. وهكذا ولدت شواهد الكلمات



لكم هديتي.
مزنرة بحكاية عبرت النهر.
معطرة بحاسة مرت من هنا.
صبيحة عيد الأضحى . كنت أتعطش للقاء مبهم بوقائعه, لم أحلم به يوما, ليس مع الاطفال يلعبون لعبة الحاجز على مدخل ما تبقى من اللعبة والمخيم, بل لقاء بكر لعلاقة قديمة. مع مقبرة المخيم الشهيد بفرعها الجديد . تلقيت حينها خبر ولادة الروايه. ولادة تلقيتها على المقبرة, هي صارت على الأرفف تنتظر القراء وأنا اسير في حشر العيد مشاركا لانسياب دموع الناس. دمع السؤال الجارح, علام البكاء على صمت الشهداء , ذاك الشاهد تحت الدمار أم على الصمت المميت في عمق الأحياء؟ أم يتململ كالفينيق من الاثنين؟
زرت المقبرة بتصريح مسبق, تدخلها صباحا وتغادرها منتصف النهار . صاح " بلال" الفلسطيني في الجمع المخيمي صبيحة العيد. للشهداء ناداهم بأعلى صوته " سلام عليكم أيها الشهداء". أحسست لحظتها أن شواهد القبور المحطمة قد نهضت, ارتفعت كشواهد للكلمات المكبوته , والتفت نحو الأحياء وهتف بصوت إخترق خوذات صف الجنود على طول وعرض المقبره:" يا أهل المخيم من يريد الموت ليفعلها الان, توقيت موتكم حسب التصريح, قبل منتصف النهار, لا تموتوا بعد الظهر, غير مسموح لنا أن ندفنكم, فلا تحرمونا من أجركم".
لم يكن هناك فرق كبير بين البيوت والقبور,سلخ جلدها ونهش لحمها فبدت هياكل عظمية تنتصب مكبرة للعيد وخشوعا للقاء , مكان العين مجوف بعمق, ربما كي لا ترى ما يحدث لكنها وحدها تخرق حاجز الصمت, تراقب كل خطوة وزيارة وتجاوز , تذهل من طفل حضر لزيارة ضريح جده , لم يسمح له الخول على بعد أمتار , فقد تجاوز الوقت المصرح للزيارة, الطفل لم يتألم حتى لو أعلمه السبب بأن المقبرة منطقة عسكرية. نده للجندي وقال: على كل حال أن ذهبت من قرب ذاك القبر , فلا تنسى أن تسلم على جدي وتقرأ عليه الفاتحة بالنيابة عني!
صرخة " بلال" الفلسطيني كأنها دعوة لالتقاط الوقت, أو القاء القبض على معنى الحياة, حياة عابرة للمقابر وربما حلم عابر للشهداء .شعرت أن الحواس البشرية تعني شيئا بلا حاسة الزامية هي الإستثناء, فالمخيم كان ولم يزل بالنسبة لي هو الأستثناء, مثل حاسة اضافيه يمتاز بها الفلسطيني عن دونه. حاسة لا تتكرر في الحواس الخمسة. حاسة حارة ممزوجه بخليط من أحلام وذكريات وأمال وقلق وتوتر جميعها مبتكرة بتركيز شديد داخل طقوس غريبه , وكنت دائما أحاول الغوص في أعماق هذه الحاسة, محاولا إعادة صياغتها وتركيبها وترتيبها بوسائلي الخاصة, كنت متلهفا لصناعة حاسة غضب وثورة وتمرد , كي أعبث فيها كمعجون الاطفال, أعجنها وأحاول ترتيبها على هواي.
لغة خرجت من تلقاء نفسها ومن بين ثياب الكابوس الفجائي, فأحسست أن شيئا قد تبخر من يدي وان حاسة التمايز مطلوبة للعدالة حية أو جثة يتم محاكمتها بعد انهاء الفحص الجيني عليها , وشاهدتها تلقى في العناية الفائقه. لم يكن أمامي الا أن أستل القلم في وجه الألم, عودة للأصل في تأكيد يلح علي بان آية الثورة كذلك تبدأ بالأمر الحرفي< أكتب> . لذا عدت كي أطلق الأحرف المشتعلة بالحبر البارد فوق الصفحة المفتوحة أمامي كمن يرش الملح فوق الجرح.
أطلقت روايتي بتوقيت صرخة " بلال" على مقبرة الشهداء صبيحة يوم العيد في تصريح محدد ومسبق. عبرتني الكلمات خفت أن لا التقطها. مازلت الهث وراء حاسة هاربة. وأنا في حالة جريان مستمر لم يتضح فيه المشهد بشكل كامل , كأنما الانسان نفسه والابطال والمكان والحلم يحتاج لعملية ترميم, الرواية ارتبطت بمكان وبحدث كان أشبه بعملية قتل للمكان نفسه لكن المكان بشكل أو بآخر هو صورة الجسد الذي احتوى لحم ودم أيضا. وكانت الروح, روح المكان تنبض في تنفس تفاعلي تحويلي يفجر داخل النفس ذاك الإنبعاث ألاكثر فظاعة في مسيرة الروح الحسيه, وفيها كنت أكتب بأعصابي حيث تأججت نار داخليه أكثر حرارة من النار الخارجيه, بينما تكفلت الاولى بالتهام المكان وتفاصيله الطبيعيه والجسديه تكفلت الثانية بأشعال المخزون الروحي الجمعي . من سحل للذكريات وسحب لسلاح الحلم من داخلنا.
ولادة على لحد في عيد وموت في مهد ؟ انقلاب تفيح منه رائحة المخاض المجبولة بوحل الارض وشرشف سرير كان يوما هنا ! لذلك هي سرد داخلي يبدأ بأسئله محيره قد يكون مظهرها يوحي بالسهوله ولكن باطنها يفصح عن إحتراق ممتنع و مميت ومتوتر. أستعدت البداية فوق الضريح, ذاك الممدد بهدوء, يردد خلف ما كتبت, لماذا المرأة في ظل إحتراق المكان تبحث عن سرير؟ ولماذا سرير ؟ وأي سرير ؟ لا يوجد أكبر وأصعب وأثقل من سؤال معلق. أو سؤال يدور في حركة لولوبيه, كأنه حبل مشنقه يلتف بطيئا طريا كالقطن حول العنق. هكذا كان البناء أيضا يسير في حلقة متصله في عملية بحث جماعي عن البداية, أو عن النهاية. أي ذات من ذواتها المقسمة الى فصول تكون هي البداية و النهاية . من يدري؟


بمناسبة توقيع رواية حاسة هاربة
جناح الفارابي _معرض الكتاب العربي والدولي_ بيروت_ بيال 25/12 /2007

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء