سمفونية النكبات المتجدّدة
مروان عبد العال في روايته «حاسّة هاربة» سمفونية النكبات المتجدّدة!
علي الكردي
يرصد الروائي – الفنان مروان عبد العال في روايته الجديدة «حاسّة هاربة» هول المأساة المتجدّدة التي حلّت كاللعنة على مخيم «نهر البارد» الذي سكنته «روح غريبة» زرعت فيه الموت والقتل والدمار.. ومثل سيمفونية حزينة.. تتردّد أصداؤها على شكل إيقاعات صاخبة، تتصاعد ألحانها وتعلو، وتتموّج، ثم تنخفض وتتلّوى بنبرة تراجيدية حادّة، يستعيد مروان عبد العال في روايته سيرة اللاجئ الفلسطيني في صيغتها الأكثر مأساوية، وألماً، واكتنازاً بالمعاني المضمّخة بكل أنواع الحوّاس الهاربة في لحظاتها الأكثر إشراقاً، وانكساراً، وتجلّياً، وعنفواناً، وحزناً.. لحظات تمتد في الحاضر المشرع على حلمٍ مشتهى.. وتوغل في الماضي القريب والبعيد لتستعيد ألق المعنى الذي فقد بريقه، بعد أن خلعت الفكرة رداء طهرها، وتعهّرت في سوق المزادات.. والشعارات الرنّانة.. وبعد أن باتت رهينة تلك الروح الشيطانية «الغريبة» التي سكنت جسدها، ونفثت فيه سمومها، فتناسلت قتلاً وتشويهاً ودماراً وأشلاءً حوَّل صفاء الأزرق إلى رماد كالح، وشاعرية الحلم إلى كابوس مرعب. لكأنما يرتلُّ عبد العال بسخرية سوداء مرّة مزامير حكايته (حكاية اللاجئ الفلسطيني)، التي لم تكتمل فصولها، على الرغم من كثافة ما تضمره تلك الحكاية من عذابات.. وأحلام.. وروائح.. وحواس.. ووجدانيات يتغذّى من نسغها ذاك المنفي الدائم من مكان إلى آخر.. يروي عبق أحلامه المغتالة، وانكساراته رغم إرادة المعنى، وهو يحمل صليبه على طريق الجلجلة الذي لم تَلُحْ تباشير نهاياته!لا يبدو عبد العال في صوغه نسيج روايته متشائماً.. أو سوداوياً على الرغم من مأساوية المشهد.. ولا يبدو متفائلاً ذلك التفاؤل المجاني المؤدلج، بل هو يصوغ «جرح البارد» كي تبقى الأحلام منتصبة لا تقهر، وهو في هذا السياق لكأنه متيقن أن القيامة لا بدّ قادمة، مهما اتسعت الصحراء.. أو شوّشت مساحة الضباب مسار الرؤية. ينحو عبد العال في البناء المعماري السردي لروايته إلى تقسيمها على شكل مقاطع سردية، وكل مقطع منها تنسجم أفقياً وعامودياً مع البناء السيمفوني الذي جاء على شكل حركات موسيقية متناغمة، ومتدافعة تنساب وتتدفق وتتصاعد.. وتنخفض وتتلّوى في عملية مزج وترابط يندغم فيها الزمان مع المكان.. حيث تتداخل ذاكرة الماضي بآلام الحاضر وأحلام المستقبل في استرجاعات متتالية تستدعي الحنين إلى المكان الأول في القرية الجليلية.. والحنين إلى الحيّ الجديد (المخيم) المدمّر الذي يعيد تكرار المأساة (ويالسخرية القدر) بعد ستين عاماً على النكبة الأولى وكأننا في حركة دوران أبدي في الزمان والمكان، نعيد استنساخ آلام التجربة، ونراوح في «مصفاة النكبات». سبع حركات موسيقيةيحمل عنوان كل مقطع من مقاطع الرواية، أو عنوان كل حركة من حركات السيمفونية السبع معانيٍ مجازية تكتنز بالدلالات، بعد أن تكتسي بالتفاصيل والظلال والألوان والروائح التي تنمُّ عن الروح التشكيلية الجمالية للروائي – الفنان عبد العال الذي يقف خلف هذا النص.. إلى أن يكتمل رسم ملامح المشهد. تبدأ الحركة الأولى بـ«ذات مغيب». يقول: «وُلدت هنا، في هذا الحي العتيق، في حارة النهر، حيث يلتف ذراع النهر ويلتقي مع الشاطئ في تشابك جميل على خاصرة المخيم.. نكمل رقصة » (التانغو) ونحن نعاشر حصاه اللزجة ونداعب نعنعه البري، ونستعيض عن الأصل، بنسخة منقّحة تستعيد شريط الوطن مع أجنحة النورس البحري الهاربة من الأفق البعيد، والشمس التي تغرب كل مغيب، ونحن نسأل أين تختفي خلف البحر؟». ذات روحتحمل الحركة الثانية عنوان: «ذات روح» لتروي حكاية الاغتصاب في نسختها الجديدة المشوّهة التي طالت جسد المخيم المنتهك بقوى الظلام العاتية «روح طارئة وغريبة، توسلت مأوى لها، فاختطفت جسد الحي. حتى أهله صار لهم وجه آخر». وفي الحركة الثالثة «ذات نهر» ترتسم الصورة الكالحة للخراب الذي حلّ في ثنايا الحي العتيق «لماذا استكان كي يذبح؟! لو كان جارياً يغسل ذاته من كل قرف، ومن كل ترسبات نفس بذيئة وروح خبيثة، لتجدّد واستعصى على الموت». لعل هذا المشهد هو ترنيمة نقدية ساخرة من الذات، صارمة وحزينة وموضوعية، لأنها لا تعلّق فشلها – كما جرت العادة – على مشجب الآخر، كي تهرب من مسؤولية المحاسبة ومواجهة الذات. ذات نارترصد الحركة الرابعة «ذات نار» آلام النزوح المتجدّد.. والنكبات المستمرة «علامَ أبكي؟ على الأصل الذي خرج منه جدي وحمّلني دمه واسمه؟ أم على النسخة المصوّرة التي تحترق تحت الأرجل الآن؟». ويروي الكاتب في حركته الخامسة «ذات حلم» أحلام طفولتهم الهاربة.. تلك الأحلام المشحونة بطاقة الحياة «كنا نرسم ونعبث بالألوان، ولوحات غريبة جمعتها في خزانتي كأرشيف لطفولتنا». ذات ترابوفي الحركة السادسة «ذات تراب» يطفو طعم العلقم، حينما يستحضر قريته الجليلية المحتلة، وحكاية طعم تينها الذي امتدّ مذاقه في الزمان والمكان.. «كأني لم أعاشره نصف قرن، أو لم ألطخ وجهي بترابه يوماً، لو نطق هذا التراب، لروى لي قصة القتل التسلسلي.. (..) لو صاح التراب: أنتَ مني. لن أصدقه.. فأنا لا أعرف تراباً يشبهه، وُلد من حطب النار، وتجمّع في موقد كبير اسمه الحي النهري». ذات ماءوفي الحركة الأخيرة «ذات ماء» يختتم عبد العال سيمفونيته المكتنزة بالرموز، حيث تستعيد الألحان عذوبة أحلامها: »«امرأة مشتهاة، انقرض في قلبها القلق».. «تهرب نحو الحلم» ويؤكّد: «للحلم سلطة روحية نحتاجها كي نعزز الحب وتستمر الحياة«، فالحلم برأيه »متعدّد الألوان« ولكل لون معنى، كاختصار المسافة بين الحلم والواقع، بين عالم مشتهى وعالم مستعاد، بين الأصل والاستعارة. بين أن أحمي نفسي في مكان جديد، أو أستعيد المكان الأصل ذات يوم». «حاسّة هاربة» هي رواية اللجوء الفلسطيني، وتجدّد النكبة، تختزل بلغتها الرمزية الرشيقة، المكثّفة، أحداث ستين عاماً من القهر والاقتلاع والتشرّد في بحثها «عن كف آمن وعبور من العنوان الكامل (لدياسبورا) الأحزان إلى مكان الإقامة الدائم في (ماسادا) أبدية
تعليقات
إرسال تعليق