وهل يموت القمر؟
ذات قمر، مات منذ أدمنّا الموت. فالقمر هجر القرية وقرر الخسوف فجأة بغير موعد وبدون سابق أنذار، أخذ أجازة نهاية الحياة، ولم نعد نره هناك، وحكاية غانم مثل الموت تروى من ذاكرة قررت هي الأخرى أن تقبض على الحياة وتقدم أوراق اعتمادها للغربة في مرتبة لاجئ فوق العادة.
عظمة الموت عندما التقى غانم مع حبيبته الأرض..وخلفه بكى القمر في نحيب ما زال يزن في عقولنا ويختمر. ربما يحسد الارض كيف تبتلع ظله وحدها.
كان الموت احتفالاً لأنه للعظماء، وصار العظماء صغاراً فصغرت هيبة الموت معه.
هل قلت لك كيف مات غانم؟؟
إن لم تعرف إحتفال الموت ، لا يمكن أن تعرف بهجة الحياة!!
حتّى مهما كان سبب الموت سخيفاً.
كان مولعاً بالنّساء، حتى أنه قد تزوج من أربع نساء، آخرهنّ تلك التي رمت له منديلها المعطّر، في ساحة " الغابسية " وهو يهمّ برفع العمدة أمام أعين الجميع. قال لمن هذا المنديل الطيّب الرائحة؟ صاحبته حلال عليّ، وتزوّجها.
ذات قمر كان يسير في البراري وبين بيادر القرية، غير آبه بتحذير الشيخ محمد العبد الله، الذي كان يحدّث الجان ويكتب الحجب ولا هم له إلا التعبّد في صومعته، كان يقول له: اذهب يا غانم.. شرّق وغرّب.. لن نقتلك إلا دابة الأرض وعنى بها الأفعى. ساعتها قد رأى في نهاية الحقل، مريم الكويكاتية آتية من بعيد تتغندر بمشيتها مثل مهرة جميلة.
أسرع نحوها، عبر الساقية، ودخل عالم السنابل كانت تملأ جسده الطويل، حتى فوق الركبتين، ثم صرخ والتفت خلفه فكانت أفعى صغيرة، لا يصل طولها ثلاثة أشبار من كفّ اليد وشبرين من كف يد غانم. سار نحو القرية وهي عالقة في كعب رجله يسحبها وراءه والسم يسري في عروقه. جلس على حجرة ونزع أنيابها بقوة، ثم فتح الجرح ونادى أخته أم داوود لتمتص السمّ فعضّت على رجله وضغطت عليها وصارت تمتصّ الدماء منه وتبصقه أرضاً. لم تنفع المحاولة ربط ساقه بخيط رقيق حتى بدأت تتورّم وتزرق.
وبدأ السم يسري في عروقه.. فانتشر الخبر في القرى المجاورة جميعها.. وصاح الرجال.. أيتها النساء هاتوا الخوابي الزيت والحليب.
هرعت إلى دورهن يحضرن ترياق الحياة لغانم فأجمل رجل وأقواهم على الإطلاق يسري السم في عروقه.. جلس على عمدته في ساحة " الغابسية " ينظر إلى البعيد في سهولها .. وكرومها وبياراتها وبيوتها الطينية ويلتهم كل الخوابي التي تحضر بين يديه.
دبّ الخبر الفاجعة أنّ غانم يعاني من سكرات الموت.. وأنّ السم قد يقضي عليه.. حضرت النساء لإلقاء النظرة الأخيرة على متوفٍ حيّ يجلس بجسده الممشوق في ساحة البلد.. وينظر وهو داخل المشهد.
أتت القرى وفوداً وراء وفود. يتقدمها زعماؤها ومخاتيرها. تسير مواكب حاشدة من أمامه وكأنه يوم الحشر.. يحمل سناجق وصولجانات وبيارق يمرون من أمامه بأبهة ومهابة. كانّهم في وداع جيشهم الذي يجرجر أقدامه مهزوماً. كان احتفال الموت يأتي من كل حدب وصوب أتوا في حشد لم تعرفه البلدة ولم تشهده من قبل تهاليل ومواوويل.. كان ينظر لكل وفد يمر يطلق الأشعار بتلقائية فريدة، عندها مرّت أمامه أخته أم داوود فقال لها:
أختي يا أم داوود لا تحزنينا| اللي ما أكل من تين " الغابسية "| مات حزيناً..
فصاحت مودعة:
يا دار العز إن كان خيك هون| قعدنا وبقينا| وإن كان مش هون ضلينا راجعينا
فردّ عليهم غانم:
قولي يا دار العز مالك| مات خي ولا ضاع مالك
ثم جاءت بنت عمه عيشة وقالت:
يا دار العز غانم بانيها| الدار بقيت ومات بانيها.
فرد غانم عليها:
يا زارع الدوالي بدار خلالي| حزين اللي راح على بلاد وخلّاكي| حزين اللي قطف عنب وما طعماكي
ثمّ تقدم وفد من قرية الشيخ داوود وقال شاعرها:
يا حمام الدار نادي| مات كبير البوادي| صحت يا دار العلية| ليش ما تردي عليّ
فأجاب غانم:
قالت روح وتركني بحالي | أنطفى الضيّ اللي كان فييّ
توافدت قرى الكابري وأم الفرج، والنهر وجدّين وترشيحا وعمقا وبقي الوداع مستمراً حتى المساء، والقوّالة تردّ وغانم يجيب...
ثمّ تغرب عيون غانم، وتهدل رموش عينيه كأعشاب برية وتنسحب من حدائق عيوننا ويرحل..
كان جالساً، طوى رقبته وفي احتفال مهيب لوّح بيده وفارق الحياة. وبعدها علت أصوات الجوامع والكنائس في القرى المجاورة المحيطة بالغابسية ابتهالاً بالرّحيل وبالرّاحل.
مروان عبد العال...مقاطع من رواية سفر أيوب
تعليقات
إرسال تعليق