عمي شفيق الحوت: أهي رحلة أم وداع ؟




تعصى قطرات الحبر في حلق القلم، كما ترتعش الكلمات في جوف القلب وهي توجس بحنين اللقاء في موعد الفراق لهامةٍ فلسطينيةٍ بامتياز، ستبقى في الذاكرة شامخة مثل قامة جبل الكرمل وعطر برتقال يافا. تحتقن الدمعات في المآقي ترفض أن تهطل، تبقى في عمق الليل تختمر وتحار في البداية كي تكتب عن رجل البدايات وتستلهم السيرة والمسيرة والمشوار الذي نثر أبو هادر بين أثلامه أجيالاً ورصّع بحرفته الثقافية قاموس اللغة السياسية الفلسطينية وطلاها بألوان تعابيره الأنيقة، فأجاد فيها الخطابة والتحليل والمناظرة وصناعة القرار مدافعاً عن القضية الفلسطينية وناطقاً باسمها على المنابر الشعبية والرسمية المحلية والعربية والدولية. وإن كتب امتشق سلاح الكلمة وخط ّبقلم يستله كمشرط الجراح، عند التعليق على كلماته يجيب ( يا عمي ما تنسي إني بيولجيست فقد درست علوم البيولوجيا).
منذ أن تفتّحت عيوننا على السياسة كان فيها اسم شفيق الحوت قبل أن نعرفه عن قرب ومنذ أن بدأنا نلاحق أخبار القضية في الصحافة كان قلمه. لم أحاوره عن قرب إلا وهو خارج المناصب القيادية، الممثل السابق لمكتب منظمة التحرير والعضو المستقيل من لجنتها التنفيذية، وهو يردّد لقد استقلت من الوظيفة ولكن ليس من القضية، القضية ليست وظيفة هي قدر الفلسطيني. ولا يستطيع الاستقالة منها.
كنا نغرف من خزينه ولا يبخل بإشباع شهوتنا للمعرفة وعطشنا لخبرته الطويلة، فهو القائد الذي أسهم بولادة منظمة التحرير الفلسطينية ورحلته من الوطن إلى المنفى تؤرخ للقضية بكل ألوانها المتمازجة، عمل فيها فكراً ونضالاً ودبلوماسية وسياسة وثقافة، في كل مراحلها الصعبة وموقعه الدائم في صناعه القرار. بل بذلك الكبرياء السياسي المتواضع، نقيض الاستجداء الوضيع والمقيت.
يوم تصادف حضورنا مرّة في حفل استقبال لإحدى السفارات العربية في بيروت، ودخل وزير الخارجية اللبناني يومذاك وصافح معظم سفراء الدول وخطى بجانب شفيق الحوت دون أن يعيره أي إهتمام وحتى لم يمد يده كي يصافحه، فانتفض أبو هادر صارخاً وسط الحضور الرسمي منادياً الوزير بإسمه الثلاثي، تتجاهلني يا فلان ابن فلان، أنا ممثل فلسطين، شرف الأمّة، هل تمر بلا مصافحة لتؤكد أنّك لا تعترف بنا ؟ وساد الهرج والمرج وضرب حرس الوزير طوقاً أمنياً حوله. وأبوهادر يرتجل خطاباً بأعلى صوته في أصول البروتوكول واللياقة ولم يهدأ حتى اعتذر الوزير.
جفّت الكلمات وأنا أستعيد بعض حوارتنا الساخرة وقهقهتك الخارجة من القلب وفي لحظة الفراق، تربّت على أكتافنا لنكمل المشوار، نرسم كاريكاتيراً لقيادات الاستعراض الفارغ و " الشطارة "، في زمن تبدلت فيه القيم، وواقع يدمى القلب له لكننا نضحك ونتهكم وثم يحتدّ الكلام ، ويسود النقد أجواء اللقاء ضد كل الممارسات الخاطئة والمشينة، وتحذر" فلسطين لمن يضيف لها يا عمي وليس من يأخذ منها". هناك من القادة من يأخذ من دمها ووجعها لنفسه، يتاجر بالقلم والألم. وإلا لماذا الانقسام والخلافات التي تمزّق الجسد الفلسطيني هل هذا يكون إبداعاً فلسطينياً أم الإنتحار بعينه؟ وتصرخ بتحذيرك الدائم : " الوحدة أو الندم ". وأكثر ما كنت أستغربه فيه هو جرأته في مقاطعة أي متحدث يذكر كلمه فلسطين ملطفة، فيصرخ في وجهه: " فلسطين مش فلستين، بالطاء يا أخينا ".
بالمقابل كنت أفهم عتابه إن طال الغياب كي أروي عطشه المزمن لمعرفة كل الأخبار التي تدور في زواريب المخيم... وشغفه لسماع حال الناس البسطاء وعندما أفاجئه بأخبار سيئة من صنع أيدينا، يصرخ " وهل ألوم جدي لماذا هاجر الى فلسطين؟ لا أريد أن أتهم بأني فلسطيني لأفعال أولئك بل أريد من يجعلني أفتخر بانتمائي " . فأجد نفسي مضطراً لتهدئته وأعطيه بعض من جرعات الأمل عمن يقبضون على جمر القضية ويحفظون قيمها ومجدها وحلمها، يبتسم أبو هادر قائلا: " من قال أننا لم نخلَف الًا الزعران ؟ والله نحن خلفنا جدعان أيضاً ".
دعوته لندوة في مخيم نهر البارد قبل حوالي العشر سنوات، وهناك شاهد سكّة القطار، فاستعاد ربما ذكرى ما، في زمن ما، وسألني هل هذه سكة القطار ؟ يعني الناس جاءت من فلسطين بالقطار إلى هنا ، من نزل هنا صار مخيماً ومن استمر في القطار إلى سوريا وفي كل محطة أقاموا فصنعوا مخيماً، و كان مخيم النيرب قرب مدينة حلب هو الأخير في الرحلة. وهنا خلص بالقول ولكن القطار الذي حملنا إلى هنا لماذا لا يعود بنا للوراء؟ وهل نحن لا نستحق العودة للوراء؟ متى يأتي قرار الوراء..؟ الوراء هو الوطن .
خلصت الرواية يا عمي؟ كان سؤالك لي قبل أن أبادر بالسؤال عن صحتك من اتصال سرقته رغماً عن ألم ومن وطيس الصراع المرير مع المرض، لحظتئذٍ سمعت صوتك للمرة الأخيرة، والذي أضيف لي بعد رحيلك وما أدمى قلبي وعقد لساني أنك يوم الخميس قبل الرحيل بثلاثة أيام سألت خالد عني بكلمات بالكاد تستطيع نطقها، وهو مراسل معتمد بيننا ، لأنه الملاصق لك دائماً والذي أصبح بالمناسبة يسمى في المخيم بـ (خالد شفيق) . وكي يفهم الجميع ما كنت تهمس به بصعوبة أنك رسمت بإشارة من يدك المتعبة توحي أو توصي بفعل الإبداع أو تعيد السؤال عن أجل الرواية.
رواية الوجع لم تنهِ يا أبا هادر.
ولكن روايتي انتهت. اليوم استعدت سؤالك يوم كنت على متن سفينة يونانية تبحر من ميناء يافا نحو بيروت في الثالث والعشرين من نيسان عام ثمانية وأربعون. أخبرت كم كان البحر بلا رحمة ذاك اليوم والسؤال يدور في عقلك وتردد : "هل هي رحلة ، أم الوداع الأخير "؟ ولأنك كتبت يوماً أن ( شارع العالم ) الذي كنت تسكنه ذات يوم في يافا، لم تكن لتحفظ في ذاكرتك وقتها أي تفصيل عنه، وصرت بعد الفراق، تنتعش ذاكرتك كل يوم كأن أسماء المحال التجارية وحتى عربات الباعة المتجولين في الشارع تعرض أمامك كلّما طال الغياب.
لذلك هي إستراحة على درب الحلم ولكن يا عمي أبو هادر فما زال المشوار.
مروان عبد العال

تعليقات

  1. المدون الجاد مروان ..كل التحية والاحترام ..وللشهيد الرحمة ولنا ان نكمل المشوار..كلعام وانت بخير

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قلم أخضر

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء