تعبت من كوني إنساناً



تعب الإنسان فينا ، لقد نهشه الفراق . الفراق الذي ثمل من مرارة شوقنا، كي يستحق فرصة عمر جديدة وتجربة عشق لانسان غاب في المستحيل. إجازة نهاية الحلم نقترفها، نفترق عن ذواتنا و طوعاً وبالنفس الراضية المستكينة، تشبه تعب أحصنة الحرب حين تموت من الغثيان بعد لعبة الدوران في ساحات إسبارطة، تلقى عليك في فقه الرجولة وإفتعالها بالعبوس الأقرب لصورة ماكياج ذكوري، يذوب كالثلج عند أول حرارة صيف وتلفحك القبيلة حينما تهدي طفولتك في كل عيد دمية الحرب لتعلمها فنون الرماية، وتحَول أرجوحتك إلى منجنيق يرميك بكرة من نار، تتعربش نحو السماء كي تتدلى فوق أبراج المدن المحاصرة ، يضج قلبك بحنين ينصهر في نار الجسد، يغدو مثل عش النسور التي لا تعرف التعب، تحلق في سماء نقية كراية وطنية بالية، تحدق في عينيك ولكنها لن تكون أنت ، وأنا لن أكون أنا ، عندما أمتطي مهرتي نحو الفجر وعلى سرجها المطرز بخيوط ليل لا نهار له . لا تنفجر غضباً ، تلفظ غيظك بكل اتجاه خاطئ، فتختنق بالبصقة في حلقك ، تكتشف أنها تيبّست من تراكم الأغبرة.
تحاصرك الفكرة والنظرة والغربة المرَة واللغة الجنائزية السوداء، العابقة بأمنيات الموت، لازمة ترددها الألسن في كل مناسبة، كأنها اعتادت النعيق. وألفت الحياة كصورة من صورالتعب. يموت شخص عزيز فيقال: (لقد إرتاح). ترافقنا بكل فظاعة، تقيدنا على كل نفق ومعبر وسفر. تخرج كنواح دموي اللحن و المعنى في كل تعليق، تصير تعبير عن الفرح حتى الموت ..( متنا من الضحك) وفي الأمر تهمس:
( إنفزر) وتناول طعامك. ودائماً الوعيد لأصغر طفل ( دم يطرش من حلقك ).( وعزاوعزاين وثلاثة ) إن شاء الله ! ومازلت ابحث عن معنى التهديد( يقتلك حمد! ) ومن يكون حمد ولماذا هو يتربص بي.؟؟
نحمد الكريم على نعمته! حتى لو كانت مصيبة وقمة وليست نعمة ، ثم نشكر ونرتجي ان ينجينا من الأعظم! ودائما الخوف من المستقبل الآتي. الحمد الله (هيك ولا غير هيك!) تمر بكل التفاهات على عجل، تفطن لأدق التفاصيل التي تغلي داخلك فتبكيك، إن غاب الإنسان فيك، لن تتعذب كفاية وتمر على الإهانة بإلقاء التحية، فلا بأس إن نجوت من أعظم الأمور.. وقررت قبول دونيتك بحب وتودد وتبلسم خضوع الإنسان فيك، الإنسان الذي تطرب له الإذاعات والقاعات في مؤتمرات حقوق الانسان، الإنسان فيك قرر أن يرتاح قليلاً، وغطّ في سبات مذ أن صار الوطن قضية من الماضي السحيق ، صرت فلسطينياً، هوية الإستثناء التي تبيح للأنياب أن تنغرس فيك، وأن تغمض الشرائع أعينها عنك، ويصحو القانون بشقه المستبد لحظة إكتشاف بطاقتك الزرقاء، و لذاتك كل الإستباحات المزركشة .
مهما يكن فأنت غير الإنسان الذي قرر الاختباء في نفسي، يقظاً مثل صقر صحراوي، يتخذ من القلب وكراً، نازفاً بسخاء على الأرصفة يعزف للعابرين وقع الخطى. معلقاً كخرقة مهترئة يراقصها الريح، وينسج بخيوط دمي ملامح رمادية يستر عريها بشراعات المخيم .
إسمحي لي يا نفسي الغريبة أن القي بك جانباً ولو مرة، أن أخرج منك مدرجاَ بأحلامي . أغادر الغربة حتى لا تغدرني، أحمل حقيبة السفر وأفتش عن حضرة الإنسان المتربص خلف متراس رملي، يحمي النفس من شظايا هاربة ورصاصات طائشة. دعيني أجوب بأصابعي في أشواكك الدامية كي أُلامس عطر زهرك المرتعش على ندى الصباح البيتي، ففيك أجمع أجزاء نفسي المبعثرة في أخاديد الأرض.
تتحجر الدموع في عيني، أنسى ذكريات طرية طبعتها أمي على أمسيات جافة،عبرت وأنواع الفنون التي طرزتها أشعة الشمس من شقوق نافذتي وتتحول براعم الإبداع الى طقوس غير قابلة للفهم ، وأتباهى بنعمة الجهل وسعادة الغباء، تطرب التفاهة قاعات الفرح المجنون في أعماقي. أغادر فيها نفسي واقطع العلاقة مع كل الأشياء والأمكنة وأعلن موت الحس المرهف وجفاف الأوردة وتصلب المشاعر في أروقة القلب و تستحيل من نفسي معرفة معنى الأسماء ولا أعثر في قاموس الجيب عن جملة صالحة للقول أو للغزل، و تتحول الابتسامة إلى رقعة شطرنج على وجه محنط. أن تصبح مهنة الكذب والدجل أمراً عاديا ومرغوباً. وأن تجيد دور التافه النتن والانتهازي في ممارسة فن لعنة الشهداء والترحم عليهم في نفس الوقت.
كم تعبت من كوني إنساناً، كي أبقى إنساناً، يهوى لعبة الموت على أسِّنة الرماح، يقتات من الحبر ملحاً على جرح يشتعل بوهج الكلمات، يرسم على نبض الحب رسالة التمرد. يوزعها كخبز يومي تحت شجرة وارفة كي تحملني العصافير بين أحضان ريشها الناعم إلى عشها الشتوي، وتتزود طفلتي بدرس عن وطن دائم في ذكريات لا تموت وأحلام لا تنكسر وتطوي ظلي البهي، بلهفة جائعة لحب المعرفة و كفرض إلزامي في حقيبتها المدرسية. قد يكون الإحتلال في النفس أيضاً، ينتشر كالفيروس في اللغة والنظرة ويترّبص بنا على حافة الزمن بين دهاليز المكان.
سيدي الإنسان، وحدك تخطّ ألواني، وتوقد نشوة الحنان في أعماقي. أنحاز لك كانتماء و بدونك لا أعود أنا. فإصمد يا بلسمي الوحيد، حتى لا تغزوك جحافل الجهل وتحتل بهائم البراري كينونتك، وتعيد إنتاج الكائن الوحشي فيك بصورة إنسان.
إنتصر على الزيف بالحقيقة الراسخة فيك.

مروان عبد العال

تعليقات

  1. لا تجعل الفراق ينهش الأكباد الممتلئة حنينا لموعد الرسو .
    السّفن ملّت الغربة ، تريد أن تحطّ لتبحر من جديد مع موعد جديد لعمر يأبى تضييع المتبقّي من ألوانه الزّاهرةالواعدة بأملٍ يرشف الثّلج وحرارته والرّبيع وأزاهيره .
    أرجوحة الحياة فلتطفئها بعطرك الرّومانيّ المنبعث من أروقة اللّهيب المطرّز بخيوط اللّيل النّديّ.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء