حتى لا نلدغ من ذكرى مرتين



مروان عبد العال
هكذا تستفيق ذكرى بعد أن غفت زمناً، ليست صدفة أن تنهض بوخز موجع من ذات المكان، فيكون سر نفاذها بجلدها وتصير وصلنا الأنساني الجديد ولم يلتهمها الغياب، فيحملها قارب النجاة على موج البحر إلى فم النهر حيث هو الميناء الأخير.
يوم إجتمعنا على مدخل الأياب للمخيم الجريح، عرفت كمال الأخ والرفيق و المناضل والأنسان أكثر، يوم الدخول إلى "نهر البارد" خطينا معاً خطوتنا الأولى على تراب مشبع بالظمأ لم يبخل يومها بأن يكون بين الأهل فينساب كدموع تتدحرج مع العيون الباحثة عن ما تبقى لها هناك. يبلسم الحنين لوطن ينتظرهم على مفارق الزمن.
نحاول الفرح ما استطعنا إليه سبيلا، أو حتى إختراعه بالهرج والمرج والرقص أو إفتعال عرس شعبي، ونوزع حلوى العيد، ونحن على وعي مسبق بأي حال عاد العيد، تتلاشى أحاديث البطولة أمام لحظة حفظ الحلم من الذوبان، وتتوالى الحكايات تحت ظلمة تجترحها ضوء الشموع ووميض الذكرى، لتقول أن بينك وبين المخيم حكاية قديمة، وأنك عدت معنا كأنك تعود الى ماضي أحببت.
تقصها يوم جئته بحراً مدرباً في القاعدة البحرية خلف مركز توزيع الأعاشة على شاطئ المخيم، عام 1970 كان عمرك يومها يزيد عن العشرين عاما. المفاجئ لك باني أكملت باقي القصة ، وأنا كنت أصغرك بسنوات وعن ذكرى لا تنسى من معركة التصدي للأنزال الصهيوني على القاعدة البحرية عام 1972 وعن إستشهاد مجموعة من المقاتلين الأتراك المتطوعيين للتدريب في جهاز العمل الخاص الذي كان يتبع للقائد أبوجهاد الوزير يومذاك.
عن ذكرى نجت معي ولم تحترق وعن ذاك الشاب الملتحي المتحمس والشجاع والمتقد الذهن و الذي يجيد فنون القتال وفي البحر، من الغطس والسباحة وركوب القوارب المطاطية ، والحسكات الخشبيه. وحينما أخبرتك أني لم أعد أعرف عنه شيئاً بعد ذلك التاريخ ولم أره بتاتاً وبأنه إختفى من أمام عيني ولم يختف من ذاكرتي رغم السنين.
فسألتني إن كنت مازلت أذكر إسمه، وعلى الفور أخبرتك بأني لا أعرف أسمه الحقيقي، أذكر فقط أنه يلقب "بالوحش" وهو حركي طبعاً. ساعتها، ملأت بقهقهتك الفورية الغزيرة سكون المكان، ووقفت لتضرب كفاً بكف، ثم تسألني:
ولا تعرف من يكون الشخص المسمى "الوحشً؟ لتصدمني بصدفة المكان..وتقول:
أنه كمال مدحت.
لم أكن أعرف قبلها أن الدكتور كمال ناجي الذي وقع كتابًا في القانون الدولي في معرض الكتاب الدولي، وأن لواء الركن كمال مدحت القائد السياسي في منظمة التحرير الفلسطينية وحامل ملف العلاقات الوطنية مع لجنة الحوار اللبناني هو ذاته "الوحش" أي الفدائي الشرس الذي إلتقيته يوما مقاتلاً في مقتبل الثورة والعمر.
أنها صدفة المكان يا صديقي وليس الإنسان. نسير ذات الدرب وعلى مفارق متعددة ، على جسدك كتبت الثورة تاريخها، فتخرج من وطيس المعارك بشظية أو رصاصة، نحمل متاريسنا ونرحل ، لنكتشف أن للحب مكان لم يحتل وفسحة أمل لا تنقطع من المكان الأول وحتى الأخير، تواصل بيننا الانسان وأستغرق فيك حتى العشق، المشحون بقيم الإنتماء ، وأصالة الهوية، ورحابة الفكرة الجامعة، ونتفق سوياً أن الأخلاص للتنظيم يكون بقدرالأنفتاح على مساحة الأفق الوطني الأشمل، وأن الخاص في خدمة العام والكارثة تكون عندما يكون العكس.
فكان هاجسك على حرارة الرحيل كيف يفضي الحوار الى إنهاء كارثة الانقسام؟ لم يغب الفدائي الشرس داخلك في روح الحوارات الساخنة ولا المهمات الأصعب، لم تغتله المغريات وبقيت تسكنه فكرة البناء والأصلاح كأساس للمقاومة، لذلك أرادوا قتل الأنسان فيه وقيمه ودوره، وشراسة المقاتل في صناعة الفكرة البناءه. بل لاسقاط هوية المكان والانسان معاً.
حضر بغيابك ذكرى اللقاء الأول وأنطلاق تجربتك من على منصة الثورة دون أن تبخل يوما حتى بالروح ذاتها إن كان ميناء الوصول سيكون كرامة إنسانية وعدالة بشرية ووحدة وطنية وحياة تليق بشعبك وإنتصار لقضيتك.
طوبى لك يا أبا بلال، أستشهدت كي لا يتكرر الجرح مرة آخرى و حتى لا نلدغ من ذكرى مرتين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر