دراسة نقديّة لرواية:‘‘ حاسة هاربة‘‘


دراسة نقديّة لرواية:‘‘ حاسة هاربة‘‘
( الصدى الحزين لجرح مخيم)
انتصار الدنَان*


رواية حاسة هاربة للروائي مروان عبد العال الصادرة عن( دار الفاربي) تعتبر من الرّوايات الّتي تحمل بين طيّاتها عدّة قصص ، الغنية بتموجات روحيه ، عكست بمجملها وجع انساني في غاية العمق، ونزفت كلمات كأنها صدى لذاك الأنين الحقيقي والمسموع لآلام الناس الذين وقعوا في قبضة الحدث الكبير.
تمكن الكاتب من التقاطها وتصوير الغضب الجماعي ، بأن ملامسة الجرح الطري، مثلما ملحمة‘‘ الالياذة‘‘ الأغريقيه ، قد صورت قصة الحرب بين أسبارطه وطرواده ولكن من غضب (أخيل).
فأن‘‘ حاسة هاربة‘‘ من قلم يسيل بالغضب في لحظة الموت استطاع ان يسجل بواقعيه تشبه المستحيل صورة ووقائع واختلاجات الحرب ومن عايشها. لذلك نقل الكاتب تفاصيل وحكايات ورصد تفاعلات نفسيه في قوالب حكائية ، مأخوذة من الواقع الانسانيّ الّذي يعيشه الكاتب ،فنجده ملمّا بجميع أحداث قصصه الماما شاملا ،فقد اكتملت
عند الأديب عناصر القصة ،ان من حيث الأسلوب واللّغة ،المكان والزّمان ،والواقعية التي استطاع الكاتب

أن يصل إليها مما كان لها السّبب الكبير في نجاح مجموع القصص الموجودة في الّرّواية
، والذّي أدى الى

تميّز الرّواية بالواقعيّة هو معرفة الأديب لوسطه الاجتماعي معرفة كاملة ، وشخصيّاته المأخوذة من هذا

الواقع ، حيث نراه يتكلّم بأفكارهم ،يحس باحساسهم ،يتحاور معهم بطريقته ،فهو لا يجعلهم يتكلّمون في

القصص بشكل مباشر ، فنراه هو الّذي يتكلّم ويحاور ، ويعبّر عما تختلج به نفوسهم .

فهو ينقل لنا صور حياتهم المعاشة بأسلوب سلس ،مرن ، بعيد عن التّكلّف واصطناع اللّغة ، فهو بذلك يكون

قد نجح في أن يؤدّي خيوط تفكيره ،و أحاسيسه بشكل دقيق .

فنراه يروي لنا أحداثا جرت وتجري دائما ،حيث نراه يضع اصبعه على وجع آلم صدره ،ألا وهو الّلّجوء

الّذي هزّ كيانه ، وكيان شعب بأسره ،يحمل بين ثنايا روحه جزءا من همّه ، وكيف لا وهو الرّجل السّياسيّ

المعروف بمواقفه السّياسيّة الّتي تكمن في الدّفاع عن حقوق شعبه حتّى الرّمق الأخير .

شغله دائما همّ التّفكير بأزمة شعبه وحرمانه من أرضه ، وحتى حرمانه من أن يكون لاجئا في المكان الذّي

لجأ اليه أهله واستوطنوه بدلا من الوطن الحقيقي استوطنوه موطنا مؤقّتا بديلا حتى تتسنى لهم العودة الى

الوطن ،فيتبين لنا ألمه من خلال قوله :

"يتصاعد خفقان القلب لرحيلها .يدقّ قلبي كقصف عشوائيّ . والمرارة ترتدّ نحو الحلق كقذيفة قاتلة " .

فهو هنا يضع بين أيدينا مرارة عاشها وشعبه طيلة سني عمره ، فنراه يعبّر في مجموعات من الألفاظ
والتّموّجات الصّوتيّة عن أحاسيسه وأفكاره بطريق غير مباشر من خلال شخوصه الأدبيّة المنتقاة من أرض

الواقع ، وقد استطاع الأديب أن يعبّرعن شخصيّته في هذه القصص ، الشّخصيّة القلقة المتوتّرة دائما

،وكيف لا ،فهو اللاّجىء دائما من منفى الى منفى ، ومن مكان الى مكان ،بين همّ هنا وهمّ هناك .

همّ فلذات الأكباد ،همّ الأهل ،الأصدقاء ، أهل الوطن ، وحتى حجارة الحوائط كان مهموما بها .

فنرى هذا التّوتر وهذا القلق واضحا من خلال كتاباته المتأتية من الواقع الّذي يعيشه ،فهو يكتب في

موضوع ،ويعبر عنه ، ثم ّيتركه الى غيره ليكتب في موضوع آخر ، ومن ثمّ نراه يعود الى موضوعه الأوّل

الّذي كان يتحدّث عنه ، ولاستكمال فكرته ،ليشرح ،ويعلّل ، ويحلّل الوقائع الاجتماعيّة المعاشة ، فهو يعبّر

عن حالة القلق والتّوتّر اللّذين يعيشهما ، فالمخيّم في حالة حرب ، توتر ، قلق ، دمار ، نزف ، دم ، رائحة

الموت في كلّ مكان ، أهل المخيّم شرّدوا ،فهو أيضا يحمّل نفسه جزءا من المسؤوليّة . وكأن عبد العال أراد تأريخ الحدث (المأساة) وكذلك النقد الجرئ الذاتي ، غاضب ولكن يعرف بوعي موضوعي لما خلف الحدث.

ونرى حالة القلق من خلال قوله :" استرسلت الأسئلة ".
" لم أخلد للنّوم في تلك اللّيلة المرعبة من قصف الأسئلة والحيرة والنّار المشتعلة في كلّ مكان " .
فنراه قد خاصمه زمانه ، وأرّق السهاد مضجعه ،حائر من هول المصيبة الّتي أودت بالمخيم من تدمير ،

وقتل ، وتهجير .

ونرى أيضا بأنّ الأديب يخرج عن حدود الواقع الملموس ، فهو يتغلغل فيما وراء هذا الواقع من حقائق

نفسيّة وانسانيّة .

فنراه عالما نفسيّا ، يعلم ما تختلج به نفوس شخصيّاته بكلّ تقلّباتها وانّفعالاتها المكنونة داخلهم . ويصوّر لنا

ذلك من خلال استخدامه الصّور البيانيّة ، من استعارات وتشابيه ، ومجاز ، ممّا ساعده على بلوغ ما صبا

اليه . فهو فنّان بارع في تصوير شخوصه خارجيّا ، كذلك استطاع أن يكون فنّانا بارعا في تصويرهم

داخليّا وبدقّة ، بتحليل نفسيّاتهم ،وتفكيكها ، وذلك بتطويع اللّغة المستخدمة في التّعبير عن ذاتهم ،وبراعته

في استخدام الصّور البيانيّة التي تكون بمثابة الألوان للوحة الفنّان
فهو يقول : " كأنّها نداء السّرير النّرجسيّ "

" تهتزّ الصّفحات فيه ، كجسد ينتفض تحت ينبوع بارد " .

" غافيا على سرير عينيها ، تحملني في سرير القلب كغزالة تسابق الرّيح " .

ونرى أنّ الواقعيّة في مجموع القصص الموجودة في الرّواية حضرت في المضمون والقضايا والأوضاع

الاجتماعيّة الّتي استطاع الأديب أن يظهرها لنا جليّة ، حيث أنّه أشار في روايته الى عدّة قضايا اجتماعيّة

موجودة داخل وسطه الاجتماعي ،تنهش بهم كالنّار في الهشيم .

هذة القضايا الّتي أشار اليها هي : التّخلّف السّائد بين معظم أفراد المجتمع الّذي يعيشه ، ويسيطر على

أذهانهم ،ويتحكّم بهم : ( الجنّ و الخوف منه ، السّحر والايمان المطلق به ، الشّعوذة الّتي يؤمنون بها ايمانا

عميقا وتعتيم العقل واغلاقه على مادّة التّفكير فيه ) .

كلّ هذه الموضوعات أثارها الأديب ،ووضّحها لقرّائه ، فهو يضع بين أيديهم طرحا مهمّا ، مرضا

مستشريا بين أبناء شعبنا الّذي يراد له أن يتخبّط دائما بالجهل ، ومن هو الّذي يريد لهذا الشّعب أن ينغمس

بالتّرهات والدّجل والشّعوذة ، من يقف وراء تعتيم العقول الفلسطينيّة ،من المستفيد من اشغالنا عن قضيّتنا

الأم " فلسطين "وصرف النّظر عن حقّنا في النّضال من أجل استرجاع أرض الوطن .

الحركة الصّهيونيّة هي الّتي تقف وراء كلّ هذه القضايا الّتي تبعدنا عن مغزى الحياة ، فأديبنا آلمه أن يتخبّط

أبناء شعبه بهذه الأمور ، فأشار اليها من خلال قوله :

"هل أنت شيطان ، ملاك خير ، نرجوك ونستحلفك باللّه ، لقد تركنا كلّ أملاكنا وبيوتنا ، ولا مأوى لنا الّا

هذا البيت "

"ربّما هو جنّ يهوديّ "

ونراه يتعرّض لقضيّة اجتماعيّة أخرى من نوع آخر ، هي قضيّة العصر ، الّتي تغلغلت بين أبناء المخيّم

وأثرت بهم ، وأدّت الى القضاء على مخيّمهم ، ألا وهي قضيّة الرّوح الغريبة الّتي دخلت المخيّم متّشحة

السّواد غطاء لها ، السّواد الّذي جعل المخيّم في سواد الى الآن ، من أثر التّدمير الّذي حصل ، والأرواح

الّتي سقطت ، فالحجارة اسّودّ لونها بفعل القذائف الخفيفة والثّقيلة الّتي كانت تسقط عليه ، وتجعلها تتساقط


كالطّائر المفتت من اعمال بندقيّة الصّيد فيه ، والنّساء اللّواتي ارتدين السّواد رداء لهن لفعل الموت الّذي أتى

على معظم بيوت المخيّم ، فمنهنّ من فقدت أخا ، أو زوجا أو أبا ، أو ابنا ، أو حبيبا .


هذه الرّوح الغريبة أخافت أهل المخيّم ،سيطرت على عقولهم بالدّجل والخزعبلات ، بالاغراء الماديّ،

وطلب الزّواج من بناتهم ، دخلوا بالنّاس من باب ضيق الحال الاجتماعيّ والماديّ ، من قساوة الحياة الماديّة

الّتي يعيشها أهل المخيّم، وسائر أبناء الشّعب الفلسطيني ، ونراه أيضا من خلال دخول هذه الرّوح يعرض

لقضيّة أخرى وهي ضيق الحال الفلسطينيّة ،فيوجه كلامه هنا للّسلطة الّتي تحكم هذا البلد ، حيث أن

الفلسطيني ّ محروم من أدنى حقوقه الاجتماعيّة ، ألا وهي العمل من أجل أن يستطيع أن يحيا حياة لائقة به

، حيث أن الدّولة تحرمه حقوقه المدنيّة ، ومن بينها حقّه بالعمل .

فهذا الموضوع أثاره الأديب من خلال هذه الرّوح الّتي سيطرت على ألباب النّاس، ونراه يعرض أيضا

استثمارهم الدّين كوسيلة للتّرهيب والتّرغيب ، اذ أن أهل المخيّم مولودون بالفطرة مسلمون ،ومخافة اللّه ،

فكيف ان دخل عليهم قوم يتكلّمون ، وينصحون ،ويعظون باسم الدّين .

لكنّ هذه الرّوح أصبحت مرضا مستشريا بين النّاس ،فباتوا يخافونها ويرتعبون منها ، ولا شفاء منها الا

بالاجتثاث .

فنراه يقول في اشارة الى الخوف من هذه الرّوح واليها : " الخوف يتربّع على وجوه النّاس ،معظم صبايا

الحيّ لففن رؤوسهن بالحجاب تفاديا لخطر الرّوح المتعصّبة "

ونراه يذكر بعض الصّفات المتصفة بها النّساء اللّواتي يتشحن بالسواد ،فنراه يعرض لصديق قد عاشر

احداهن في مضجعه ، وقد أتته طواعية من ذات نفسها .

ومن بين المواضيع الّتي يتعرض لها قضيّة الزّواج بالاكراه من ابن العم ،أو من القريب من أجل الحفاظ على

الميراث حتّى لا يذهب الارث الى رجل غريب حتّى ولو أدّى ذلك الى القتل .

فلا يسعني هنا الا أن أذكر بأن الأديب استطاع أن يعبّر عن مضمون روايته تعبيرا بارعا ، بحيث لا يملّ

قرّاؤه من قراءة الرّواية بأسلوب له ايقاعه الموسيقيّ متلوّنا بمجمل ألوان الصّور البيانيّة الّتي تسقط نغماتها

في النّفس البشريّة ، فاستولى على النّفوس بكلماته وموضوعاته .


* مجاز في مادة الادب العربي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء