ميدوسا": خِزَانَة تَجْر الْبِلَاد اليوم الثامن





اليوم الثامن
قصة :  مروان عبد العال  15/05/2020 
:لوحة لموفق قات

العروس التي أدمت أشواك البراري قدميها ؛ هي ذاتها التي فتنت قلوب الرجال في أرياف الجليل ، مذ كانت تلعب على عين ماء أو فوق أرجوحة معلقة على غصن شجرة الخروب في ساحة البلدة ، تنمو وسط بيارات اللوز وتظل تنساب كساقية ماء على حافة الطريق الترابي ؛ تنتظر فارسها الملثم بكوفية سوداء ، مال قلبها إليه منذ عرفت أنه واحد من رجال معركة القطمون ، وقاتل في عملية الريس ، ومازالت تحفظ عن ظهر قلب الاهازيج الشعبية لشاعر الثورة نوح إبراهيم . تلمح بطلها يمتطي سرج خيل ، ويأتيها كالصهيل من بعيد ، و يتقدم بين السنابل رويدا رويدا .
 "دخل اليهود إلى القرية ، فخرجت "وفية" زوجة "فهيم" لترى ما حل بالبلد،  فتحت باب الدار . شاهدت اليهود في ساحة الجامع ، صرخت بأعلى صوتها : هاتوا "الشحار" و"شحروني" ! ! وفارقت الحياة . " هكذا وصف موتها في (سفر أيوب) و ما حدث في الغابسية ، يوم وقعت في قبضه الغزاة ، اقتحموا بيوتها ، قتلوا أكثر من شاب على حائط الجامع ، والدتها المفتونة بجمال ابنتها ، كانت أول من لبى النداء ، واستفاقت مذعورة على تحذير قلبها من أجل حمايتها ، ركضت باتجاه فرن الطابون و وضعت يديها في الرماد الأسود ، وثم دهنت وجهها الجميل بالشحار الأسود . لا تريد لثوبها الأبيض أن يتلوث بنزوة مهووس يلوث نقاء وشاحها العنابي المطرز بخطوط حمراء ، وجهها الذي يشع كالضوء ، صبغتها بالشحار ، لا بد أن يغوص في السواد ، كي لا يراها العدو جميلة ، خافت أن يخطف الغزاة جمالها في عين النكبة . لا تريد أن يسرق سواد النكبة وجهها المشع كالبدر .
عندما تولد فتاة هناك ، كان يقاس جمالها بها ، إن كانت تشبه "وفية الغبساوية" ، توصف بأنها أميره الحسن والجمال ، ذات الشعر المنسدل الطويل كأذناب الخيل والعنق البائن ، والعيون الواسعة الأشد خطرا على القلب والوجه الأبيض المخلوط بحمرة . كانت تفيض شبابا و كل شي جميل يتحول إلى سبب لمحنة وشقاء ، فجاذبيتها صارت تغري كل من أراد منها وترا ، فكيف سيكون الأمر إمام الغزاة ؟

 يسأل نفسه كيف قتلت " وفية" بضربة فاس ؟ ظل يؤنب نفسه ، لماذا لم يفلح في إنقاذها ؟ كان يحارب في ناحية ليست بعيدة عن البلد ، كلما تذكر ، تلوكه الحسرة والملامة ، ظل هكذا مدى العمر . لقد ذهب الرجال و لم ينقذها أحد ، ماتت بين شجيرات بلادها ، وصارت تنبت بين الحشائش كأزهار البرقوق تفيض جمالا كل عام . يخالها تحدق حولها ثم تستدير لتسقر نظرتها في عينيه ، كلما تقدمت خطؤه تزحف وراءها ظلال الأشجار واشباح القرى المدفونة والمهجورة وتجوب بيارات البرتقال .

قرر أن يأتي بالخزانة وترافقه بدلا من العروس ، فقد يطول الرحيل ، سيحملها كذكرى قد تواسيه بكل ما تحتوي من عطر ثوبها ، ولا يريد لأحد أن يمسها بعده ، دفن العروس وفاز بالخزانة ، قال : لن أترك السرج أن خسرت الفرس ! ثيابها المزركشة وثوبها المطرز وشالاتها المزينة بالفضة ، وخلعه عرسها وهدايا أغدقت عليها في زفتها .
لم يكن يدري ما جرى للخزانة ، بعدما أمره جده شيخ الغابسية الأكبر ، بدسها في خابية تحت أشواك العليق ، عند شجرة مباركة ، يسكنها ولي صالح ، لذلك كان يطلق عليها "ستنا السدرة" وإن فيها ملاك سيحميها ، بعدما أصابته رصاصة في ذراعه اليمنى ، وافق رأي الشيخ الأكبر ، و رمقها بنظره وداع ، و جلب منها بعض ما حلا له من ثياب ، ولف ذراعه المجروحة بشالها العنابي ، ومضى مع الجموع يجرجر خسارته وخيبته وجراحه إلى الخيام خلف الحدود ، ظل حزينا في المخيم ، على رفيقه عمره وخزانتها والبلد.

وقعت الخزانة في قبضه العصابة المهاجمة ، حملها أحد الغزاة معه كغنيمة حرب ، يوم هاجم بلده الغابسية ؛ ووضعها في غرفة داخل بيته الذي سلبه من أصحابه قبل أشهر ، كان يعتز برونقها وميزاتها التاريخية المحفورة فيها كغنيمة حرب . لكن اكتشف أن شيئا ما في حياته صار يتغير ، و ليله لم يعد مريحا ، لكثرة تزاحم الكوابيس في رأسه ، وفي كل مرة يرى خيالا يحوم حوله ، بهيئة امرأة ترتدي السواد ، تهمس في أذنه أنها تقوم بزيارته ، وأنها راهبه في كنيسة الفرانسيسكان و في قلبها تسكن قداسة مستمدة من أمها الأولى عيناه الكنعانية والثانية مريم المجدلية ، وإن لم يصدق ليذهب إلى جبل الكرمل ، ويرى عائلتها تسكن تحت سقف طيني في وادي المغارة .

صار يرتعش كلما شاهد الظل الغريب يتسلل خلفها ، يشبه تمثالا اغريقيا ؛ تقول إنها جاءت من ليل كنيسة القلعة ، حتى لا يتبعها العفريت في اروقة المعبد . صار يتخيل أن هذا الظل الغريب يطارده ، حينما يخرج كل ليلة من الخزانة و يمر سريعا ، ثم يلوذ بالفرار و يختفي ، وتظل حيطان الغرفة تقطر ماء ؛ ثم يصرخ الظل في أذنه بصوت كالرعد : أنا إله البحر أخرج من هنا !
لم يعد يطيق الخزانة في الدار ، قرر منحها لوالدته التي ما إن أدخلتها حجره البيت حتى أصيبت بسكتة قلبية ، لحظة وصول الخزانة إلى منزلها سمعت نعيق البوم . وتتالت بعدها الحوادث الغريبة مع الخزانة ، ، أعجب جارهم بالخزانة ، فطلب منه أن يأخذها معه فورا ؛ ويريحه من لعنتها ، لكن بعد سنة احترق ابنه داخل دبابته أثناء رحله غزو في البلاد.
هذا فأل شؤم و وهذه لعنة الخزانة ، قالها وقرر التخلص منها ، في سوق الانتيكا العتيقة في مدينة عكا ، و لكن مشتريها دهسته سيارة بعد أسبوع ، فأخرجها من البيت وركنها على زاوية الشارع ، فصار لها مالك جديد ، أعجبه طرازها العثماني فأعاد ترميمها من جديد ، رغم أنه وجدها فارغة تماما ، إلى من بعض الايقونات المعدنية التي تزين حواجب بوابتها ، حتى إن مالكها الأخير ، اكتشف أنها تصدر اصواتا غريبة ويسمع وشوشات غير مفهومه ، قيل إنه أصيب بمرض جلدي غريب .

ذهب إلى مجلس الحاخامات وطلب باستحضار روح "ميدوسا" التي تسكن الخزانة ، ويسألها لماذا تحولت إلى مسلسل يومئ رعب ؟ مجلس الحاخامات رفض استحضار روحها ، وقرر تحويل عاشقها وأخواتها إلى غرباء ، وإن تهجر جبل الكرمل . وإن يصبح وجه ميدوسا الجميل شيطانا لعين ، وينقلب الشعر الكثيف إلى ثعابين متلوية غاضبة ، والعينان العسليتين إلى مصباحين أحمرين ساطعين ، وهنا المشكلة . المشكلة كانت في العينين ، بل قل الكارثة في العينين . فإذا نظرت ميدوسا وأخواتها إلى مخلوق بشري يتحول فورا إلى تمثال حجري هكذا بدون مقدمات !
كثر الحديث عن مصائب خزانة العروس المسلوبة ، وبدأت المجالس في البحث والتمحيص عن أصلها وفصلها ، منذ إن قام بسحبها من المخبأ تحت الشجرة المخيفة . صار كل فرد يروي كوابيس غريبة تراوده ، أكثرهم تحدث عن رأس امرأة يطارده في المنام منهم من قال يشبه " رأس ميدوسا" والجميع يؤكد أن الخزانة السبب ، وأنه لحظة دخولها بيت جديد يبدأ صاحبه يشعر أنه يسكن مدينة اغريقية ، ويسمع صوت حسناء ساحرة الجمال تستجدي الآلهة (أثينا) أن لا يكون سحرها سببا تعاسة لغيرها ونكبة لقومها ؛ وتطلب يتحول شعرها إلى ثعابين مرعبة ، تخيف الناظر إليها من الرجال وتحيلهم إلى حجر . كما كانت تشير الأساطير الإغريقية أن "ميدوسا" أيضا كانت مثالا للجمال.
أوصى مجلس الحرب الأعلى في البلاد بضرورة معاقبتها بعقاب فريد يساوي النفي الأبدي ، وأن تقع عليها لعنة الشتات الأبدي . يدوسا تطرد إلى جزيرة مجهولة في البحر الأبيض المتوسط . وهناك أقامت مخيما لها . قيل إن كل البحارة الذين مروا بها تحولوا إلى تماثيل لا حول لهم ولا قوة . صارت ميدوسا تكتب حكايتها وتؤرخ كل كلمة سمعتها من والدها وأجدادها . . كلما مر بحار تخبره قصص البلدة وناسها وما جرى لهم . كأنها تعطي لكل بحار صفحة من الرواية ، حتى صارت شاهدا على نكبتها . . . صارت عارا لا بد من الخلاص منه .
ما الحل ؟ من يقتل ميدوسا ؟ أيضا كعادة الإغريق وأساطيرهم التي لا تنتهي ، كان لابد من وجود خائن يتعلق في غرام مع ابنه الحاخام الأكبر ، حتى يوافق على قتل ميدوسا .
لم تمت حكاية " وفيه " الغبساوية ، يرويها النسوة في المخيم وهن يلبسن ثوب النكبة ويحكن الصبر كخيوط لا نهاية لها ، يفصلن من كيس الطحين حقائب مدرسية لأطفالهن ، كم حرب مرت على المخيم ، وشالها المبلل بقطرات حمراء معلقا على الحائط .

 
الخزانة مسكونة من قبل أحد عفاريت ، كان يخاف أحاديث الجن وهو في القرية ، كان ذلك أيام الطفولة حين قيل له أنها تسكن في وادي المجنونة ، ربما كانت والدته تستخدمها كحيلة كي لا يغيب هناك ، وحرصا على حياته من أفاعي الوادي .
بعضهم يقول إن هذه العفاريت تعمل بإذن من شيخ الغابسية الأكبر ، الذي وصفه اتباعه بأنه شيخ الحقيقة البيضاء والطريقة السمحاء و الحصن الحصين ، يجبر المنكسر ، ويعالج المريض ، ويصل الرحم . يستطيع تسخير الثعابين كنوع من الكرامات أسكن الجن الذي كان يقيم في جذع "ستنا السدرة " إلى داخل الخزانة ، كحارس آمين ريثما يعود الحق إليه ، ويرجع أصحاب البيت إلى بيتهم .
لكل حرب يتامى ، بعضهم قد يتحول إلى روح ، ومنهم من يتحول إلى حجر ؛ لذلك امتشق أولاده السبعة السلاح في سبيل إستعادتها ، ثلاثة منهم استشهدوا على طريق العودة ، وأحفاده على وعد أسطورة الرأس المقطوع ، رأس ميدوسا الرابض في الخزانة ، ظل يناديهم ، والأم وفيه تنتظر ، أما العروس ستظل تنظر نحوهم من وراء الأفق ؛ لن يتوقف قلبها عن النبض ، فالشرايين ما تزال حارة ، لن تجف هي الأخرى أو تتكلس . بعد شتات طويل ميدوسا تفجر ينابيع اشواقهم و تأخذهم إلى هناك.

صار الغربة تتلاشى وتمارس غروبها خلف البلاد ، صار كل شيء يستعاد حلمه ونبضه وشغفه . حالما رأت أقدام وفيه تدنو من شاطئ عكا ، احتشدت حجارة الجليل في تظاهرة غريبة ، تتسرب الجموع من الأزقة و الدروب وتموج الحجارة في الشوارع ولسان حالها يقول : بين "ميدوسا" و "وفية" ، جمال مطارد الغياب ، وروح اسطورية لم تفارق جذع الشجرة المقدسة ، يتلاعب الحنين بشعرها الكثيف المائل إلى لون التربة ، تلمع في عينيها العسليتين عشق أبدي لا يموت . حسناء لا تساوم على حريتها ، مهما بلغ ظلم وعبث وجنون شهريار ، ولن تقدم نفسها قربانا على مائدة آلهة المعبد ، تكتفي بخبزها كفاف يومها و حفظ أصل النوع و سر البقاء .

أذيع مؤخرا أن جنرال عجوز متقاعد ، قام بمساعدة بعض الحاخامات ، بإخفاء الخزانة للأبد ؛ ظنا منه أن الجني الذي يسكنها لن يؤذي أي أحد بعد الآن.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر