إنتحر بفوسفورك أيها الأبيض!
إنتحر بفوسفورك أيها الأبيض!
مروان عبد العال
لوجه بسيط، يشرب من صفاء بحر غزة، رحيق الصباح. تحضرني مثل خيط رفيع من الدخان الرمادي، تهتف في ليلي الذي اغتاله القلق، ويعزف عتبها المر في نفسي، يوم أتاها حديث الحرب وهي تغار من مناجاتي لزهرة غاردينيا بيضاء ناصعة، صمدت في وجه النار وتبرعمت في حوض الدار المجلل بالسواد.
زهرتك الصغيرة أجمل من كل الحروف ،وأنت الآن ضوء من غزة، تغسل روحها.. تكون ذاك النور المتأرجح في ومضاتها ،ويصير إسماً لقمرها المرمري .
تمشي على كثبان رملها، يثور الموج من فرط الشهوة، كأنه غرور النار تنهش جسدها. يوم جفل الحنًون من جلالها، أية أمومة تودع فلذات كبدها ولا تعرف البكاء، تطعم أطفالها الخبز المغموس بالسمن والسكر، أيّ غزة في الكون تنجب رجالاً بعمر الطفولة، كأنما المخاض يأتيها في حضور الرمل، وتنساب دماً بخصبها فتنبت براعم زهرها الأجمل، وتهز لهم جذع شجرة الجميز الخصب مثل رحمها فيثمر سبع مرات في السنة، طفولتها مضت بين شجيرات "الدوم" تجمع الحطب وتخبز على صاج معدني وجبة النهار.
حينما تألق اللون الرمادي، حضرني عشقك لوجه النمر، لطقوس تغرق في عمق الليل، لا أدري إن كانت أنياب الوحش قد دقت الوشم على جبينك؟ أم أن الحياة في حصار أبدي، صارت بينها وبين الموت نفق جديد يفيض بماء الحب. يوم سقط النيزك على جباليا، وأنا ألهث في طيف ألوانك المبعثرة في المكان، كيف ألتهم بحدقات عيوني وجه الشهداء دون أن أدمن العادة الشقية والمستجدة على أقانيم صباحي الفيروزي، في ممارسة مهنة عدّ الجثث! تمنيت لو أقتل الموت حتى يبقى لوجهك ما تبقى من فسحة روح.
قلق على قلق، أعدّ الأيام على وقع الغياب.. أبحث عن ألواني الضائعة بين الأرقام.. وحينما سقط الأبيض في الامتحان ، لم تعد السماء تشبهك، حينما جثا الهيكل الملائكي وهو يسربل أحلامك، صارت كتل الدخان الأسود تبتلع مساحة الأبيض المتربع في أروقة القلب، والبحر يفتح أحضانه الدافئة ليحتوي خوفك، وما غادرت دموعه أطراف السحاب، شاهد فوضى الإحتراق وهي تزحف بهدوء مميت على مسامات الوجه وتغور عميقاً في الأجساد الطرية، تبحث عن العظم حيث يرقد حب فلسطين، كأنما للحقد صلاة شيطانية تعلمها حفيد هارب من مدرسة الشواء الهتلرية. هي وديعة الحضارة حملها كقلادة من بقايا أفران الغاز النازية.
كل شيء ينغمس في ألوانك البنفسجية، مسلسل طويل يجمع في المساء الجنوبي ذاك الفرح العائلي، ليصير كل شيء عائلي، حتى الموت لكل إفراد العائلة أيضاً. بعد أن استراح القاتل ساخراً من أشلائنا، وانتهت حفلة الشواء الآدمية، إعذري دمعي وسخريتي من عبارتك القاطعة الحاسمة، (أما الأبيض وأما الأسود)،كم يقتلك الموقف الرمادي.
لا أعرف حقا إن كان الأبيض الرقيق يرمز إلى الخير وإن صار لون الاعتدال الرسولي ؟ كل ما أعرفه، انه لون ملائكي يرمز لفرح شفاف مثل سلام طائر وطرحة عرس تسحبها الطفولة إلى زفاف الحياة، أم أن الفسفور الأبيض قد خطف طهارة اللون وعبث بجلاله، مثلما خانني الثلج الجميل يوماً وافتقدت أبيضه في لحظة عجز عن دفن الموتى، وإن كان للأسوّد شارة التطرف ورمز النحيب الذي يفيض في غيم يلتهم السماء ويحيل الموت إلى ظلال مخيفة. ففي الرصاص المسكوب تبدلت الألوان وصار اللون نقيضه.
تعرفين أني صرت أنحاز للرمادي لقد تألق اللون في داخلي، كأن النيران التهمت ثيابي، فالشوق ينخر العظام، يهفو لصوت يأتيني من كومة لحم بشري تحتمي خلف جدار إسمنتي، لحظتها سيأتيك شبح كلماتي عن مشاهد التراب الرمادي الذي صرخ في وجهي يوما: أنت لست مني. كم تشبه المخيمات بعضها، في احتشادها وخوفها وموتها واحتراقها وأشلائها. وموت الغاردينيا في مواسم النار، كلنا تعلمنا جمع الصور، والنبش الملهوف بأظافر تنقب في أكوام الركام عن ذكريات هاربة من فم الحريق.
وأكفان الجسد تحمله إلى بطن الأرض أبيضا، ونحن نعشق الأبيض حتى وإن كان قاتلا، وبعد ما ذرفته عيون السماء على وجهك، صار يخنق أنفاسي وقد حان له أن يخلع نفسه ويرحل. غزة تشع فينا، مثل عنقاء فلسطينية، وستولد يوما من جديد فتاة من نار، لها وجه تيّمم بالتراب والحصار والحنين، كان أسمها نور، وسيظل اسمها نور، لأنها لا تريد أن تكون سوى نفسها فاختارت حتى أسمها. كي تستعيد ما ضاع من غياب ويبرق فجرها كسماء غاضبة في خندق العشق الصامت، بعد اليوم ستتألق عطراً يملأ ما تبقى من الهواء، وعلى رصيف الانتظار نحمل حلمنا القدسي العتيق الذي يسمو تألقا باللون الرمادي. فانتحر بفوسفورك أيها الأبيض..!
تعليقات
إرسال تعليق