غسّان كنفاني... ما زلنا على مرمى قلم
تتضاعف الحياة على محطّة الستين للنكبة، وفي يوم غيابه السادس والثلاثين، لو كان غسّان كنفاني مشاهداً لا شهيداً، لامتشق قلمه وأطلق زخّات من حبره اللزج بنكهة ساخرة. سيكتب عن السرّ النّكهة ويقول عفواً النّكبة...
على قارعة مخيم، سيفرد تعابير وجهه ويلتقط التفاصيل ويقذفها على مرمى قلمه. جلّ ما يستحقّ منّا الآن، أن نكتب بوحي منه، نستعير رشفة من قلمه السيّال والحادّ كالسكّين... ربّما لننشر على حبل الغسيل وتحت الشّمس بعض مشاعره.
أخاله سيكتب عن مشهد أمامي، ألتقط حركته بعدسته، وأضع إطاراً على الحائط وأعطيه المكان كي يبدأ بالحكاية التالية:
مسافة تربط بين أسفلين، أسفل المخيّم بأسفل المدينة. فقد تكون النكتة الطريفة كسراً لمرارة أشجان اليوم المقيت ونكهة تضفي على كوب العصير الصّباحي، لغز الديمومة المنعشة.
كلّ من لا يرغب في الدخول إلى أدغال المخيم، يستعين بمقهى «الحنون» ليسأل عنه أو يرتّب موعداً للقاء أو يضع دعوة للاحتفال.
صار المقهى عنواناً دائماً لشخص غير مقيم اسمه الأستاذ «زيتون». هكذا سمّته جدّته تيمّناً بشجرة سكنت معها العمر في بهو الدار.
المقهى هو ملتقى وصندوق بريد وتنظيم مواعيد، وصاحب المقهى يقوم بالوظيفة بروح ومتعه كأنّها مهمّة اجتماعية، أو قضيّة إنسانيّة.
منع الانشغال أقدامه من أن تخطو إليه، ولعدّة أيّام يتّصل مطمئنّاً. ويلفت إلى أن في جعبته كومة من الأغلفة يحجزها في درجه، وأنّ صندوق البريد اشتاق إليه، ففيه حشد وأرتال من ناس.
بطاقات تملأ طاولته، مكتبه المستعار في مقهى صغير، يعجّ بالوجوه الشّعبية، لا يهوى الأمكنة الممكيَجة والسّاحات البرّاقة. يتشوّق إلى وجه العالم الحقيقي، يتعطّش للناس. لقد أدمن الهموم... فيرتاح من الوجوه الزّائفة، بأن يقفل عائداً إلى هنا.
مساحته التي تعج بالألم تفتح لعينيه نافذة للأفق، فيستسلم لتأمّل بعيد المدى وبسعة الحلم.
استغرق في التفكير، وفي حيرة ممزوجة بالنّظر إلى زاوية مليئة بالخردوات والأغراض المكوّمة في الزّوايا وعلى الرفوف وتفيض انحداراً إلى القاع، ولكنّها أشياء صامتة؛ جماد يصرخ بعويل في صدره، هي أيضاً توصف باللا شيء.
ذات مساء حارّ من شهر أيار، لمّا رمى أمامه صندوقاً كرتونياً، وأفرغ رزمة أغلفة، ليضعها فوق مكتبه على ضفاف مخيمي، ليضيف مع الأوراق المبعثرة فوقه، شيئاً جديداً على فوضاه.
دعوات لذكرى النكبة، مزركشة بخطوط كوفيّة وأخرى أندلسية، وأقلّها يفتقر إلى بعض الأناقه، تلك المزنّرة بأحرف مزخرفة، تحتشد كلّها بهذا الكمّ، مثل فرقة دبكة تؤدي وصلتها الفنيّة على مسرح طاولته الضيّقة، وتتراقص بأغلفتها المذهّبة كسرب من الفراش الملوّن.
هل ذكرى النكبة تستحق كل هذا الاحتفاء؟ زيتون ينظر إليها وهو يسخر بنكاته اللاذعة، كأنّها شرّ البليّة أو قل شرّ النّكبة ما يضحك أو ما يطرب... لا فرق البتّة.
هل غايتها فقط التأكيد على حق يأبى النسيان؟
يتمتم زيتون بأسئلة غريزيّة، يرميها في كلّ الاتجاهات مثل زخّات من رصاص طائش.
أيّ احتفاء هذا؟ يذكّرني بصخب العرس وضجيجه المفتعَل، داخل صخب المخيم. كمن يقرع طبلاً وسط عاصفة من الرّعد، كم يشبه عنزة شاميّة في قطيع طويل لكنّها تتميّز في جرسٍ صغيرٍ علّقه صاحبها، كي تدلّه على المسار إن سهت عين الدليل عن الطّريق، فيها يجسّ نبض القافلة كلّها.
دعوات كثيرة واحتفالات مميّزة، فهي الذكرى الستّين. كي لا ننسى، لا بدّ من هذا الاحتفال الرّهيب وطقوس تمارسها جموع النّاس في أروقة المدينة.
الفضل للنّكبة إن استطاع تلبية الدّعوات جميعها وارتاد أفخم الفنادق وتناول الغذاء في مطاعم الدّرجة الأولى على نفقة المؤسّسات الدوليّة.
قرّر لحظتها أن يحتضن الأغلفة بعباراتها وخطوطها وخيوطها اللامعة بين ذراعيه، كي يتلمّس بركة مقدّسة، أو يستظلّ طهراً في عالم من الدّنس، كأنّه ملمس خفيف لطرف طرحة العروس تتلهّف لحرارة عناق منتظر.
في مستهلّ النهار، قبل السّعي في مناكب الأرض، يمارس طقوسه المحبّبة، وينظر كيف اختلط في كوب الصباح مزيج من الشاي بالحليب، فضاع الفارق بين النّكبة والزفاف.
يداعب بأصابعه الخمس علبة السّجائر بحركة لا واعية، وفي لغة تعبيريّة لجسد منهَك، قبل أن ينزع من داخلها واحدة، لتتهيّأ الشفاه المشبَعة بالنكبتين لممارسة عادة ترطيب دائرتها السّفلية.
تقرأ عليها عبارة «نكهة أميركيّة». هو إشعار للمدخّن بأنّ لهذا التّبغ مذاقاً مميّزاً... وبالتأكيد على طرف العلبة تقرأ تحذير لوزارة الصحّة الوطنيّة بأنّ التّدخين مميت.
مسأله لا تعنيني، أشعلها والأمر لله أو لصاحب النّكهة الأميركيّة، أو النكبة الوطنيّة.
يسقط الحاجز مجددّاً... بين ضرر التّبغ ومذاقه.
بين الحلو والمرّ، بين النكهة والنكبة، مغامرة للسفر، لا يشبه أيّ سفر. هكذا هو سفرنا، رحيل مرٌّ في نكهة لذيذة، كمن يعتصر العلقم بحثاً عن قطرات الشّهد.
للنكهة حقّ اللجوء أيضاً.
«يغصّ بالك» قالتها جدّته له يومًا، كأنّها تعايره، «نكهة أرضنا ما في بعدها ولا قبلها».
فردّ عليها: «نحن في نكبة طالما غاب عن مذاقنا نكهتك المدهشة. نحن نتمسّك بالنّكبة وأنت بالنّكهة».
رغم النكبة ووجع الفراق ما زال في حلقها أنفاس الصّباح وعطر النعناع وطعم الزّعتر ورائحة خبز الطّابون وحلاوة التّين ونكهة البرتقال، فهي لم تذق بعدها ثمر ولم ينتشِ جسدها بقشعريرة لذّة أجمل من هوائها.
روضة للأطفال، المخيّم لا يتجاوز واحدهم سنواته الأربع. رسموا للنّكبة السّتين أيضاً. كيف هي النّكبة ونكهتها في حلوقهم الغضّة؟ في ذاكرتهم النديّة؟
يبحلق كلّ منهم في سقف الغرفة، ويجيب المربّية عن السؤال الأكبر، في عقولهم وبلهجة فلسطينية تهجئها ألسنتهم: «شو يعني نكبة؟». تتسلسل الإجابة وتزدحم في التّعريف على شفاه الأطفال:
«النكبة يعني دبكة»
«النّكبة علامة نصر بمظاهرة كبيرة»
«النّكبة بنت إلها عيون كبار»
«النّكبة طويلة كتير توصل للسّما وبيتها بالجبل»
«النّكبة يعني كان في عيشة حلوة بفلسطين، النسوان بيخبزو وبيساعدو بعض وبيعملو فرح للعروس الحلوة بتركب على الفرس وبطرزولها تياب ومخدّة»
«النّكبة بتذكرنا بفلسطين وبالحياة الحلوة»
«النّكبة يعني نرسم ونحكي حكاية لنخلي فلسطين حلوة».
قد يعتذر من لحظة ساخرة تعبر فوقنا. ينهي كلامه مقبّلًا جبين الطّفولة، وهو متأكد أنّهم في روضة تحمل اسمه ووعده أيضاً. إنّهم جيل الانقلاب، يفرّق بين بذرة نيئة في تربتها وبذرة في أرض يابسة. وحتماً سيوصي ليلى قبل أن تنهي حصّة الرّسم في الرّوضة أن تجعل للّون طعمًا بنكهة البرتقال الذي ما زال حزيناً
على قارعة مخيم، سيفرد تعابير وجهه ويلتقط التفاصيل ويقذفها على مرمى قلمه. جلّ ما يستحقّ منّا الآن، أن نكتب بوحي منه، نستعير رشفة من قلمه السيّال والحادّ كالسكّين... ربّما لننشر على حبل الغسيل وتحت الشّمس بعض مشاعره.
أخاله سيكتب عن مشهد أمامي، ألتقط حركته بعدسته، وأضع إطاراً على الحائط وأعطيه المكان كي يبدأ بالحكاية التالية:
مسافة تربط بين أسفلين، أسفل المخيّم بأسفل المدينة. فقد تكون النكتة الطريفة كسراً لمرارة أشجان اليوم المقيت ونكهة تضفي على كوب العصير الصّباحي، لغز الديمومة المنعشة.
كلّ من لا يرغب في الدخول إلى أدغال المخيم، يستعين بمقهى «الحنون» ليسأل عنه أو يرتّب موعداً للقاء أو يضع دعوة للاحتفال.
صار المقهى عنواناً دائماً لشخص غير مقيم اسمه الأستاذ «زيتون». هكذا سمّته جدّته تيمّناً بشجرة سكنت معها العمر في بهو الدار.
المقهى هو ملتقى وصندوق بريد وتنظيم مواعيد، وصاحب المقهى يقوم بالوظيفة بروح ومتعه كأنّها مهمّة اجتماعية، أو قضيّة إنسانيّة.
منع الانشغال أقدامه من أن تخطو إليه، ولعدّة أيّام يتّصل مطمئنّاً. ويلفت إلى أن في جعبته كومة من الأغلفة يحجزها في درجه، وأنّ صندوق البريد اشتاق إليه، ففيه حشد وأرتال من ناس.
بطاقات تملأ طاولته، مكتبه المستعار في مقهى صغير، يعجّ بالوجوه الشّعبية، لا يهوى الأمكنة الممكيَجة والسّاحات البرّاقة. يتشوّق إلى وجه العالم الحقيقي، يتعطّش للناس. لقد أدمن الهموم... فيرتاح من الوجوه الزّائفة، بأن يقفل عائداً إلى هنا.
مساحته التي تعج بالألم تفتح لعينيه نافذة للأفق، فيستسلم لتأمّل بعيد المدى وبسعة الحلم.
استغرق في التفكير، وفي حيرة ممزوجة بالنّظر إلى زاوية مليئة بالخردوات والأغراض المكوّمة في الزّوايا وعلى الرفوف وتفيض انحداراً إلى القاع، ولكنّها أشياء صامتة؛ جماد يصرخ بعويل في صدره، هي أيضاً توصف باللا شيء.
ذات مساء حارّ من شهر أيار، لمّا رمى أمامه صندوقاً كرتونياً، وأفرغ رزمة أغلفة، ليضعها فوق مكتبه على ضفاف مخيمي، ليضيف مع الأوراق المبعثرة فوقه، شيئاً جديداً على فوضاه.
دعوات لذكرى النكبة، مزركشة بخطوط كوفيّة وأخرى أندلسية، وأقلّها يفتقر إلى بعض الأناقه، تلك المزنّرة بأحرف مزخرفة، تحتشد كلّها بهذا الكمّ، مثل فرقة دبكة تؤدي وصلتها الفنيّة على مسرح طاولته الضيّقة، وتتراقص بأغلفتها المذهّبة كسرب من الفراش الملوّن.
هل ذكرى النكبة تستحق كل هذا الاحتفاء؟ زيتون ينظر إليها وهو يسخر بنكاته اللاذعة، كأنّها شرّ البليّة أو قل شرّ النّكبة ما يضحك أو ما يطرب... لا فرق البتّة.
هل غايتها فقط التأكيد على حق يأبى النسيان؟
يتمتم زيتون بأسئلة غريزيّة، يرميها في كلّ الاتجاهات مثل زخّات من رصاص طائش.
أيّ احتفاء هذا؟ يذكّرني بصخب العرس وضجيجه المفتعَل، داخل صخب المخيم. كمن يقرع طبلاً وسط عاصفة من الرّعد، كم يشبه عنزة شاميّة في قطيع طويل لكنّها تتميّز في جرسٍ صغيرٍ علّقه صاحبها، كي تدلّه على المسار إن سهت عين الدليل عن الطّريق، فيها يجسّ نبض القافلة كلّها.
دعوات كثيرة واحتفالات مميّزة، فهي الذكرى الستّين. كي لا ننسى، لا بدّ من هذا الاحتفال الرّهيب وطقوس تمارسها جموع النّاس في أروقة المدينة.
الفضل للنّكبة إن استطاع تلبية الدّعوات جميعها وارتاد أفخم الفنادق وتناول الغذاء في مطاعم الدّرجة الأولى على نفقة المؤسّسات الدوليّة.
قرّر لحظتها أن يحتضن الأغلفة بعباراتها وخطوطها وخيوطها اللامعة بين ذراعيه، كي يتلمّس بركة مقدّسة، أو يستظلّ طهراً في عالم من الدّنس، كأنّه ملمس خفيف لطرف طرحة العروس تتلهّف لحرارة عناق منتظر.
في مستهلّ النهار، قبل السّعي في مناكب الأرض، يمارس طقوسه المحبّبة، وينظر كيف اختلط في كوب الصباح مزيج من الشاي بالحليب، فضاع الفارق بين النّكبة والزفاف.
يداعب بأصابعه الخمس علبة السّجائر بحركة لا واعية، وفي لغة تعبيريّة لجسد منهَك، قبل أن ينزع من داخلها واحدة، لتتهيّأ الشفاه المشبَعة بالنكبتين لممارسة عادة ترطيب دائرتها السّفلية.
تقرأ عليها عبارة «نكهة أميركيّة». هو إشعار للمدخّن بأنّ لهذا التّبغ مذاقاً مميّزاً... وبالتأكيد على طرف العلبة تقرأ تحذير لوزارة الصحّة الوطنيّة بأنّ التّدخين مميت.
مسأله لا تعنيني، أشعلها والأمر لله أو لصاحب النّكهة الأميركيّة، أو النكبة الوطنيّة.
يسقط الحاجز مجددّاً... بين ضرر التّبغ ومذاقه.
بين الحلو والمرّ، بين النكهة والنكبة، مغامرة للسفر، لا يشبه أيّ سفر. هكذا هو سفرنا، رحيل مرٌّ في نكهة لذيذة، كمن يعتصر العلقم بحثاً عن قطرات الشّهد.
للنكهة حقّ اللجوء أيضاً.
«يغصّ بالك» قالتها جدّته له يومًا، كأنّها تعايره، «نكهة أرضنا ما في بعدها ولا قبلها».
فردّ عليها: «نحن في نكبة طالما غاب عن مذاقنا نكهتك المدهشة. نحن نتمسّك بالنّكبة وأنت بالنّكهة».
رغم النكبة ووجع الفراق ما زال في حلقها أنفاس الصّباح وعطر النعناع وطعم الزّعتر ورائحة خبز الطّابون وحلاوة التّين ونكهة البرتقال، فهي لم تذق بعدها ثمر ولم ينتشِ جسدها بقشعريرة لذّة أجمل من هوائها.
روضة للأطفال، المخيّم لا يتجاوز واحدهم سنواته الأربع. رسموا للنّكبة السّتين أيضاً. كيف هي النّكبة ونكهتها في حلوقهم الغضّة؟ في ذاكرتهم النديّة؟
يبحلق كلّ منهم في سقف الغرفة، ويجيب المربّية عن السؤال الأكبر، في عقولهم وبلهجة فلسطينية تهجئها ألسنتهم: «شو يعني نكبة؟». تتسلسل الإجابة وتزدحم في التّعريف على شفاه الأطفال:
«النكبة يعني دبكة»
«النّكبة علامة نصر بمظاهرة كبيرة»
«النّكبة بنت إلها عيون كبار»
«النّكبة طويلة كتير توصل للسّما وبيتها بالجبل»
«النّكبة يعني كان في عيشة حلوة بفلسطين، النسوان بيخبزو وبيساعدو بعض وبيعملو فرح للعروس الحلوة بتركب على الفرس وبطرزولها تياب ومخدّة»
«النّكبة بتذكرنا بفلسطين وبالحياة الحلوة»
«النّكبة يعني نرسم ونحكي حكاية لنخلي فلسطين حلوة».
قد يعتذر من لحظة ساخرة تعبر فوقنا. ينهي كلامه مقبّلًا جبين الطّفولة، وهو متأكد أنّهم في روضة تحمل اسمه ووعده أيضاً. إنّهم جيل الانقلاب، يفرّق بين بذرة نيئة في تربتها وبذرة في أرض يابسة. وحتماً سيوصي ليلى قبل أن تنهي حصّة الرّسم في الرّوضة أن تجعل للّون طعمًا بنكهة البرتقال الذي ما زال حزيناً
تعليقات
إرسال تعليق