وترٌ من قمر




ولد غانم تحت قمر، غير هذا القمر، يرتفع فوق قرية فيجعلها دائماً تخرج من النسيان لتصير معزوفة على وتر
أرضها ليست مثل هذه الأرض تتسع للحساسين والبلابل، واليعاسيب وحتى لدبات النمل، وتحليق الفراش.قمر يستقر
فوق قرية جميلة تتوزع داخلها البيوت الطينية، المملوءة حيطانها من الخارج "بجلة" البقر، المنشور في الشمس، كي
يستخدم في طهي الطعام وإشعال المواقد
ولد هناك من سلالة عائلة، تمتد نحو الأولياء وتكثر فيها الزعامات والمقامات والطقوس، الدينية، والصوفيّة وأهل الأرض وفالحوها
على أرضها انتشرت البيادر وتين القرية الشهير المسمى "الموازي" تيمناً بلذة طعم الموز. ولها حواكير وبيادر
وأحراش من الصبار والزعرور والزيتون والخروب والدلب والسماق. وتفترش في ربيعها أثواباً خضراء من الطَيُّون
ولها وعر، يمتد ودياناً تنمو داخلها نباتات طيبة آالزوفة والزعتر والميرمية والسنارية والعكوب والقَرصْعنّة وكل
أنواع البقلة التي تجلبها النساء بعد أن تهيج من أول زخة مطر
ولد غانم في "الغابسية"، "قرية الرماد"، وصديقة القمر. المعلق فوقها، مرت تحت ظلهِ قبائل وأمم على مر التاريخ
عبرت وهو مستقر فوقها. لم يهجرها قط. يرافق حياتها ومماتها، غرسها وقلعها، زفرات حُزنها وأصوات فرحها،
زقزقة طيورها شاهد على محراب جامعها، وصلاتها. مرافق لنغمات غنائها وضربات الأرجل في ساحاتها لحظة
الدبكة وبعد موسم الحصاد أو ليلة الحنة
تعمّد هناك في معمدانها، وصدحت الزغاريد للذكر المولود والنفر الجديد. لعب تحت "السدرة" هذه الشجرة العملاقة
المقدسة، المزينة بالحرز والرقية والشرائط الملونة ذهب مع والدته التي نذرت النذور، وحدثت المقام لحماية هذا
المولود من شر "العدوين" تشكره بالنعمة وبالخصب وتلعن أيام المَحَل. القمر صديق غانم.. وصديق السدرة، كانت
والدته تحلف باسمها.. تقول "وحياة ستنا السدرة!!"
فهي مثل الكثيرين الذين يقسمون أنهم رأوا السدرة تسجد ليلاً
فتلامس أغصانها الأرض
ظل يؤمن بكل ما تعلم هناك، فالسدرة هي رمز الخير العميم فلا بد من شكرها على ما تسبغه الطبيعة عليهم من نعم
فهي إيذان بانبعاث الحياة بعد أن يهزمها الشتاء
لقد أضحت القرية آلها بالنسبة له ترمز إلى سطوة الطبيعة، والتندر بصحوة الحياة، هي أسطورة من حكايات. وآم من
شعوب مرت على درب القرية وبقي الشاهد هذا القمر صار غانم طفلاً قوي البنيّة. غاصت قدماه في تربة البلد. طارد
العصافير ووصل أعشاشها، لاحق الكلاب الضالة ودخل بين أشجار "العليق" يبحث عن ثمره اللذيذ. جرى نحو جنينة
"التفاح" بالقرب من مغارة عيشة. ومروراً إلى وادي جعيتون الذي يفصل بين الغابسيه والكابري. حتى وصل إلى
أرض الغبينة على الطريق الترابية لمدينة عكا
كبر غانم في القرية، صار فتى أآحل، ممشوق القوام، مليء الجسد يعنتر شاربيه، تحسبه قادماً من "إسبارطه" له طلعة
جالوت الجبار. كانت الحساسين تهوى الوقوف على آتفيه والصبايا يَختِلسْنَ النظر إليه من بين شقوق النوافذ، كيف لا
وهو رافع "العَمْدَة"، وهي شرعة يتبارى الشباب في حملها أشبه بجرن الكبة. وما تحداه أحد وخرج فائزاً. لا يتم عرس
إلاّ بحضوره ولا تُجْلَبُ عروسٌ دون أن يقود لجام فرسها. "الغابسية" تعتبره جالوتها. شجاع عنيد، محارب للذود عن
كرامة البلد والضعفاء، من لم يعرفه كأنه لا يعرف القوة ولا الجمال ولا الرجولة. حاول أترابه تقليده فما استطاعوا
يسير نحو عين "العسل" حيث تجتمع النساء لِمَلْءِ الجرار، وهي قريبة من الكابري وترتادها الصبايا. آانت هناك
محطة اختيار العروس
عندما كانت العروس تجلب من بلد إلى بلد، آان على أهل العريس أن يقدموا رافع "العمدة ". وقبل جلب العروس تدفع
"العادة" وهي عشر ليرات فلسطينية
يرفض غانم أن تدفع العادة لأهل الكابري. لا لشيء سوى أن العريس من الغابسية. لذلك آان يفضل خطفها من عين
العسل، حتى لا يدفع لأهل البلد هذه القيمة المسماة "العادة"
له صوت جميل، يرتل القرآن، بصوت شجي يطلق الأشعار فتأتي موزونة مقفاةً، يمشي أمام المواكب في ليلة الحنّة
يضرب السيف بالترس. يراقص الخيل، يلفّ عنقه بثعبان كبير، يتلوى معه وبه على وقع الأنغام وصوت الزغاريد،
ومن بين هواياته المفضلّة جمع الأفاعي في "القُفة"
الفجر هزيمة القمر، في القرية كان غانم يستشعر ساعة العمل أول من يكتشف نجمة الصبح، ويهزأ ممن تغويه نجمة
"الغرّار" التي تغر الفلاحين، وهي نجمة آبيرة تشبه نجمة الصبح وتأتي قبلها
فهو يدرك النجوم من نجمة الميزان إلى نجمة الثريا. لذلك آان أول الناهضين. يلملم فراشه الصوفي من فوق مصطبة
الدار ويرميها فوق السدة
يرتدي قميصه الأبيض ثم سرواله الأسود. ثم يأتي بالشملة المعلقة على الحائط ويلفها على الوسط
يخرج إلى ساحة الدار يرشق وجهه بقليل من الماء ويفتل شاربيه ثم يذهب نحو الطابون يحرك نيرانه الراقدة، يضع
عليه لزقات العجين المنقوع بزيت الزيتون.. ثم يهيئ بقراته يخرجها نحو التبان ويخرج من الإسطبل، ينكزها
بالمنساس ويدفعها أمامه، يعبر ساحة الجامع يصلي مع الجماعة ثم يتجه إلى الجورة، فالمقبرة، ثم يصل البيدر
قدماه تتبللان بندى الصبح، يلاقي أسراب الذاهبين نحو السنابل. يردد دائماً: "أشكر الله، هذه أم الخيرات والعيشة الهنية
واللقمة الطرية، بلدنا أم الجود والكرم"
عند الظهيرة يحدد الوقت بأن يقيس طول ظلّه. ثم يتناول زاده تحت شجرة جوزٍ وارف.
عندما يتمدّد في ظلها هرباً من وهج شمس الظهيرة، ينظر إلى أغصانها ويبتسم. يتذكر قصة حدثت مرة لإحدى صبايا
الكابري جاءت متسللة إلى شجرة الجوز. صعدت فوق أغصانها وملأت سلتها ونزلت. فكان كلبه الوفي لها بالمرصاد
فهاجمها بقوة حتى رمت كل حبّات الجوز من يديها وأفرغت ما في سلتها ولم يكتفِ بهذا بل عضها من رجلها
يومها لم يفلتها الكلب وهو ينبح حتى سمع صوته من بعيد وجاء مسرعاً لإنقاذها.. حملها إلى أهلها وهم بدورهم
أسرعوا بها إلى مدينة عكا. حيث عالجها طبيب من بيت قطران
صنعوا لها سريراً تحت شجرة برتقال. وبقيت ممدّدة فوقه. حتى حضر عسكريان من الجيش البريطاني.. جلسا أمامه
وأحضرت والدتها لهما صحناً من التين. فنظرا إلى قدمها الملتهبة، والشاش المتعفن فوقها فسألاها عن الإصابة. فقالت:
عضني كلب. كان وقتها يرافقهما كلب. قال أحدهم أن الكلب (فلن) لا يعض.
ثم قاما على عجل. وأحضرا طبيباً.. ووضع لها شاشاً جديداً، ودواء، وصار يأتي كل صباح ويحمل لها البسكوت
والحلوى، لمدة دامت خمسة وأربعين يوماً حتى شفيت تماماً
قام والدها ومد يده إلى جيبه وأخرج ما فيها من نقود وقال: خذا ما تريدان. فلم يرضيا. يومها كان عندهم كلبة قد أتمت
ولادتها.. وأنجبت جراءً صغيرة. فأطلقت على إحداها اسم "فلن" نسبة لكلب الجندي البريطاني
كبر هذا الكلب المسمى باسم إنجليزي. وبقي ملازماً لها. لا يترك الدار، حارسها الأمين لكن عندما جاء اليهود إلى
الكابري.. وخرجوا هاربين نحو ترشيحا.. لم يخرج معهم انتظرهم خمسة أيام.. وبعدها لم يتحمّل الفراق وتبعهم إلى
هناك ليسير معهم لاجئاً إلى المنافي البعيدة
ظلّت شجرة الجوز.. تناجي خيال غانم، وتدغدغ في قلبه حكاية حب لتلك الصبية الكابرية

من يخلصنا من آيد غانم هذا الذي يتمختر في القرى بعضلاته المفتولة وقامته الممشوقة المهيبة. وبطل يطارد قطاع
الطرق.. ويلملم الأفاعي في قفته

جماعة من عرب الرمل يعتبرون أنفسهم رجال المنطقة وأبطال الساحة، والمنافس ينغّص عليهم فرادة الزعامة وادعاء
الشهامة ويفسد احتكارهم بالتحكم في حياة القرى، فلم يعد مسموحاً لقطعان ماشيتهم أن تعبث في ارض الفلاحين فساداً
وغانم لهم بالمرصاد، لذلك أحضروا تنكة مليئة بالذهب لمن يخلصهم من هذه "الآفة" وهي ثمن لرأس غانم. فمن
أكلت الغيرة قلبه مدعو للاستجابة إلى نداء الذهب
كان يجول في البراري وحيداً إلا من حصانه الأسود. يسير في الحقول ويقفز من فوق السواقي. الممر بين قرية "دير
الأسد" حتى "الغابسية" طويل متعرّج والليل يسدل ستاره على جوانب الطريق
بدأ انهمار الرصاص، قفز عن فرسه وبقي رباطه معلقاً في رجله حتى وصل القرية. ونجا من الموت.بقي غانم شارد
الذهن يجوب في القرية يبحث عن سبب أو من يجرؤ على فعلته. تسلل بين الوشاة، فعرف ثلاثة من القتلة.. طاردهم في
الجبال أياماً ولياليَ حتى ألقى القبض عليهم وأحضرهم مكبلين إلى ساحة البلد.. واعترفوا بالبقية والدافع والمحرض
في موسم الحصاد، قرر أن يتناول زاده هذه المرة ليس تحت شجر الجوز.. بل في فيء تلة بجوار الحقل. أكمل طعامه
ومسح فاه بطرف حطته السوداء وبدأ يلملم بقايا الخبز المتناثرة من الزاد ليلقيها للعصافير.. وإذ بشخص محرض أيضا
يدحرج صخرة كبيرة من على قمة التلة.. التفت غانم نحوها.. فعرف أنه المستهدف بالقتل
سمّر قدميه بالأرض وتصدى للصخرة المتدحرجة وتأبطها بهدوء حتى توقفت. استهجن الحصادون المشهد. وسقط
الفاعل أرضاً وهو يرتعد.. فغانم ما زال حياً.. فقبض عليه وسلمه إلى المخفر
كان أبو ديب ضعيف الجسم والقلب معاً، يعمل راعياً لأغنام الفلاحين.. ويذوب غيرة من جبروت غانم، لكثرة ذيوع
صيته وتندر النساء به واتساع دائرة المعجبين والمعجبات بطلعته وهيبته قرر المساهمة في قتل غانم. انها مغامرة لا
شك، لكن وجود غانم حياً آان يشعره آل يوم بعقدة النقص لديه. لا بد من الإقدام على كسر المرآة حتى لا يرى
صورته داخلها
ذهب لمدينة عكا، لشراء المسدس، ودفع ثمنه تحويشة شهر وانتهز الفرصة المناسبة فكانت ليلة ظلماء على طريق
الكابري عند عودته مساءً من عين العسل، حيث آان يغازل فتيات البلدة
قرفص بين أشواك العليق جهّز المسدس جيداً،كي لا يغدره في فعلته. صوبه باتجاه الطريق.
بعد ساعات من الانتظار، جاء الصغير من بعيد، الرجل يسير وآأنه يرقص.. وينشد على أنغام وإيقاع سيره وحيداً
طرباً كأنه في عرس.
عرف أن القادم هو غانم
وصل صوب المرمى.. صار على بعد ثلاثة أمتار فقط، أراد أبو ديب أن يطلق الرصاصة. حاول أن يضغط على
الزناد.. لم تطاوعه أصابعه المرتجفة.. تحرك قليلاً بين أشواك العليق اليابس، فخرج صوت هسهسة من جانبه.. توقف
عن الصفير ونظر باتجاه الصوت وصرخ: من يختبئ هنا؟
أبو ديب قد فقد أعصابه إلى درجة أنه بال في سرواله.. تقدم نحوه، عرفه، وألقى عليه التحية وواصل المسير كأنه
يريد للتاريخ أن يكتب بكبريائه.. لا بهزيمته.
من رواية سفر أيوب

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء