بعد العشق والجنون، والزّمن بكثير




ما قيمة الكتابة في ذروةّ الجنون؟ سيهزأ الزّمن بضحكته الصّفراء، من بوح الكلام في زمن استباحات همجيّة ، تستعيد من تاريخ داحسنا وغبرائنا، تجري في مكان وكأنّها في كل بيت، نتمزق كقطعة قماش بالية. الحوار يدور بلغة أخرى، حوار طلقات، طاولته الحارات وأمامه بحر بلا سفن، وخلفه احتلال يفتح ذراعيه، ملاذاً لحوار ينتهي على طاولة العدو كي تبدأ مراسيم الاحتفال بالبيان الختاميّ.
ذاتنا تذوب، فلسطيننا تتحوّل إلى زغبٍ في الرّيح، كما النّهار. يجرحني بانسحابه القهقرى وهو ينسلّ مثل حبيبات الماء، طرده المكان من كلّ الأمكنة. صار زمنًا يتسكّع فوق أرصفة الشّوارع، زمن لا تحتويه جغرافيا، يتلاشى من بين ثقوب الفضاء. تبثّه مداخن القاطرات كالأبخرة السّوداء على صفحة الأزرق.
الزّمن المجنون ، وأنا هارب منه إليه، مثل ساعة حائط ، لا تعلّق إلّا على فراغ ، عقاربها ترتعش على ثوب المساء ، قرّر الكأس ساعتها أن يخلع نعله وينكسر...
عفوًا أيّها الزّمن، في محكمتك الميدانية، سأعترف بكل ذنوبي، بأني حاولت الإمساك بطرف المساء فسقط من حافة السرير، ربما تحطم الجدار لأني قررت تحدّي سطوته وأن أصعد السلّم بلا أدراج.
ذنبي، أنني مثل القلب المهجور يفتح بابه على مصراعيه، يسرق من وحدته خطوة تتجاوز الوحشة ويوزع كسراته على مائدة مجانية ،لأن بيننا قرع جرس الباب وتسلل من خلف الثّياب وغرف مشتّتة نعبرها على جسرٍ ثقيلٍ.
بعد زمن يطاردني الزّمن، لا أدري لمَ يصلبني على سحابة، هل لأسقي أرض القمر؟
رسمت هويتي على ورق البردى طريقًا للحضور ، دربًا لا نهاية له، سارت عليه أقدام الكلمات ، أناملي التي زحفت نحو مشاعل تشع في بئر الروح، تلامس شفاه الزّهر وترتشف الندى عن عشب لا يحتشد إلا فوق ينبوع.
كسرت سطوة الجدار، كل لوحة معلقة هنا فتحت نافذة علها تخترق المكان إلى زمن ما، اخترعه كسعف نخيل في واحة الظّلال ، من صحراء المدن يولد السّرير الرّاقص على امتداد الحلم ، يتمدد خارج الغرفة المقفرة، يفرد ريش طاووس يختال ببريق الكلام، كي يصير جناحًا يعبر بنا من مساء يتلألأ إلى زوايا الليل.
بعد أن قرر الزّمن بفتوى جاهلية ، أصدرها بمرسوم حكومي، أن يمسكني من رموش العين ،ويضع صمغا لاصقًا على شفتاي ويرتمي بثقل يتسربل في حافة قميصي الخارجة من شرفة السّروال، يرفض ذرائعي بعقوبة التجاهل، فقد خالفت أوامر صاحب الأمر.
بعد زمن ،سأفجع بإحساس لقيط ، يبقيني معلقًا بين الميناء والسّفر ،بين تهافت على شقفة وطن رسمته أقلام الرصاص على ورق أصفر، وحملته الريح في غبارها الرملي وتفاهة الاستبسال في تقطيع الأوراق كمن يملك سلطة على سلة المهملات .
وبين حائط انكسر وحائط يكسرني، بين شتات النهر الذي يتوزع في وديان مجهولة وتجري نحو اللامكان وبين خطاب لفظي لا يقوى على حشد الجداول المتشعبة كخيوط عنكبوتية على زوايا الكون.
سيسخر مني الزمن وأنا أسابقه و أصر على اللحاق بعقرب الدقائق كي أصل قبل الهدف ولو بقليل ، وأحتفظ لنفسي بما بعد العشق والزمن بكثير.
زمن يسافر فينا ، يشهر سيف الفراق ويكحلني بعينين تخرج منهما غيمة ، مشبعة برذاذ يشير إلى دمع قد جف في المآقي وإلى نعاسٍ مزمنٍ، يختفي تحت شرشف الرّموش المغمّسة بالأرق.
يسألني الزّمن مستغربًا :
" كيف استطعت النوم على وسادة بلا سرير ؟ ألا يفقدك شروط الاستسلام لسلطان النوم ؟ "
قد يعرف بعد زمن، جاهل الزّمن، إن الأنفاس الحرة تقرع كجرس، ويصير الحلم وطنًا، تصنعه إرادة الحالمين، حلم لا يمر برقابة معبر ولا يندس بين بضاعة التهريب في نفق نصف شرعي، ولا عن توأم سيامي ينفصل بعد أن تنهشه الأمكنة، حتى يدرك الحقيقة بالسيف ،سيكون الحق في ردهات الزمن وتطارده وتبحث عنه فوق رصيف مسحته الأحذية في رواق طويل، ستجد في نهايته أناس يصلبون أحلامهم على خشبة من شجر زيتون مقدسي ونخالهم تلك العيون التي سئمت الليل فنامت عن ثعالبها بلا ماء أو مساء.
بعد زمن سيغوص الزمن مثل وجه حائر ،يستدير نحو كل المرايا، ولكن لا يفلت من عيني.
بعد زمن سيدرك معنى، أن ينتحر الزمن، ويذوب كالسفن في غياهب السفر، سيبحث عن جسدي في منجم حجري، عن خبايا الروح الدفينة، كنوزها المعدنية التي لا تعرف الصدأ،
زمن سيفر بجنونه خلفي ، يبحث عني في مخيمات " بشريـــــــــــــــة " بدل " الدون بشريــــــــــــــة "، في بلاد حاتم الطائي وقد توالدت على ضفاف نهر الأمازون، تجد هناك شعبا جديدا يرقص السامبا في كرنفالات الألم، ويرجم السائحين بحبات الجوز، يضاهي القرود الهندية في اعتلاء أغصان الشجر.
بعد زمن تنتهي صلاحية الجنون، يستعرض بقايا من خلايا العقل ولن يتعرف على جيناتي الوراثية خبير الجثث وسيفسد مفعول الشوق على واجهات المحلات وستكتفي بحقيبة من ندم ،وعلى عجل، نوضب فيها ملفات من القبلات ونحفظها مونة شتوية في أدراج السماء ،
لن تمسك بي لو كنت زمن ما...... في وطن ما..... ومكان ما، لسنا جرادا في أيام القحط ، فنحن سر الوفاء بين الوردة وعبقها ، هي مثلي تغترب عن تربتها وما عز عليها أن تفارق عطرها، كيف للحصى أن تنسى خرير الماء.....؟
أجابتني قصيدة لشابة تنزف منها القصائد من عمق الجرح وزمن الجنون، أيضا تعشق المكان وان كان العشق لمن في المكان أصلا ،وتذكرني بأنها حجارة نهريه ، وتمارس طقوس تشبه عشق الحصى لمياه النهر، وفي مقطع منها قالت:

أحببت القاع/ ألأنني ابنة الماء/ ولأنك أيها الهواء/ لا تحتاجني
أحب القراءة من أسفل/ حيث تنتهي الأشياء/

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء