سؤال غسان كنفاني اليوم : لماذا لا نقتلع الخزان؟!


يعيد صياغتنا كلما تبعثرنا ويدمجنا في كيمياء روحية، كأبطال وصور وعناصر ومشاهد وحكاية المثيولوجيا المفعمة بكل تفاصيل التغريبة الفلسطينية الطويلة والمتجددة.
هذه الكتلة المتماسكة والمركبّة اسمها غسان كنفاني ، المثقف العضوي الذي لا تنفصل فيه الثقافة عن الممارسة ولا الادب عن السياسة وهو المناضل الذي يحمل براءة اختراع مصطلح «أدب المقاومة» واستخدمه اول مرة في العالم إذ ذكره لأول مرة في مقال له نشره عام 1966، ودافع عن مفهوم أدب المقاومة في أعماله كلها. نتحدث عن اليوم عن ادب المقاومة في زمن من بات يسأل هل لازال هناك أدب مقاومة؟ في زمن المناقصة والسقوط والخراب والدونية وما يمكن ان يسمى "متلازمة هرتزليا" العقدة النفسية حين وجدنا شغف واعجاب الضحية بجلادها .
بدمه كتب لفلسطين وترك خلفه رجال ارادهم ان يكونوا إما عظماء فوق الارض او عظام تحتها، وأن لا يرتدوا حتى يزرعوا فيها جنتهم. وفتية وابطال شباب وصبايا في الاسر كما القائد احمد سعدات ومعاقل البطولة والشهداء ، مثل البطل المضرب عن الطعام بلال كايد فكرته الحيّة في هذه الاجيال وهي مثل لغز الموت الفلسطيني الذي يظل ساخراً من القدر، هكذا مضت سنوات على غيابه فاختمرت  الحياة برموز الاسطورة في روح كلماته ومغزاها.
يحضرني دائماً المفكر العروبي المرحوم "منح الصلح"  اناط اللثام عن السر يوم  قدم نصيحة ثمينة للكاتب الشاب غسان، لا تكتب  نصاً  ليُرضي "كوادر الجبهة الشعبية"،  اكتب الى أدب الدرجة الأولى". وعندما استشهد غسان رثاه المفكّر الألمعي عينه، بوصفٍ جميل: " لقد كان قادراً على ان يجعل المادة  الأيديولوجية تختفي وراء الإمتاع الفني الكتابي ووراء الخبر الجذّاب، كما تختفي الفيتامينات في برتقالة يافاوية او صيداوية شهية. ويا له من مهرّب حاذق يحسن سوق المفيد في لفائف المثير والمخدر والمستطاب.
  أدب المقاومة ليس شعارتياً ولا هو مهنة ولا مادة التعبئة العامة او التفويض السياسي، "الادب هو علم جمال" المقاومة، موقف وقضية انسانية مكنت غسان ان يجترح من هذا الواقع اسطورته الخاصة مؤمناً بقول بريخت: "من يكتب أدبًا رديئًا فإنه يخون الجماهير"، كتابة ونضال وشهيد، قصة وبحث ورسم ولوحة ودراسة، مجلة وجريدة ومقال ومقابلة وسؤال وقفشة ودبوس، كلمة وطلقة وفيلم وزهرة، ورقة وقلم وحبر ودم، وطن ومخيم، غسان توقيع جديد واسم مستعار وسخرية
سوداء، ابو العز وفارس فارس وغسان مؤتمر وصحافة وسفر وفرح وحزن وغضب وعشق وانفجار.
غسان الذي امتلك استراتيجيته المقاومة الثقافية  الشاملة والتي عجزت عنها أنظمة وأحزاب ومؤسسة كاملة. وصاغها من خيوط  ملونة  فيها احلام جماعية وحوافز انسانية ورغبات سياسية وقيم وغايات نبيلة ولكن في بوتقة واحدة، قماشة تسمى الاسطورة حيث تحتفي فيها كل الاشياء وتظل مرتبطة بالأسئلة الوجودية الكبرى، يحتاج ادراكها الى الإمساك بالتخوم الخفيّة في صورة الهوية التي تلامس أسرار وجودنا ومن نكون .
 السؤال الذي دقّ به غسان كنفاني جدران رؤوسنا عقب هزيمة 1967، في صدى الفراغ الذي ارتعش في آذاننا، باكتشاف سهل وممتنع بأن يسألنا ويسأل ذاته: "ما الذي حصل لنا يا ترى، ولماذا حصل ما حصل؟ وهل ثمة خطأ في المعادلة؟ ودائرة الفكر السياسي المحكم عند غسان كنفاني، ترفض أن تلتقي الحقيقة بصورة عابرة ولا يشبع ذاته نصفها. تجده يغوص في المعرفة يبحث بأسئلته في أصل الأشياء، يعيدها إلى منطقها فتتحول إلى أجوبة متعددة كي تستعاد لتتحول مرة أخرى إلى أسئلة جديدة، واحتمالات وأبحاث جديدة. "عن ماذا" وعن "اللماذا" تلك التي ازعجت أنظمة النكسة عندما طرح سؤاله المشروع: لماذا النكسة؟ وليجيبه احد المخبرين برسالة مكتوبة بالخط الغليظ والوقح والصريح. "يا ود انت مش حتبطل( اللماضه) بتعتك؟؟؟".. بقصد سؤال " لماذا"..
عالمه الأدبي المحكوم بهذه المنهجية الفكرية، يطرح القضايا بعقلانية شديدة ليتابعها ويعالجها بالسؤال، كما في روايته "رجال في الشمس" يحكي لنا عن أبي الخيزران، مجاهد قديم، تحوّل إلى مهرّب، بعد أن فقد ذكورته في إحدى المعارك. يريد لنا أن نكتشف رمزية السلطة وعلاقتها بنا في لحظة ألم وموت للقدرة والرغبة معاً، ضياع رجولته فضياع الوطن. ثم يأتي إلينا السؤال مفتاح الحل: " لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ ".
لا يريد غسان كنفاني أن نقبل الهزيمة صامتين وأن نقابل الموت مكتوفي الأيدي! هو السؤال القائم والمقيم خلف كل هزيمة، المرتد كالصدى يلامس وحده الزمان والمكان تراكماً وتكاملاً على طول المساحات والمستويات.
في كل مرة يتحول البعض إلى مواد مهربة، لا فرق على أي حدود يهربون صحراء لاهبة أم داخل مدن الضباب الباردة، منها أم إليها، بالبحر او الرمل. ودائماً يقود الصهريج " أبو خيزران".
متى انحرفنا عن الطريق لن نصل هذه هي المعادلة وإن وجدنا أنفسنا محشورين في خزان لقيادة تهريب وسمسرة وخداع مكبلة وعفنة وسلطة عاقرة محطمة تستكين مع عدوها الذي يصبح شريكها وحليفها الذي يصبح عدو.
على الاغلب ان رجال في الشمس دقوا ولكن لم يسمعهم احد سوى الصحراء القاحلة وربما سمعهم من لم يستطع فعل شيء وقتلهم بعجزه. فتساوى القتل بالصمت والقتل بالعجز. لكن السؤال اصبح ليس لماذا لم يدقوا جدران الخزان ؟ بل باقتلاع الخزان.. والسجان وهذا السجن  الكبير والمميت.
وذهب غسان كنفاني إلى مدى السؤال في ثلاثيته الدراسية، يصالح الماضي بمراجعته لثورة 1936، يصالح الذات في معرفتها، في دراسته عن " الأدب المقاوم تحت الاحتلال ".
وفي دراسته الثالثة يطرح معرفة العدو، في دراسته عن "الأدب الصهيوني". ليبين لنا عمق الصراع، مفهومه ومستقبله، ثلاث دراسات في بنيان معرفي للتاريخ، للذات وللآخر، كأنه يريد القول أن التناقض الرئيسي بوجهيه لا بد من حضورهما في بنيتنا الذهنية.
1. ففي دراسته "ثورة 1936، خلفيات وتفاصيل، قراءة لتجربة تؤكد عمق مفهومه للإستمرارية التاريخية. يعطي مفهومه للعلاقة مع الواقع والماضي واستقراء التجربة والتاريخ، للبحث دائماً عن أسباب الفشل، والتي كانت القطيعة واحدة منها. خلص الى سر الهزيمة: " الذي لا يقاتل يقود والذي يقود لا يقاتل"..
2. أما في دراسته الثانية للأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال، يكتشف في مقدمته "أن الشكل الثقافي في المقاومة يطرح أهمية قصوى ليس أبداً أقل قيمة من المقاومة المسلحة بذاتها.." ثم
يعود فيؤكد أهمية الثقافة بأنها "الأرض الخصبة التي تستولد المقاومة المسلحة وتحتضنها وتضمن استمرارها وتحيطها بالضمانات". في هذه الدراسة يضيء على نواحي مغيبة في رؤية معرفة ذاتنا وقدراتنا ومواردنا كي نستثمرها في الصراع وعلى ذات القيمة للأشكال والتعبيرات الأخرى. وهو الذي ردد في أكثر من مناسبة " الكلمة بندقية " بفعلها وقوتها ومسؤوليتها.
3. وفي دراسته الثالثة، يجري محاولة في معرفة الآخر، العدو الذي يقف على الجبهة الأخرى في الصراع، والتي لا تستكمل معرفة حقيقتنا دون معرفة عدونا "إعرف عدوك، تعرف نفسك". ويستعرض قدرة العدو وان اكتفى بها على جبهة اللغة والأدب والعلم عامة، فيكتب غسان كنفاني ليقول، أن الصهيونية على هذه الجبهة" تخوض قتالاً مريراً لا يوازيه في تاريخها إلا القتال على جبهة كاملة هي جبهة رفض الاندماج". شخصية شيلوك الى اليهودي التائه الى المحنك والعبقري. جورج أليوت التي اطلق الصهاينة اسمها على اول شارع بعد الاحتلال. مذكراً ان الصهيونية الادبية سابقة على الصهيونية السياسية، وان هيرتزل بدأ روائياً ثم سياسياً..
ويعتبر أن منح جائزة " نوبل " لأول كاتب صهيوني هو "شومائيل عجنون" بمثابة وثيقة وعد بلفور ادبية "وكأنه أراد القول، أن جبهة الصراع تطال حتى "نوبل" وأنها انعكاس لدور العقل واستخدامه في الصراع، وأن معاييرنا ومناهجنا في مواجهة العدو يجب أن ترتقي إلى ذات السؤال، ولا يكفي أن يبقى هذا العدو مجرد" الشر" الذي يشتم في خطاباتنا والحاضر فقط في أهدافنا، والغائب عن معاييرنا ومعرفتنا.
قد يجد المرء صعوبة في هذه العجالة قراءة للمنهج الفكري لغسان كنفاني في كل ما كتب، وخاصة صعوبتها في محاولة قراءته في أدبه وقصصه من خلال صوره وأسئلته مهما بلغت رمزيتها، فصعوبتها هي في جمعها في نص يكتب تكريماً له، لا يستطيع إلاّ ان يكون مروراً أفقياً على بعض عوالمه من كل مقام له. هي مكوّنات وانعكاس لذات المنهج الفكري الصحيح.
 
في قصة قصيرة جداً من مجموعة "عالم ليس لنا " أطلق عليها غسان كنفاني "زمن الاشتباك " يطرح علينا سؤال الوجود، وما هي الوظيفة ارتباطاً بالوجود؟ يقول في سطور منها "... كان ذلك زمن الاشتباك، أقول هذا لأنك لا تعرف: أن العالم وقتئذ يقف على رأسه لا أحد يطالب بالفضيلة. إذن دعنا نتفق بأنه في زمن الاشتباك تكون مهمتك أن تحقق الفضيلة الأولى.. أي أن تحتفظ بنفسك حياً وفيما عدا ذلك، يأتي ثانياً ".
وفي بداية القصة، يقول معرّفاً زمن الاشتباك وهو ما يختلف عن مفهوم الحرب " كان في ذلك زمن الحرب، الحرب ؟ كلا، الاشتباك ذاته.. الالتحام المتواصل بالعدو.. لأنه أثناء الحرب قد تهب نسمة سلام يلتقط فيها المقاتل أنفاسه راحة، هدنة.. إجازة تقهقر.. أما زمن الاشتباك فإنه دائماً على بعد طلقة.. أنت دائماً تمر بأعجوبة بين طلقتين.. وهذا ما كان كما قلت زمن الاشتباك المستمر ".
غسان في قصة قصيرة يطرح أسئلة كبيرة وعميقة. يعرض مفهوم الزمن، حرباً أم اشتباكاً.. أي الصراع المستمر بأشكال لا ضرورة أن تكون عنفية وإن لم تسمح قدرتنا بها، لذلك فلحظة السلام! أو التقهقر أو الهدنة أو الراحة لا تعني أن الصراع قد توقّف. إن كان قد يعني التوقف يكون استسلاما او سقوطاً او انكسار..
ويعالج سؤال الوجود، ليس كمأساة تستحق الشفقة، بل عمق الإنسان وجود ووجدان، واقع وحلم، حفظ الوجود.. أن تحتفظ بنفسك. وما عدا ثانياً.. لأن الصراع طويل مستمر، هو التحام متواصل، هكذا يعرفه غسان، أي أن هذا الالتحام وهو الصراع ما زال يمتلك أسباب استمراره موضوعياً وإلا لماذا الفضيلة بحفظ البقاء وما عدا يأتي؟ هو مؤجل ولكن ليس ملغياً إن لم يكن هدفاً آنياً ومعلناً.
لن ننسى مواصلة القرع على جدران الاحتلال وجدران الموت والظلم والقهر والغربة والكتابة في سبيل الحياة. لذلك نحن جيل الانتظار والوعد القادم والسؤال الذي ولدنا فيه ونقيم فيه  ” كن رجلاً تصل إلى عكّا في غمضة عين، أمّا إذا كنت لاجئًا فقط فلن تراها أنت ولن يراها حتى أحفادك“.
سلاحنا بطلك المخيمي المثيولوجي حفيد "أم سعد" التي لا زالت في مخيمات البؤس على وجع وفزع وشتات، يتجدد بإنتظار لحظة شروق جيل "العائد الى حيفا" الى "أرض البرتقال الحزين" هويتنا الى فلسطين الحقيقية، هو جيل الانقلاب الموعود، والمعادلات الصحيحة.
ندرك مسؤليتنا التاريخية لما مضى ومسؤليتنا لما يلي.. كتب عن استشهاده محمود درويش :
“طوبى للقلب الذي لا توقفه رصاصة، لا تكفيه رصاصة".
 
مروان عبد العال 

نص محاضرة في ذكرى ٤٤ لاستشهاد غسان كنفاني/ جمعية الادب والثقافة / صيدا
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء