرح الحكيم ، انها مجرد نصيحة شخصية اخوية وليست تكليفاً من اي مسؤول رسمي ، علماً انه متاح له من الرئيس ابداء افكار خاصة واراء شخصية.
 مع ذلك فإن الحكيم  اوضح  سبب رفضه المباشر والصريح للنصيحة، معللاً ذلك ان هناك قيادة يمثلها "ابو عمار" رغم انه يختلف جوهرياً مع نهجه السياسي، ولكنها مازالت قيادة ممكنة حتى ذلك الوقت  و تحتاج للاصلاح والتغيير والتجديد لكن بوسائل ديمقراطية ، وانه  لا يقبل ان تكون وسيلة التغيير  انقلابية او عنفية او استقواء بالواقع الجديد الذي فرضته ظروف الخروج من بيروت . وكرر رفضه للاحتراب داخل الصف الواحد، حتى أنه لا يبررها مهما كانت غايتها.  مذكراً بحرمة الاقتتال وان كل البنادق نحو العدو.
 لا ظرف الزمان يسمح بطرح قيادة بديلة  وان هذا الامر لا يسجله على نفسه تاريخياً، حتى لا يتهم خاصة بعد خروج الثورة من بيروت أنه اضحى شريكاً غير محسوب في الصراع على التركة ! ويعطي انطباعاً  بأن مدخل  عملية الاصلاح المطلوبة  يكون بتحويله الى تحقيق مصلحة فردية وسلطة شخصية .
ولا ظرف المكان يجعله يتجاوز حساباته الوطنية  ليزيد الطين بلة، وخاصة في زمن تأزم العلاقة مع دمشق .. نصيحة متبادلة رغم ما اخفاه  حينها من سبب مضمر وترك له ان  يستنتجه لاحقاً ، عن وقع النصيحة الثقيلة  التي يقدمها  "جورج الى جورج "!  هناك تنويه فهمه  كلاهما ولكنه ظل مضمراً ، عن دلالة الاسم  التي يدفع  اصحاب اللعب الطائفية الدنيئة لأستخدام رخيص بهدف النيل من الانتماء العروبي الاصيل  للجورجين ! وتشويه الفكرة بسموم دنيئة وعواقب غير محسوبة، ولكنها بحس الحكيم  الوقائي والاستباقي الحذر  فكان الأمر يختلف.
 يأبى إغراء السلطة التي  قل من يصمد في معاندتها. السلطة التي ترتكب  لأجلها حماقات وتنتهك في سبيلها الاخلاق، ومن اجلها تتفكك الاوطان وتروض الثورات وتتآكل المؤسسات والدول . ظل يمتلك هيبة القيادة بقيمها المعنوية وبقوة الوعي والضمير وليس بجهاز سلطوي مصطنع او مفبرك لهذا الغاية . أعرب للزائر عن بالغ سعادته باللقاء واحترامه الاستثنائي له شاكراً له ثقته العالية، 
 ومعتذراً عن كان قد خيب ظنه بقبول " العرض/ النصيحة" ومهما كان الخلاف إلا انه لا يفسد للود قضية.. وكرمى لعيون القضية.
مذكراً أن السلطة التي يصنعها الوهم، يدرك بنتائجها  وكيف تتحول الى مصالح خاصة و ذاتية ، الراكب فيها أما يجري  في طريق لا يرغب السير فيه ! وإما يحشر داخل عربة تنحدر على سكة هابطة لا يعرف أين ومتى سترطم بالمجهول ؟ 
ذات يوم وقع ما يخشاه  الحكيم ان  تصبح القيادة أهم من السلطة والسلطة أهم من الوطن ، وفي النهاية يفضى الانشقاق  الدائم الى مرحلة الشرخ الشامل ...

نشرت في جريدة ( نداء الوطن) الاردنية..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء