على قدر الأمل وديعاً
مروان عبد العال
وديع حداد الذي ما رأيته قط، لم أكن أعلم أنّ خطى الأقدام قادرة أن تجعل من تجاويف القلب رصيفاً، يمضي مذهولاً مما أصابنا ، يصير الألم أقوى وأشدّ ويجتازه عابر طريق كلّ ساعة، مضى حادًا كالسكّين مصبوغًا بلون الفسفور الأبيض، ووصلت الحداثة حدّ القتل يا أبا هاني في غزة وجابت على رقابنا وعواصمنا وطاردتنا لأبعد مخيم. كانوا وراءنا هم في كل مكان. كنّا الضحية يا رفيق وما علق على جدارنها من بصمات القاتل، كفيل بكشف الجريمة وإماطة اللثام عن وجه الإرهاب..
وديع مازال يجهر بما تبقّى من أمنيات ثقيلة، تعصره بالحنين، تقطعه نصفين فيصطبغ بلون ونكهة البرتقال الدموي. يوم قال:
" لن أدع العالم يستريح مادام شعبي يتألّم."
كنت على قدر الحب وأكثر، على قدر الألم ، فنحن بتنا نلعق العثّ المختبئ في زوايا الموت، ونمسح بأكمام القميص المتسخ ما علق من عفن السنين على راية الأغبرة الرمادية، ونلملم بقايا أشلاء الأحبة في أكياس. ويعبث القاتل بها في لعبة "الروليت الروسية". وحدها قناديل الليل تزحف نحو وحدته الباردة.
ولدت كمعجزة بوليسية، تسكن البطن الواحد مع شقيقين، تمازح الرفاق بأنّك الولادة الأخيرة من بين الثلاث، نسأل إن كنت تقصّدت أن تكون الأخير، فتضحك بطفولة فائضة، أنّك جعلت الأول ينزل قبلك كاستطلاع، ومن ثمّ يلحق الشقيق الثاني لتأكيد سلامة الطريق، فتكون التوأم الأخير.
أن كنت على قدر اجتراح المعجزة في حياتك وأسرارك الجميلة التي مازالت لغزاً، فكيف سيكون لغز الرّحيل ؟ وحينما يصادر الموت وقع خفقان القلب، وأن لا يجتاحك الرّعب من تجاوز حدود الزّمن المتحجّر في صحراء النذالة. سألت مرة رفيق دربك الحكيم: " هل رأيت الشانزلزيه؟ "
أجابك ضاحكا: " لا يا وديع أبداً. "
أجبت: "ما أجمل الشانزلزيه يا حكيم. ولكنها ليس أجمل من ظلّ شجرة الخروب أمام بيتنا في صفد. "
تحمل فكرتك النّبيلة إلى خيالٍ طليق، يفرد الحلم الأسطوري جناحيه حتى آخر نبض في شرايين الأرض، تحملها في رحلة الأوردة المحترقة وتموّجات الجسد الجاف وتسافر في عروق النّخيل إلى واحة ماء تتأرجح كالدفلى الذبيحة على ضفاف الفرات، تتدلى العذابات على صدر بغداد وتغمر سلال القش بعض ثمارها المثخنة بجراحاتٍ غائرة.
إن كان قلبك بقدر الحلم، ستغمر سيوله شعاب الأرض التي حفرتها جحافل الظلام ومزقت أشرعة المركب كي لا أعود إلى رصيف الزعتر الجبلي، وألقي مرساتي على ميناء غجري. يسدل شعره الوحشي على حوافي الماء المالح. مازالت الأريكة ذاتها وعيون أم هاني تدور في أرجاء الشقة وهاني يتحدث بصوت خافت، كل عام نمرّ وتكون هناك.
طوبى لك يا وديع ، في لغز الميلاد وسرّ التّجربة والتباس الرّحيل ويوم تعود فينا حياً.
تعليقات
إرسال تعليق