ماهر اليماني ترنيمة على إيقاع مسدس!
بعد ان انتهى العرض المسرحي في ساحة المكتب وعلى صراخ المشاهدين وهرج الصبية خلف الجمهور وهدير موج البحر الجاثم وراء خشبة المسرح مباشرة، دخل عرّيف الحفل، يحمل بيده عُلبة، ويتقدم نحو مُكّبر الصوت، ليُعلن أنّ الحفل سيختَتَم بمزاد علني، يعود ريعهُ لدعم العمل الفدائي.
وأفاد أن داخل العُلبة هدية ثمينة، ترمز لرفيقٍ من الجبهة ومناضل من المخيم وبطل يقبع في الأسر بعد عملية بطولية. وبأسلوب مشَوّق، أخذ المعرّف، يعرض طريقة الفوز بها، وهي داخل الصندوق، والذي سيقوم بكشفه امام الجمهور هو الفائز نفسه. والرابح، من يتمكن من الوصول الى الوقت المحدد، وسيعلن عن انتهاء المزاد، عند التوقف عن المنافسة، بحيث يرسو المزاد على آخر منافس يبقى حتى اللحظة الأخيرة، ليقوم بعدها بدفع المبلغ باقتسام الحصيلة مع عدد من المزايدين محقّقين بذلك أعلى نسبة تبرع في منافسة حامية وشيقة.
انطلقت عملية المزايدة على الهدية المجهولة التي في الصندوق، وعشرات يتقدمون لدفع مبالغ مالية، بدأت بمبالغ رمزية صغيرة، وانتهت بمبالغ كبيرة وظل المنافسة بين اثنين احدهم شقيق والدي المرحوم العم أبو فؤاد – لروحه السلام. يومها كان في اجازة صيفية من سفر طويل في الخارج ولطالما كان ممولاً داعماً للحركة ثم الجبهة، وقد فاز بالحصيلة وما في داخل الصندوق. وعند اخراج الهدية منه، كان التصفيق حاداً من الجمهور، وقد نهض الحشد واقفاً عندما أعلن العريف أن الذي داخل العلبة يكون المسدس الخاص بالفدائي ماهر اليماني .
كان في المخيم الكثير من الأسلحة، بأنواعها معلقة على اكتاف الشباب، لكن صرنا نرجو العم ان نتلمس مسدس ماهر، كان مزهواً به ومعتزاً كأنه حاز على وسام شرف، ونسأل باستغراب: هل صحيح ان هذا المسدس هو الذي اطلق النار على الطائرة ؟ فيجيب: لا صاحب المسدس هو من ألقى قنبلة ولكن المسدس كان هنا في بيته. لذلك قيمة المسدس من مكانة حامله، فهو ليس للزّينة أو للتّمظهُر، قيمتهُ بأن حامله يعرف متى يستخدمه، وكيف والى من يوّجه رصاصهُ، وان يظل على أهبة الاستعداد ودائماً في الاتجاه الصحيح.
ويوم تحرر صاحب المسدس، قامت الجبهة بدعوة أهل المخيمين البارد والبداوي الى الاستعداد ليوم الاستقبال. نشطت ثُلة من الصبيّة للزينة، توزعت الثلّة الى فرقتين، واحدة لإحضار الزهر من القرية المجاورة للمخيم، امّا الاخرى فذهبت الى ضفاف النهر لجلب اغصان وازهار الدفلى البيضاء والزهرية واقتلاع شجيرات من النعناع البري برفقة بعض النساء الخبيرات في جلب أعواد الحطب وانتقاء ورد الاسيجة من بين اشواكها البلانية.
الناس عند المدخل الجنوبي للمخيم، يحتشدون في ملاقاة العائد ولرفعه فوق الأكتاف، لاحظ سكان المخيم ان الشوارع تضيق بالموكب، والأزقة الضّيقة تفيض بالفرح، وتستعد بلهفةٍ ليوم الغد، وكل البيوت مشرعة النوافذ والأبواب، كأنها تفتح ذراعيها لعودته.
طل كالسبع صاحب المسدس، وهو يتعانق مع رفيقه محمود، فقد نفذّا العملية معاً على طائرة الرحلة رقم 253 لشركة العال الصهيونية، والتي على اثرها هاجمت فرقة من الكومندوس "الاسرائيلي" مطار بيروت الدولي، ودمّرت ثلاث عشرة طائرة مدنية، ردّاً على العملية التي نفذتها الجبهة، بتبرير أقبح من ذنب، ان ماهر ومحمود من ابناء مخيمات لبنان.
لأول مرة ترى أعيننا ماهر، الفتى الوسيم والنحيف الجسم وبشعره الكثيف سواداً، وبالوجه البشوش يبتسم من عينيه قبل ثغره، ويلوّح بيديه ويوزع قبلات في الهواء، يرد السلامات بصوت كأنه يلهث، كثير الحركة كتلميذ ٍ مدرسةً في حالة شغب، رغم انه حضر وأنتهت مراسيم الاستقبال، ولكنهم ظلوا في حالة البحث عن صاحب المسدس. وفي حالة استقبال للشخص الذي تخيلوه .
آه.. ألم يأت بعد؟ هذا لسان حال صبية المخيم. ينتظرون الفدائي وعلى موعد مع الشخص الاستثنائي، والفدائي الذي يعني "سوبرمان" يطير بين البلدان ويطارد طائرة في السماء، ربما يختطفها او يتعلق بها ويسقطها. الفدائي هو البطل الذي لا ينام ولا يخاف ولا يموت، المتسامق زهواً وقوة وكرامة وشموخ، كان الفدائي في خيالنا مارداً لا يضاهي جبروته أحد، يقفز من اعلى مكان يسقط ولا ينكسر، تكون فدائياً لو استطعت ان تفعل كذا وكذا.
بقوا في حالة بحث عن الفدائي.. وجدوه في الفتى المضيء من لمعة المسدس، المكلل بالزهور على باب المخيم، تطلقه النساء كزغرودة في ضمة حبق ورائحة النعناع، ظل صداه يتردد في هتافات الأولاد واهزوجة شعبية ينشدها على شُبابته الشاعر الشعبي ابو حسين علي شحادة: (أهلا وسهلا بمحمود وبماهر اليماني.. اهلا وسهلا بالفرساني.. اللي غزو بلاد اليوناني). كما صورته محفورة في المخيّلة كالطابع البريدي الذي ألصقفناه على دفاترنا المدرسية، يوم بادر قسم الإعلام بالجبهة واصدر مجموعة طوابع بريدية ضمت اربعة وعشرين طابعاً سنة 1974 تخليدا لمناضليها وكان بينهم ماهر اليماني.
يوم إلتقاه عمي ثانيةً بعد سنوات أعاد المسدس الى من يستحقه، الى قبضة يد صاحبه. كان على يقين ان هذا الفتى سيظل طول حياته في حالة قتال مستمر، قال يومها: أعدت له الأمانة، فربما المسدس سينفعه أكثر مما ينفعني. كان يرى فيه فتى يصعد كوطن لا يطال، كالمسدس المهيأ لحالة الإطلاق، الشخص المُلقم بالرّصاص كما الذكريات، والماهر في دقة الإصابة، وثقافة الرمي الغريزي في حقل الموت.
عندما يحتدم النقاش مع ماهر، وبنبرة العارف ببواطن الأمور ومعرفته بمطبخ القرارات وكيف تؤخذ، يقول واثقاً مبتسماً : ما تنسى انا "ابن الداية"؟ فأجيبه: وغيرك ليس "ابن البطة السوداء". فيعلق بضحكة ساخرة وينفخ سيجارته. بحركة أفسرها انها تحوي خزين من الخفايا والاسرار والأحداث، لكنه لا يدّعي احتكارها، وإن كان لم يبح بها قط، تماماً كما احسن وصف نفسه "ابن الداية"، يعني ابن الجبهة الذي يعتبر الحرص والكتمان وإلتزم الصمت الإيجابي كواجب وطني.
يقصد في اصل الحكاية انه مثل الذي يدخل مع والدته التي تـقوم بعملية التوليد للمرأة الحامل، أو يدخل وهي تـقوم بعملها وهو ما لا يتاح لغيره من الأولاد، فأصبح المثل ينسحب عليه ويعتز به. حالات مشابهة بتجاوز ما هو متفق عليه أو موجود كتقاليد متبعة ومعروفة.
لقد أتى أخيراً، مثل ترنيمة على ايقاع مسدس، يعزف الصداقة دون ادعاء والحياة الصاخبة مثل مقطوعة موسيقية جامحة، لا يهادن في الحب والسياسة. إنسان بفوضى مرتبة كلوحة سيريالية، وبوسائل متناقضة ومتنوعة، وترك لنا صداها في كل الامكنة والازمنة، ولمحة هنا وهناك و تصادفه في المخيمات والمدن والعواصم وفي المواقع والمكاتب، كأنه يخط خارطة النضال ويرسم جغرافيا العطاء، في سبيل أن يخلق زمنه الخاص، الأكبر من منصب خاص والأعلى من رتبة خاصة، بل ان يجعل من تفاصيل حياته تندمج في حياة الاخرين، ليحقق زمنه الجماعي وتاريخه النضالي، دون فواصل ورتوش وخصوصيات، يحث الخطى نحو عشقٍ أسطوري، يتعرى في قلبه الخطر حتى الذوبان، مدركاً بعمق يقينه النهائي.
أتى من بعيد يقاتل الواقع، بسلاح الحلم، المحشو بالألقاب والأسماء الهامة، يتفيأ بظل أكبر حالمين في تاريخ الثورة الفلسطينية، الحكيم والوديع، وقد تربى وشَبّ وكبر في كنف الاشقاء القائد أبو ماهر اليماني والشهيد محمد اليماني وبرهان وأم مازن وابو اياد وظل رفيقاً في حياته للعديد من الشهداء الذين تشارك معهم ذات يوم، المعركة او الطلقة او اللقمة او جلسة صفاء ونكتة ومقلب مضحك وساعة حب و لحظة فرح ومنهم الشهيد والمقاتل والفدائي.
ثم عاد ثانية… الرصاصة لم تستطع النيل منه لكثرة ما راوغها، إلاّ أن ّ الموت استقوى أخيراً، وبقدر ما كان قوياً مكافحاً في وجه الألم، كان الفراق لئيماً وخبيثاً؛ يقيناً أنه لم يسكت على ضيم رغم أنياب الوجع، فقام برَدِ الصاع صاعين، عندما انساب من بيننا وتسلل جسداً الى التراب، ثم ارتفعت روحه لتحلق عائدةً الى حبيبته، التي ظلت تنتظره وراء الغيم، وعلى بعد طلقة وغربة ونكبة، تماماً مثلما انهى "ماركيز" حكاية "أجمل رجل غريق في العالم":
( ..ويقول مشيرًا إلي الجبلِ الذي ينشر زهورَه الورديةَ نحو الأفق وفي كلّ لغاتِ العالم: "أنظروا إلى هناك حيث هدوء الريحِ وحيث ضوء الشمس. هناك هي قرية إستبان..!")
وماهر يرقد هناك حيث ضوء الشمس وحيث "سحماتا" الباقية في الحلم والوطن!
*الصورة لماهر اليماني في طابع بريدي اصدرته الجبهة في السبعينات من القرن الماضي.*
تعليقات
إرسال تعليق