فرس أيوب


فرس أيوب
أيوب الصغير يروي الوجه الآخر كصورة تستحضر إلى قلب المشهد عن حكايات تناقلتها الأجيال، فبدأ يسلسل
روايته من جده أيوب.. كان أيوب شاباً وهو يرسم صورة سفره، يقول: لولا ضوء القمر لما استطعنا أن نقضي على
موقع "الإنجليز". عندما مضت الفصيلة التي يقودها "رباحُ العوض"، يومها استشهد ابن عمه (عبد الله). رفض
الانسحاب قبل أن يعود بالجثة. لم يستطع حملها إلى الغابسية فدسها في مغارة خبيئة مجهولة قرب قرية " الزيب".
بحثوا عن الجثة وبعد ستة أشهر وجدنا المغارة.. كان الجسد محمراً طرياً طازجاً.. "سبحان الله" كأنه استشهد تواً.
اقتنى أيوب فرساً بيضاء.. يجوب بها الحقول و"يتغندر" فوقها معتزاً. وعندما جاء اليهود، تراءت له وجوههم كالغربان
السود تتراكض في ساحة القرية معقوفة المنقار، تحرق البيوت وتعبث في متاعها وتقلع أهلها..
يومها حملوا ما تيسر من المتاع والأطفال على ظهور البغال شدوا الرحال ومضوا شمالاً، وغادروا القرية. وإكراماً
لمعشوقته الجميلة الفرس البيضاء قرّر لها طيب البقاء في كنف القرية. الفرس شريكة حياته. في السكن والعمل
والطريق أبت البقاء ولحقت بالموكب.. طردها في المرة الأولى فاستجابت وما إنْ وصل الموكب إلى قرية "عمقا"..
والتفت خلفه حتى وجدها تقتفي أثره وهي العارفة بالمسالك والدروب والسواقي وأين تجد علفها.. وأين تجد صاحبها..
زجرها. وركض وراءها مسافة ليست بالقصيرة راجياً منها أن تعود.. فهو لن يَطُول سفره وغداً سيعود أو قل بعد
أسبوع. هكذا سمع نداء الجيوش السبعة وهي تعده بالعودة من يومها. اتجه المسير شرقاً حتى قرية "جدين" ثم شمالاً
حتى "دير القاسي ".. وبين بيادر "سحماتا"، الليل يجوب النواحي، والهواء ساخن حار، والقمر محاط بهالة حمراء
وأخرى صفراء. والليل يضج بالصراخ طلباً للماء. كانت لحظة موت صيفي لا مطلب سوى النجاة وأول الغيث قتل
الظمأ.. والفرس تتبع أصواتاً عرفتها وإن لم تعتد على نواحها. تعرف الاتجاه وتمضي.. رفيقها القمر الصحراوي
الساخن.
تبعتهم الفرس، لم ترغب البقاء، شهدت أشكالاً من الموت لم تألفها. لذلك آثرت الرحيل. فعندما تقف أمام معلفها
في ساحة القرية كان "موسى آغا" قادماً من مدينة عكا يحمل في يده جريدة.. و"مرعي الحماد" يقرفص في فيء
صفصافة الجامع.. فناداه قائلاً: ما الذي بيدك يا موسى؟ قال: جريدة..
- وما هي الجريدة؟
- فيها أخبار.
- هات خبراً..
فقرأ له:
"اليهود يقتلون النساء الحوامل في قرية دير ياسين ويلقون بالجثث في بئر القرية."
صرخ مرعي الحماد: باطل.
وطب ساكتاً.. وهي "الطبة" الأخيرة!
الفرس شاهد على هذا الموت.
وبعدها دخل اليهود إلى القرية، فخرجت "وفيّة" زوجة "فهيم" لترى ما حل بالبلد.. فتحت باب الدار. شاهدت اليهود في
ساحة الجامع، صرخت بأعلى صوتها: هاتوا "الشحار" و"شحروني"!! وفارقت الحياة..والفرس شاهد..
سارت الفرس خلف الفلول.. فشاهدت "نزهة الداوود" ترمي بمولودها الذي أنجبته، لحظة الخروج، في أشواك العليق
تخلصاً من عبء الرحلة ولتلتحق بالموآب.
الفرس شاهد.. على آل بصمات العذاب. حط الموآب في قرية "دير القاسي" فوجدوا الفرس أمامهم، ترفع عنقها وتلوح
بذيلها الأبيض الطويل وتضرب الأرض بأقدامها فرحةً باللقاء.
كأن لسان حالها يقول: أين أنتم ذاهبون! سأهيمُ معكم في كل الأرض. قبل أيوب الأمر "وطبطب" على عنقها وذرف
دمعه حتى وصل الموكب إلى قرية "رميش" بقيت معهم لعدة أشهر، تتلوى بألوان العذاب وتنوء بثقل الغُربة ومرارة
اللجوء. ودَبّ فيها الشوق للقرية.
التفت أيوب إلى أخيه قائلاً: لماذا لا نعود لنجني محصولنا؟ فقد أينعت السنابل بعد هذا الصيف الساخن، إن بيادرنا
أصبحت ذهباً.. واليهود ليسوا أولى منا بها؟ لنتسلل ليلاً بصحبة الفرس أوغلا في شطوط الليل وبرفقتهما فرس منزوعة
الجرس، تسير دليلاً تحت ستار الليل.
وتسللت الثُلةُ تحت ضوء القمر. حتى وصلت بعد عدة ليال إلى القرية. نظرت حولها. أمست، قرية الغابسية مهجورة لا ناس
فيها، أبواب الدور مفتوحة، كانت القرية مثل خرابة الزيت والسمن البلدي مدلوقٌ في قاعات الدور، والخوابي مقلوبة
على وجهها، وكروم العنب والتين تلقي بثمارها على التراب.
نظرت الفرس حولها.. اشتمت نسائم الهواء، واستنشقت رائحة التربة. ثم طوت ركبتيها. ونظرت بحزن نحو رفيقيها
تمرغت أرضاً. حاولا إنهاضها فرفضت. هل أنهكها التعب؟ أم صدمتها اللحظة ? قالها جدي بحزن:
- لنذهب إلى الحقل ونملأ أكياس التبن وما تيسّر لنا من الحنطة ونحضرها إلى هنا، تكون الفرس قد ارتاحت ثم نهمّ
عائدين..
هكذا خطر لأيوب أن يفعل. ثم تمت المهمة.. وهي تتمدّد أمام أكياس القمح.. قوائمها تفترش الأرض.. ورقبتها تميل
نحو بطنها. مغرورقة العينين كأنها بكت بكاءً مراً. والقمر بدا أكثر ذبولاً وحزناً. تحقق لها ما لم يتحقق لأيوب. ولا
لأهل القرية جميعهم بكل عظمائهم وزعمائهم وأسيادهم وآتلهم البشرية السائرة نحو المجهول.
هي فارقت الحياة ولم تفارق القرية. ترحماً عليها وحسداً موتها تحت ذاك القمر الشجي.
قال أيوب الصغير: إن الخيول تموت واقفة، هذه الفرس ارتمت فوق تربة البلد، في ساحتها، تحت جامعها، تنشّقت آخر
نفس من حياة من نسائم رقيقة فيها مزيج من أنفاس مازالت تتصاعد، لذلك مهما قالوا.. ومهما كان موتها موجعاً إلاّ
أنها لم تسقط.
هل كانت ستعاشر زاروب المخيم لو بقيت حيّة وعادت ثانيةً؟
أين ستجد مأوى مع ناس بلا مأوى؟
كيف
ستعيش على ذكرى السهول وعشرة الخيل وميدان الأعلاف
وأين ستجد ربيعاً سندسياً يانعاً، يحمل لها موسماً من
اللذّة؟!
كيف ستجد القمر هنا؟!
وهل تحيا بدون ذاك الشجيّ الدافئ كأنه وسادة من قطن والملتمع كأنه قمرٌ من إبريز؟
ردد صابر قول أيوب الصغير:
- نعم الخيول تموت واقفة.. وهي عاشت واقفة، ولكنها لم تنكسر كغربة جدك أيوب وحياته الممتدة في شرايين المخيمّ
ولم ترمها رياح التشرّد في أربع جهات الأرض كأنساله الذين ينامون على اسم وحكاية وعمر ينساب في محيطات
غامضة وكحليه اللون والضوء والأنسام..
رد أيوب الصغير مؤكداً لتعليق صابر:
جدي أيوب بقي صابراً يلوك العذاب والفراق، حتى فارق الحياة ودفن في المخيم..
رحمه الله كم كان يتمنى لو جلس قرب الفرس الأصيلة في ساحة البلد ونظر إلى القمر والتف حولها ثم التحمت روحه
في ذرات الهواء المشبعة برحيق زهر الليمون اليافاوي.
من رواية (سفر أيوب)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر