تفاحة فضَية لأجلٍ غير مسمى



مروان عبد العال
الطفل يتسلق الوقت ، يمشي فوق رصيف الدقائق على رؤوس أصابعه ، يخفق قلبه الصغير كساعة حائط، يجري خلفها وهي تمطي حصان المطر المجنح في رياح وحشية ، و يبكي لقناديل النجوم وهي ترتفع بإشعاعها نحو شراع اللقاء ، ليرضع حليبه المر من إنحناءاتها الجبلية وتسعفه بقطرات شهد من جنة عدن فوق مهد ذراعيه.
غرقت سفينة نوح في فيضانات الحزن، وتركه "أنكيدو" لاجئاً بلا حدود وما بعد وطن ، أو حتى بلا خلود وما بعد موت. لفظت أمواج المحيط مرجانه الملائكي وثغاء غزلان الظمأ في ممارسة إعلان البراءة من العطش الأبدي ، فتستنشق ذرات الماء من هواء الصحراء، وتنعش الروح بمذاق يستعر من حلم أحمر بلون النبيذ يضع شبق الأهداب الذابلة في عينين ترتجي وعد القبض المحكم من طفولة لا تصلح فيها مواعظ الحكماء ولا الوصايا الرسولية ، حتى لو جاوزت الأصابع العشر حدود تفاحة العمر.
ترمقه خفراً بطرف العين ، وتدير ظهرها بأضطراب لتختفي في كهفها البارد، فيلوذ خائباً من حركة تلقائية لا يصل فيه العزف إلى وتر الرغبة. يمد ساعده الصغيرة حول خصرها فتنقلب نحو الخلف قليلاً، كي تعاكس الشوق وعقارب الزمن.
تفاحة الحزن ذبلت على جانب السرير، شحبت ملامح الوجه الربيعي وتجعد كأوراق الخريف، ونسج القرف خيوطه المتعرجة في وجنتيها. الإتكاء طال، لفحه الإصفرار فوق جنباتها، فغدت هرمة تجرر خلفها أذيال الخيبة وندم يجلجل حياة معتمة ، تفتح فسحة داخلها لذاك السأم ، الذي لاح في ليل فارقه وهج القمر .
تفاحة تسجد على باب القلب وتجيد ممارسة الحب مع غبار الطريق ، وتقطف اللذة من جسد الفراغ، يداعبها الغيم فتشتعل بالماء و تطوي نرجسها في أحضان الليل قبل أن تضع يدها فوق خدها ، تحدق في لون الغياب ، متى تستفيق من هذيان موشح بخيوط الصباح يغسل زبدها الليلي بوضوء الصلاة المنسكب من شقوق النافذة. ترسم المسافة حدود الإشتياق، ووتصهل خيوله الجامحة في حنايا الروح كي يركب الطفل إرجوحة الضوء، وتستلقي التفاحة كثمرة ناضجة على ركبتيها في الجهة المقابلة حتى لا تبقى أسيرة فوق حافة الإنتظار.
لقد تبللت الوسادة بدمعها، فاتها أن تبكي قطافها القسري، وهي تحتفظ برائحتها منذ أن غادرت نضارة عشقه المتفرع من نسغ غصنها الأخضر، تفاحة صاخبة من وجع مزمن تفيح بعبقها الجنوني الذي يشتهي الدلال، ولأنه من نعومة شقية جرحتها أشرطة شائكة لا يتقن فن الغزل، وإنما طافت من مذاقها ماء شفتيه وتبرعمت بالقبل ومن نكهتها تنساب فراشات الروح في حدائقه المعلقة على عجائب دنياه السبع.
تفاهة الدهشة، تلوي شفتيها، فيسترق ملمسها برهة كي ينثر في شعابها الرطبة ما تيسر من رماله الحارقة، يرشها على شارات المرور كي تعود و يشتم فيها رائحة طحالب البحر وينزلق بلهاثه فوق صخرها اللزج ، ولكنها هاربة كورقة رجمتها الأرصفة في فم الريح، مثل شاعر صوفي كتب قصائد بحجم الجنازات، وفاته أن ينشر الياسمين على أضرحة الشهداء وهي تنسى تفتح ذراعيها لأشرعة الإياب كي تحملها نحو مدى سرمدي، لا تهزمه جحافل النسيان ويصير درعاُ منيعاً لا تخترقه قداسة الوقت.
تفاحة الجنون تعبث في خطيئة طفولية ، تفر من غدر الوقت وتسبق العجلات دورة أنفاسها ، يحاورها فتهيج حواسه المتدفقة في مدينة اللهو ، يعاود الكرة مرة تلو مرة، فتتسرب الكلمات من الزنزانة الضيقة في بئرصدره الصغير وتنتفض معها غضباً كل هدايا الميلاد وألعاب العيد والدمى الطفولية النائمة في سكون النهار، تفاحة العشق المدفونة في غموضها الفضًي لا تعرف الهمس والأحلام وترفض أن تستفيق لأجل غير مسمى، تفاحة من حياء عذري، ركنت نفسها في ظلال معتمة تحت أدراج الليل.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قلم أخضر

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

ميدوسا": خِزَانَة تَجْر الْبِلَاد اليوم الثامن