قراءة في"زهرة الطين"
قراءة سناء دياب
جريدة البلد
تبدو رواية مروان عبد العال "زهرة الطين" وكأنها خروج على التقاليد في بدايتها، إذ بدا أولاً وكأنه يحاول إسدال ستارات على سر شخصيته الرئيسية كلما تبدى له أن جانباً من حقيقتها أصبح قابلاً للتعرية والظهور تحت "عين الشمس". فقد لفظ البحر ذلك الشخص "العديم الاسم" والمنقطع الذاكرة والمجهول المنطلق والوجهة إلى شاطئ مطر ونرجس وعائلة اللترون وسواهم. لكنه سرعان ما ارتد عن عزمه، إذ أوجد لشخصيته سبلاً ميسرة لاكتشاف ذاتها والتعريف بها وإحاطتها بكامل معطياتها في المكان والزمان والكثافة السيكولوجية وبعد الانتماء العام. لكن البداية والعقدة والنهاية لم تكن مفردة، بل تفرعت إلى بدايات وعقد ولا نهايات، اتخذت جميعها وجهة المصب الواحد، أي القضية الواحدة المتعددة، الغارقة في تفاصيل يومياتها الفردية والعامة (في إشارة بأن النهاية كانت بداية، لقد انتهى إلى بدايته ص157).
رمزية
اتبع الكاتب، عن قصد أو عن غير قصد منه مطلع ما نسميه باللاتينية "in media res " أي أنه زج قارئه في حدث ليست صفحات الرواية إلا امتداداً له. ولعله من الطبيعي أن يستوقفنا في كل مرة التساؤل عن رمزية الشخصيات والأماكن والكلمات، خصوصاً أن القضية هي الأرض والوطن، وأن الكاتب هو عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إلا أنه تطرق إلى الواقع الفلسطيني من زاوية الشرط الإنساني "La condition humaine"، إذ يبدو مواليد فلسطين أطفالاً منذورين "enfants fatals" لا مفر لهم من واقع مرير ينتظرهم.
أربعة أقانيم بنى عليها المؤلف روايته: الذاكرة والتاريخ والهوية والمكان والزمان. وهي مشدودة الوثاق بعضها إلى بعض، تتداخل وفقاً لما يمليه الواقع وخيال الشخصيات في آن. لكن لا بد من الإشارة أولاً إلى رمزية الطين الذي ذكر في غير مقام من الرواية، عدا كونه اللقب الذي أطلق على ذلك "العديم الاسم". ربما أراد الكاتب من خلاله أن يقر بأنه "لا يصح إلا الصحيح" وأن الأرض لا ريب عائدة إلى أصحابها وفقاً لمبدأ من التراب صنعنا وإلى التراب نعود.
ثابت ومتحول
الذاكرة في "زهرة الطين" هي التي تحول دون سير القضية نحو المستقبل، منتزعة من ماضيها الضامن لبقائها، لذا، تساءلت نرجس: "ماذا لو عادت له ذاكرته؟ حتماً سيتركنا ويعود لناسه وأهله". لكي ترى أنانية في أن تلغي حياته الماضية لأنه "يحتاج ماضيه لكي يعيش حاضره ومستقبله". وقد اتبع الكاتب في عرض "ذاكرته" أسلوب "السرد المعلب"، أي أن الشخصيات تولد من حافظة الشخصيات والزمان من رحم الزمان، فنذكر مثلاً أن ذاكرة وحيد لم تخرج إلى النور إلا بعدما مرت في مخاض ذاكرة "طين". إلا أن الذاكرة في علاقتها بالمكان تبدو أسيرة إذا ما كان واقعياً ومحلقة كلما أعمل في ولادته مبضع الخيال، فالمخيم "ليس المكان، (المكان) الذي قتل هو المكان الحقيقي". وواقعية المكان تتجلى من خلال الإشارة إليه (هنا يتقابلون، يستقبلون، يودعون، متيمون بالغربة وبهذه القرية الغريبة، لا يزالون ينظرون ليلاً نهاراً إلى آفاق لا عهد لهم بها). إلا أن عوالم المكان الراهن تحددها معطيات المكان الآخر، الحقيقي، ففي "زمن الانتفاضة كم بدا هواء لبنان عليلاً" قال أحدهم وتابع: "كأني خرجت من الغيتو، خرجنا من دائرة العزلة النفسية.."، لا بل كأني بالكاتب أراد أن يطرح في مجمل الرواية إشكالية المكان بين الثابت والمتحول، إذ أن الثابت الراهن ما هو بالنسبة إليه وإلى شخصياته من بعده إلا في حكم ما يجب أن يبقى متحولاً. لذا، رفض مطر أن يعرف عنوان سيف في أرض اللجوء (لا تعطني عنوانك.. قد لا يحمل معنى الثبات). ومن هذا المنطلق، تبرز المقابلات في غير موضع بين "المواطن" و "اللاجئ" (الويل إن غضب المواطن على اللاجئ)، وبين الاسم واللقب (معركتنا كانت دائماً وستبقى بين الاسم واللقب). ومن هذا المنطلق أيضاً تبدو الهوية متعددة الأبعاد، فهي زمان ومكان ومترتبات اجتماعية واقتصادية وسياسية (طالما أنت فلسطيني فحتماً أنت قصة. هل نحن جميعاً متهمون حتى تثبت براءتنا؟). ربما البقاء في حالة التساؤل وعدم الثبات انعكس على السياق الروائي الذي تخبط أحياناً بين "الأنا" المباشرة والـ "هو" السردية وبين الحوار والمونولوج وعلى مضمون هذا السياق الذي امتزجت فيه أحياناً عوالم الوعي واللاوعي، الواقع والمرتجى. لا بل أن الكاتب لجأ إلى "الردة الزمنية analepse" لكي يحقق توالد الشخصيات والحكايات. وهو أراد في كل ذلك أن يشيع في روايته الأمل على الرغسناء دياب
تبدو رواية مروان عبد العال "زهرة الطين" وكأنها خروج على التقاليد في بدايتها، إذ بدا أولاً وكأنه يحاول إسدال ستارات على سر شخصيته الرئيسية كلما تبدى له أن جانباً من حقيقتها أصبح قابلاً للتعرية والظهور تحت "عين الشمس". فقد لفظ البحر ذلك الشخص "العديم الاسم" والمنقطع الذاكرة والمجهول المنطلق والوجهة إلى شاطئ مطر ونرجس وعائلة اللترون وسواهم. لكنه سرعان ما ارتد عن عزمه، إذ أوجد لشخصيته سبلاً ميسرة لاكتشاف ذاتها والتعريف بها وإحاطتها بكامل معطياتها في المكان والزمان والكثافة السيكولوجية وبعد الانتماء العام. لكن البداية والعقدة والنهاية لم تكن مفردة، بل تفرعت إلى بدايات وعقد ولا نهايات، اتخذت جميعها وجهة المصب الواحد، أي القضية الواحدة المتعددة، الغارقة في تفاصيل يومياتها الفردية والعامة (في إشارة بأن النهاية كانت بداية، لقد انتهى إلى بدايته ص157).
رمزية
اتبع الكاتب، عن قصد أو عن غير قصد منه مطلع ما نسميه باللاتينية "in media res " أي أنه زج قارئه في حدث ليست صفحات الرواية إلا امتداداً له. ولعله من الطبيعي أن يستوقفنا في كل مرة التساؤل عن رمزية الشخصيات والأماكن والكلمات، خصوصاً أن القضية هي الأرض والوطن، وأن الكاتب هو عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إلا أنه تطرق إلى الواقع الفلسطيني من زاوية الشرط الإنساني "La condition humaine"، إذ يبدو مواليد فلسطين أطفالاً منذورين "enfants fatals" لا مفر لهم من واقع مرير ينتظرهم.
أربعة أقانيم بنى عليها المؤلف روايته: الذاكرة والتاريخ والهوية والمكان والزمان. وهي مشدودة الوثاق بعضها إلى بعض، تتداخل وفقاً لما يمليه الواقع وخيال الشخصيات في آن. لكن لا بد من الإشارة أولاً إلى رمزية الطين الذي ذكر في غير مقام من الرواية، عدا كونه اللقب الذي أطلق على ذلك "العديم الاسم". ربما أراد الكاتب من خلاله أن يقر بأنه "لا يصح إلا الصحيح" وأن الأرض لا ريب عائدة إلى أصحابها وفقاً لمبدأ من التراب صنعنا وإلى التراب نعود.
ثابت ومتحول
الذاكرة في "زهرة الطين" هي التي تحول دون سير القضية نحو المستقبل، منتزعة من ماضيها الضامن لبقائها، لذا، تساءلت نرجس: "ماذا لو عادت له ذاكرته؟ حتماً سيتركنا ويعود لناسه وأهله". لكي ترى أنانية في أن تلغي حياته الماضية لأنه "يحتاج ماضيه لكي يعيش حاضره ومستقبله". وقد اتبع الكاتب في عرض "ذاكرته" أسلوب "السرد المعلب"، أي أن الشخصيات تولد من حافظة الشخصيات والزمان من رحم الزمان، فنذكر مثلاً أن ذاكرة وحيد لم تخرج إلى النور إلا بعدما مرت في مخاض ذاكرة "طين". إلا أن الذاكرة في علاقتها بالمكان تبدو أسيرة إذا ما كان واقعياً ومحلقة كلما أعمل في ولادته مبضع الخيال، فالمخيم "ليس المكان، (المكان) الذي قتل هو المكان الحقيقي". وواقعية المكان تتجلى من خلال الإشارة إليه (هنا يتقابلون، يستقبلون، يودعون، متيمون بالغربة وبهذه القرية الغريبة، لا يزالون ينظرون ليلاً نهاراً إلى آفاق لا عهد لهم بها). إلا أن عوالم المكان الراهن تحددها معطيات المكان الآخر، الحقيقي، ففي "زمن الانتفاضة كم بدا هواء لبنان عليلاً" قال أحدهم وتابع: "كأني خرجت من الغيتو، خرجنا من دائرة العزلة النفسية.."، لا بل كأني بالكاتب أراد أن يطرح في مجمل الرواية إشكالية المكان بين الثابت والمتحول، إذ أن الثابت الراهن ما هو بالنسبة إليه وإلى شخصياته من بعده إلا في حكم ما يجب أن يبقى متحولاً. لذا، رفض مطر أن يعرف عنوان سيف في أرض اللجوء (لا تعطني عنوانك.. قد لا يحمل معنى الثبات). ومن هذا المنطلق، تبرز المقابلات في غير موضع بين "المواطن" و "اللاجئ" (الويل إن غضب المواطن على اللاجئ)، وبين الاسم واللقب (معركتنا كانت دائماً وستبقى بين الاسم واللقب). ومن هذا المنطلق أيضاً تبدو الهوية متعددة الأبعاد، فهي زمان ومكان ومترتبات اجتماعية واقتصادية وسياسية (طالما أنت فلسطيني فحتماً أنت قصة. هل نحن جميعاً متهمون حتى تثبت براءتنا؟). ربما البقاء في حالة التساؤل وعدم الثبات انعكس على السياق الروائي الذي تخبط أحياناً بين "الأنا" المباشرة والـ "هو" السردية وبين الحوار والمونولوج وعلى مضمون هذا السياق الذي امتزجت فيه أحياناً عوالم الوعي واللاوعي، الواقع والمرتجى. لا بل أن الكاتب لجأ إلى "الردة الزمنية analepse" لكي يحقق توالد الشخصيات والحكايات. وهو أراد في كل ذلك أن يشيع في روايته الأمل على الرغم من ضبابية الرؤية وعلى الرغم من أنه تساءل على لسان إحدى شخصياته قائلاً: "ما نفع سناء دياب
تبدو رواية مروان عبد العال "زهرة الطين" وكأنها خروج على التقاليد في بدايتها، إذ بدا أولاً وكأنه يحاول إسدال ستارات على سر شخصيته الرئيسية كلما تبدى له أن جانباً من حقيقتها أصبح قابلاً للتعرية والظهور تحت "عين الشمس". فقد لفظ البحر ذلك الشخص "العديم الاسم" والمنقطع الذاكرة والمجهول المنطلق والوجهة إلى شاطئ مطر ونرجس وعائلة اللترون وسواهم. لكنه سرعان ما ارتد عن عزمه، إذ أوجد لشخصيته سبلاً ميسرة لاكتشاف ذاتها والتعريف بها وإحاطتها بكامل معطياتها في المكان والزمان والكثافة السيكولوجية وبعد الانتماء العام. لكن البداية والعقدة والنهاية لم تكن مفردة، بل تفرعت إلى بدايات وعقد ولا نهايات، اتخذت جميعها وجهة المصب الواحد، أي القضية الواحدة المتعددة، الغارقة في تفاصيل يومياتها الفردية والعامة (في إشارة بأن النهاية كانت بداية، لقد انتهى إلى بدايته ص157).
رمزية
اتبع الكاتب، عن قصد أو عن غير قصد منه مطلع ما نسميه باللاتينية "in media res " أي أنه زج قارئه في حدث ليست صفحات الرواية إلا امتداداً له. ولعله من الطبيعي أن يستوقفنا في كل مرة التساؤل عن رمزية الشخصيات والأماكن والكلمات، خصوصاً أن القضية هي الأرض والوطن، وأن الكاتب هو عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إلا أنه تطرق إلى الواقع الفلسطيني من زاوية الشرط الإنساني "La condition humaine"، إذ يبدو مواليد فلسطين أطفالاً منذورين "enfants fatals" لا مفر لهم من واقع مرير ينتظرهم.
أربعة أقانيم بنى عليها المؤلف روايته: الذاكرة والتاريخ والهوية والمكان والزمان. وهي مشدودة الوثاق بعضها إلى بعض، تتداخل وفقاً لما يمليه الواقع وخيال الشخصيات في آن. لكن لا بد من الإشارة أولاً إلى رمزية الطين الذي ذكر في غير مقام من الرواية، عدا كونه اللقب الذي أطلق على ذلك "العديم الاسم". ربما أراد الكاتب من خلاله أن يقر بأنه "لا يصح إلا الصحيح" وأن الأرض لا ريب عائدة إلى أصحابها وفقاً لمبدأ من التراب صنعنا وإلى التراب نعود.
ثابت ومتحول
الذاكرة في "زهرة الطين" هي التي تحول دون سير القضية نحو المستقبل، منتزعة من ماضيها الضامن لبقائها، لذا، تساءلت نرجس: "ماذا لو عادت له ذاكرته؟ حتماً سيتركنا ويعود لناسه وأهله". لكي ترى أنانية في أن تلغي حياته الماضية لأنه "يحتاج ماضيه لكي يعيش حاضره ومستقبله". وقد اتبع الكاتب في عرض "ذاكرته" أسلوب "السرد المعلب"، أي أن الشخصيات تولد من حافظة الشخصيات والزمان من رحم الزمان، فنذكر مثلاً أن ذاكرة وحيد لم تخرج إلى النور إلا بعدما مرت في مخاض ذاكرة "طين". إلا أن الذاكرة في علاقتها بالمكان تبدو أسيرة إذا ما كان واقعياً ومحلقة كلما أعمل في ولادته مبضع الخيال، فالمخيم "ليس المكان، (المكان) الذي قتل هو المكان الحقيقي". وواقعية المكان تتجلى من خلال الإشارة إليه (هنا يتقابلون، يستقبلون، يودعون، متيمون بالغربة وبهذه القرية الغريبة، لا يزالون ينظرون ليلاً نهاراً إلى آفاق لا عهد لهم بها). إلا أن عوالم المكان الراهن تحددها معطيات المكان الآخر، الحقيقي، ففي "زمن الانتفاضة كم بدا هواء لبنان عليلاً" قال أحدهم وتابع: "كأني خرجت من الغيتو، خرجنا من دائرة العزلة النفسية.."، لا بل كأني بالكاتب أراد أن يطرح في مجمل الرواية إشكالية المكان بين الثابت والمتحول، إذ أن الثابت الراهن ما هو بالنسبة إليه وإلى شخصياته من بعده إلا في حكم ما يجب أن يبقى متحولاً. لذا، رفض مطر أن يعرف عنوان سيف في أرض اللجوء (لا تعطني عنوانك.. قد لا يحمل معنى الثبات). ومن هذا المنطلق، تبرز المقابلات في غير موضع بين "المواطن" و "اللاجئ" (الويل إن غضب المواطن على اللاجئ)، وبين الاسم واللقب (معركتنا كانت دائماً وستبقى بين الاسم واللقب). ومن هذا المنطلق أيضاً تبدو الهوية متعددة الأبعاد، فهي زمان ومكان ومترتبات اجتماعية واقتصادية وسياسية (طالما أنت فلسطيني فحتماً أنت قصة. هل نحن جميعاً متهمون حتى تثبت براءتنا؟). ربما البقاء في حالة التساؤل وعدم الثبات انعكس على السياق الروائي الذي تخبط أحياناً بين "الأنا" المباشرة والـ "هو" السردية وبين الحوار والمونولوج وعلى مضمون هذا السياق الذي امتزجت فيه أحياناً عوالم الوعي واللاوعي، الواقع والمرتجى. لا بل أن الكاتب لجأ إلى "الردة الزمنية analepse" لكي يحقق توالد الشخصيات والحكايات. وهو أراد في كل ذلك أن يشيع في روايته الأمل على الرغم من ضبابية الرؤية وعلى الرغم من أنه تساءل على لسان إحدى شخصياته قائلاً: "ما نفع الحب بلا وطن؟"
من الرواية
"ضحك على غير عادته ثم غرق في صمت عميق وهمس بصوت خافت: أين أنت أيتها المجدلية؟ ناشده مطر بلطف: يا رجل.. افتح لي قلبك وكتابك المغلق.. قالوا لي أنك تردد في غيبوبتك كلمة المجدلية.. هل هو اسمك؟ خرج عن صمته. ما يهمك من اسمي الذي ضاع في ذاكرتي؟ فكتابي يا صاحبي يحتوي أرقاماً تمتلئ بالسطور والأحرف. تحوي شخوصاً وأحداثاً، أبطالاً وضحايا، عشقاً وموتاً وعذاباً، وكلها في كتاب واحد. كأنه يختصر زمناً من نار ودم. هذا الكتاب الذي هو أنا، متناثر الأوراق، لم أعثر عليه بعد.. كي يصير الكتاب كتاباً بلا أوراق؟ قد يحمل اسماً آخر.
الحب بلا وطن؟"
تعليقات
إرسال تعليق