في النكبة تحترق أصابعي كي تكتبك!
يمتدّ فيك البعيد لأقترب أنا، وفي النكبة تحترق أصابعي كي تكتبك. أحسد صوتي العائد بصوتك وهو يناديني: عد إلى همسك الأسطوريّ، عد إلى آهات تاريخك، إلى قمر يقطر من نهد الليل كي يرضعك. لتكللني بالصّلاة وتحرقني بالياسمين، في بحر من الرّغبة.
عد إليّ ولتقل الريح ما تشاء.
أنت يا فلسطين دمعة، تمتدّ فيك نكبتي. بل أنت طعنة تلد توأمين.
أنت وشقائي. طعنة أني لم أولد قبل النّكبة، كي أنتشي بمعنى البقاء، الذي لم يكتشف يومًا نفسه في قاموس الفراق، وطعنة أنّي ولدت بعدها، على فراق ما عرف يومًا معنى اللقاء.
أولد تحت صقيع بعيد كي أكون أنتِ، نصف رئة تتنفس هوائك، وتنتشي بأريج البراري في خوابي القرى المهجورة، حزينة لغيابي أسمع نحيبها وهي تنصت إلى وقع خطاي تدبّ في تلالها وهمس قديم يداعب أعشابها. حيث كان والدي يلعب طفلاً هناك، وروح سلالتي التي انجبتني كفرح مليئًا بشموخ الرّوح والتي تغرّد حولك ، تتسلّل خيوطاً من نور خلف ستائر نافذتك،أنتظر بصيصها كلّ صباح، حتى أدخل معها إليك،متدثرًا في شعاع الشمس، حينما ترمي ببعض عطشها المسافر على وسادتك.
هل رأيت شكل الشمس وهي تذوب من العطش ؟
حدث يوماُ، منذ قدر من النّكبة، يوم واقعة الاقتلاع التي ما صدّقنا أنّها ستدوم ستون عاماً وعام..
لم نعد نرى الشمس وهي تلتحم بينبوعها في أفق بحريّ يداعب عيون عكّا. ورمل ساخن يقطر دمعاً على أسوارها.
هي أنا يا أنت. شامخة منذ النكبة على مفارق الصّبر وترهن المساء لكأسها الباردة، تتكئ على أعمدة الدخان الصّاعدة من رئتيّ حتّى التعبد.
هل وصلتك أخباري؟ ما أحدثه سكّين النّكبة في جسدي، تمزقني على موائد الدّول الرحيمة واللئيمة وتحولني لقطع من دم ولحم، وتبقين أنت وحدك حلمي.
هل رأيت ما فعلته قساوة الغياب في وجهي؟
الهزيمة العالقة كندبة على جبيني، دمغة النكبة التي تطارد وجنتاي كي لا تبتسم، حتى لا يعود وجهي يشبهها. ولكنّي مازلت على الوعد أزحف على رؤوس العواصم ولا تقطفني شوارعها، حتى أمحو أثر النّهار عن تضاريس جسدك وأغسل أقدامك عند كل حدود ومطار وحاجز وجدار ومركز تموين وهيئة إغاثة.
وعدك القدسيّ أن نلتقي في مركزنا الروحي يوماً، حيث تدورالأرض وتنطق بسلامها وتستعيد شجرة "السدرة" هيبتها وتزغرد وريقات الحنون، تبوح بسرها في قطعة سقطت من فردوس السّماء كي تستقر في الجليل، وحتى تلك اللحظة ستبقى مخيماتنا متكئة على كتف الذاكرة والحلم.. كلّما تمرّ سحابة تطلق أغاني الجفرا والدلعونا وظريف الطول.
ستحمل إليك مطراً من أحلامي وإن سقط على ثيابك لعاب السّماء أكون قد بللت الجفاف وغسلت أغبرة الشّوارع.
فرس جدّي الأبيض ينام خاشعًا هناك، قرب طاحونة البلدة، يستريح من تعب اللجوء عند حافّة الليل. وحكاياته تدغدغ الغفوات وتضرب عري الجرن مدقّّة، لتحيل عظامي مرهماً وتدهن وجه القمر. قمر فلسطين الذي يتمرّغ برملي السّاخن يغسل وجه الليل ويسرق من غابات روحها سرها الكرملي.
يعلن النهر هيجانه الوحشي ويستفيق على وقع شهوته الخضراء، وكلّما سقطت من جسدي قطعة ستولد لك زهرة تفيح بأريج البرتقال وذراع النّجم إن التوى سيكون صدرها حتى الرّكوع يفيض بطعم يحتوي مرارة السؤال!
سؤال متى نعود إلى فلسطين ؟ وهي تصرخ من أعماقها كي ندعها تعود هي إلينا وفينا، تتجدّد داخلنا ذاكرة وحلم وقضيّة. تذكّرنا كلّ يوم أن الجهل والتخّلف والتّعصب أيضًا نكبة وأنّ الخنوع نكبة وأن الذلّ والنسيان والانقسام والتمزق أيضًا نكبة.
تدعونا كي نستحقها حتّى تستحقنا. أن نكون عشّاقها حتّى الدّم، يهون أمام جلالها أي هوى ونزوة ومصلحة ومنصب ومنفعة.
هنا وهناك، هكذا هم أبناؤك، أولاد التراب وحفيف الأوراق، ننشد حضنك هروباً من ريح باردة. تعصف بإحساسنا على مدار النّكبة. تزفّك على وهج الغياب نحو حضن يقيّدنا إلى الأبد. هنا وهناك حيث أنتِ، وشال الرّيح يحفّ بخاصرتي يوقظ النقيق هناك وهو يهتف في أذني : مت بصمتك !
الأقفال مغلقة كي توصد أبواب الأمكنة وتتبدّل وننسى طريق الإياب.
خذيني فلسطينياُ حصرياُ كي أتساقط منك وجعاً وشوقاً وسرّاً و حلماً وعرقاً يتصبّب من رمح الحرمان. حرارة الأنفاس تمسّني كتيار من عشق يدخل الأوردة يبحث عن مجراه، يفيض بماء الحياة . كي يقاوم الموت الفاغر الفاه على أبواب مدارس غزة.
أنتِ فلسطين، أمّي التي أنجبتني من عهد الحكايات القديمة، ترقص على طرف شفرة ،وتبحر بالسكين.
أنت حبيبتي الكنعانية تمارس السّحجة في ضوء الشّهب وتفتح صدري لبيادرالقمح، وتصنع من زفة العرس أرغفة. تجوب المخيمات، بشتى الأنواع ومن الطراز القديم والحديث والمعدّل والمحسّن ولكنّها حافية في الشوارع، تنهشها أنياب البؤس وهي تحمل شالها الفلسطينيّ درعاً من الذكرى التي تأبى النسيان.
أنشلخ لفراقك المرّ أيّتها الجليليّة، و لم أكن أعرف أنّ الشوق مادة قابلة للانفجار، عندما أدنو بلهفتي من عينين فلسطينيتين حتى الاحتراق مثل عود الثقاب. يمرّ غزال الوجع في خاصرتي، وتصهل خيول التمرّد في سجاياي.
إحذري هذا العصف المتشرّد الهادر في عنقي ينحني لكبريائك ولم ينكسر. حتّى لو صار كثبان دمعها تتخثر في بادية الغيم. من الغبن سيدتي أن يتكاثر الحكماء في لغة واحدة، وتتعدّد الأناشيد لوطن واحد، وتتصارع السّلطات في رقعة واحدة.
من أجلك وحدك أسمح لنفسي أن أدخل طوعاً في دهاليز الوشاية، أعلن لهفة للتّساقط من ترابي وللتوغّل في الزرقة وفي الكلام. أمتلئ بحيرةٍ من عروقي، لأمحو معالم الأرض وأخطّ بحبر ناريّ، وبلون شرايينك.... كتاب حريّة.
معك ريشة روحي تتمرّغ، أصير حفنة ريح ، وهفهفة مثل زغب الأشجار وأنثرك عطراً و مطراً.
أحضنك كريشة طائر، وتعذريني بقولك:
إفعل ما تشاء فأنتَ أناي .
سأذهب يا أنت إلى ألدّ بحرٍ لبحرنا ورملِ لجوعنا ولأرقص موسيقى العواء، سأضعك في زنزانة بحجم قلبي وعلى مدار نكبتك عاماً وما بعد الستّين.
أخاف العتمة يا ريح، عندما تقرّري أن تعبريني نحوها ، ولا أكون معك. فأنا المحكوم بالتمتمة يبعثرني عشقها في طقوس من الهذيان.
معك ينفجر كياني، ومن أجل ملائكتك الضّائعة يتحرّر شيطاني، ويجول في الطرقات والمنافي، وعندما ألتحف في العراء ثوب نضالك، تتسلل في مساماتي الكلمات، ومهما كان صليب الغربة دامياًً، فعطر ترابك يعبث بي حتى التصدّع. أقاتل لأجل موسيقاك التي تنتشل من أعماقي لحن خلودك وأكتب حتّى يستفيق الحبّ من ثمالته وأنشد لأسمك أغنية الحريّة إلى الموت الجميل.
أنتِ فلسطين، وأنا أنتِ، مطلياً بزيت زيتونك الرّوماني، عطر زهر ليمونك وموشّحاً بسمرة تماهي لون عنبك الخليلي. سأبقى أقسم بالزعتر والحبق والنعنع، وأرشق عهر العالم بطهارتك وأستجدي من وجه الدّنيا ضحكة أطفالك.
لأنك أنتِ فلسطين، لكِ تحتشد المعاني وتنحني كلّ آيات التمنّي حتّى احتراف الوجع وحتى آخر الصدى.
مروان عبد العال
فلسطين تعرفك حتى وان لم تلمس قدماك طهر ترابها. تعرف كلماتك التي تغنيها بها دائماً، تعرف نضالك الذي لا ينتهي، تعرف فخرك بكونك فلسطيني ابن فلسطيني لتعرف عن نفسك بانك فلسطيني. ما دام هناك رجال مثلك، فلسطين باقية فلسطين حتى وان طالت صحوة الفجر.
ردحذفأزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذفالبسيه يا غمامة السماءحتى نلتقي قاب عناق او وطن لنكون له خارطة مطعونة بالشفاء.بالكبرياء وسرج للزمان من حنين.البسيه وابدئي بطقوس العودةلنتعرى من غبارنا,ننتقع في ذاتنا كما الصلصال ليسقط الوعي منا فوق بنفسج يمارس البنفسج حتى الكمال.
ردحذفالبسيه يا غمامة السماءحتى نلتقي قاب عناق او وطن لنكون له خارطة مطعونة بالشفاء.بالكبرياء وسرج للزمان من حنين.البسيه وابدئي بطقوس العودةلنتعرى من غبارنا,ننتقع في ذاتنا كما الصلصال ليسقط الوعي منا فوق بنفسج يمارس البنفسج حتى الكمال.
ردحذفأزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذفرائع ما كتبت000
ردحذفوجع على ماكان 00 وامل لما سيكون000
وتبقى انت بين ماكان وما سيكون فلسطينيا حتى الثمالة000
أريد أن أخبركَ عن فلسطين..
ردحذفلا أعرف الفصح عما فيّ كما في كلماتكَ النثرية الشعرية..
أريد فقط أن أخبركَ عن فلسطين..
ليست هي بزيتونهاالروماني(!) وليست هي بزعترها وحبقها ونعنانها، هي فقط فلسطينا، لا دخل لكل كنائسها وجوامعها فيها، مداها أكبر من حدود الديانات والطوائف والحزبيات والتقاسمات،فقط هي الذاكرة..
فلسطين، جنوب سوريانا، ليست الألم، إذ أن الألم يُزال بالمسكنات لكي لا نعد نشعر به..
فلسطين،ليست أم، فالأم ترحل يوماً ما..
فلسطين هي عندما تستيقظ صباحكَ وتدرك كم أنتَ صغيراً أمام أرضكَ وأمتكَ وكم أنه مطلوب منكَ من النضال والعمل كي تصبح تُحسب أنت كفرد، كحجر للبناء المجتمعي كي تصل يوماً ما الى الرحيل، وتقول إنكَ كنتَ هنا، إنكَ ساهمتَ مع الآخرين..
فلسطين، كما ضحكة أبو أشرف وفهد وغيرهما في دبكة ما، في منزل ما، وذكرياتهما، وصخب ماضِ حاضر دوماً..
فلسطين، وعشقٌ أبدي،
فلسطين..والبدء، والآخرة..
أريد أن أخبركَ عن فلسطين..
ردحذفلا أعرف الفصح عما فيّ كما في كلماتكَ النثرية الشعرية..
أريد فقط أن أخبركَ عن فلسطين..
ليست هي بزيتونهاالروماني(!) وليست هي بزعترها وحبقها ونعنانها، هي فقط فلسطينا، لا دخل لكل كنائسها وجوامعها فيها، مداها أكبر من حدود الديانات والطوائف والحزبيات والتقاسمات،فقط هي الذاكرة..
فلسطين، جنوب سوريانا، ليست الألم، إذ أن الألم يُزال بالمسكنات لكي لا نعد نشعر به..
فلسطين،ليست أم، فالأم ترحل يوماً ما..
فلسطين هي عندما تستيقظ صباحكَ وتدرك كم أنتَ صغيراً أمام أرضكَ وأمتكَ وكم أنه مطلوب منكَ من النضال والعمل كي تصبح تُحسب أنت كفرد، كحجر للبناء المجتمعي كي تصل يوماً ما الى الرحيل، وتقول إنكَ كنتَ هنا، إنكَ ساهمتَ مع الآخرين..
فلسطين، كما ضحكة أبو أشرف وفهد وغيرهما في دبكة ما، في منزل ما، وذكرياتهما، وصخب ماضِ حاضر دوماً..
فلسطين، وعشقٌ أبدي،
فلسطين..والبدء، والآخرة..