نستطيع أن نخدع كل شيء ما عدا أحلامنا



غسان كنفاني
نستطيع أن نخدع كل شيء ما عدا أحلامنا


مروان عبد العال



أطلق غسان كنفاني هذا التحذير منذ أربعين سنة، أستعيده اليوم بمناسبة استشهاده السابعة والثلاثين، كأنما ينطق معنا وبمقال كتب ذات زمن ولكن ما زال يتواصل معنا والكذبة تطحن آمالنا، تنتشر كجرثومة تفتك في معنى السياسة وتطحن ما تبقى من أحلام لدينا في وقت تميد فيه الأرض تحت قضية عمادها العدل والحرية، استعصت على أنياب القتل والنسيان والضياع . واليوم تلوكها الخديعة، وصارت كمية الوهم فيها أكثر وضوحاً من الحقيقة.

إّنه سؤال الخديعة الذي أماط اللثام عنه غسان في مقاله الشهير عام 1971 وعلى صفحات مجلة "الهدف" التي يرأس تحريرها، حينما كتب مقالاً مثيراً للجدل وقتها وبعنوان:
" الدولة المسخ " عندما حصل على معلومة سياسية تقول أن مبعوثاً أمريكياً يحاول إقناع بعض الشخصيات الفلسطينية التقليدية في القدس بضرورة التفكير الجدي بحل لدولة فلسطينية على حدود حزيران عام 1967، فقام غسان بالاستناد إلى المعلومات التي حصل عليها ليقول أن هدا مجرد وهم، وان القبول فيه يعني تدمير الغاية الفلسطينية والعربية الجماعية للتحرير.

في المقال تحدث عن مقاسات دولة يشارك العدو وحلفاؤه في تحديد شروطها
وخاصة أن موازين القوى الإقليمية والدولية تهدف إلى اختراق يستهدف حرف مشروع التحرير نحو مشروع التسوية وهي بكل المعطيات الجغرافية والاقتصادية والسياسية لن تسمح بقيام دوله فلسطينية وطنية حتى ولو على قطعة من أرض فلسطين وإن حصل فستكون دولة عميلة ورجعية أو شكل من أشكال الاحتلال. وحذر من خديعة الشعب الفلسطيني ومن المناقصات السياسية وأثرها التاريخي على قضيته.

بعد أسبوع على صدور هذا المقال، ردت الجبهة الشعبية على الناطق الرسمي باسمها على نفس صفحات المجلة، لتذكر بأن ما قاله غسان كنفاني عن " الدولة المسخ " تنطبق على دولة بمعايير العدو، وان الدولة الوطنية وفق موازين قوى جديدة قادرة على تحرير أي شبر من فلسطين على طريق فلسطين الديمقراطية الكاملة هو هدف نسعى لتحقيقه عبر الكفاح ومذكراً المقال بتجربة فيتنام الشمالية والجنوبية.

لم يتوقف غسان كنفاني كمفكر سياسي مدججاً بسلاح الكلمة وبسلطته الثقافية عن دخول معترك الحوار لكل الآراء والمواقف ليكتب مقالاً آخر محذراً من المناقصات السياسية التي هي أكثر بشاعة من المزايدات السياسية، وأنّ الزمن كفيل بكشف هذه الخديعة، ولن تقوم الدولة الفلسطينية على جزء من تراب فلسطين وأن الهدف تبديد أهداف الشعب الفلسطيني وتدمير قضيته الجامعة بوصفها قضية تحرر وطني.

مضى زمن يفوق سنوات غياب غسان، على نبوءة ما زالت تتفاعل وبالتدريج كانت القيم معها تتبدل والهدف يصغر وعناصر القوة تهبط كي تتلاءم مع " واقعية " الهدف، ويصير التشدد والتمسك بأي خيار غير خيار التسوية عبر المفاوضات هو مجرد مغامرة وجنون، لندرك كم لحق من تدمير للقضية والغاية الجامعة والكفاح وقوة الحافز للتضحية التي نعيش فصولها، أين وعد الدولة؟ وما هي مقوماته وشروط قيامها. بالأمس القريب قام " نتانياهو " بإسدال الستار معلناً نهاية المسرحية السوداء، وأعطى للدولة الموعودة صراحة شكل ومضمون المخلوق المسخ.

متى ننتصر على الوهم ؟ لنفقه من دروس التجربة المرة أن موت القضية في تحويلها إلى جزيئات، ونتجاوزها بالانقسام ونبعثر ما تبقى من رصيدها. نفقدها لونها الوطني والقومي كغاية سلطويه " نذبح جمل حتى نعشي واوي" ونجردها من حقيقتها الإنسانية ونحن نلبسها أثواب فصائلية أو أيديولوجية، نفككها إلى حواجز ومعابر ومساعدات مشروطة من الدول المانحة. ورتب ومراتب وجنرالات ومدراء ووزارات. نبطل مفاعيل النضال ووسائل المقاومة بوسائط محلية وطنية صنع في فلسطين أو بخبرات أجنبية. تعيد صياغة الفلسطيني الجديد! فلسطيني " ديجيتال " بلا أحلام. ربما تحولت المهمة من دولة مسخ إلى إنسان مسخ.

واعلم يا غسان أن السلطة صارت فوق الجميع لها حق التكاثر والقمع فهي المسخ الشرعي ولكنها ليست الدولة، سميت أدباً ما قبل الدولة، هي الآن أقرب للشركة منها للسلطة، أعلنت إفلاسها فانقسمت وقد تصبح بعدد الفصائل، لأنها السلطة فهي المعجلة والقضية حاجتنا المؤجلة.

نمزق كتبك ورواياتك ومقالاتك ورسائلك وتحذيرك المرير بأن الخديعة توغل في عظامنا وتستشري في عقولنا، لم نتفق بعد، لم تتسع مساحة المدن المحاصرة لسلطة واحدة، فلا بد من ترسيم الانشطار رغم أن المخيمات تترامى منسية، شتاتنا يزداد شتاتا، صار المنفى الداخلي فيها يفوق المنفى الخارجي، معلقاً في الهواء وتبحث عن أرض ثابتة تقف عليها وفلسطين كلها ما زالت تنتظر العائد الى حيفا، لن تفتح بوابات الحدود من تلقاء نفسها. الحبوس أنواع يا ابن العم! أنواع! المخيم حبس، وبيتك حبس، والجريدة حبس، والراديو حبس، والباص والشارع وعيون الناس.. أعمارنا حبس، والعشرون سنة الماضية حبس، والمختار حبس. تتكلم أنت عن الحبوس؟ طول عمرك محبوس... لماذا تعتقدون أن سعد هو المحبوس؟ محبوس لأنه لم يوقع ورقة تقول إنه " آدمي " ؟ آدمي؟! من منكم آدمي؟ كلكم وقعتم هذه الأوراق بطريقة أو بأخرى، ومع ذلك فأنتم محبوسون". هكذا قالت أم سعد، قبل أربعين سنة، ونحن نعيش الحبس، في غزة حبس، والضفة حبس، والناصرة والمخيمات كلها حبس.. بالأمس قالت امرأة ستينية تسير على ما تبقى من شارع في مخيم نهر البارد: " يمّا العمر كله ضياعة، كلنا ضايعين، البيوت ضايعة والقضية ضايعة والشبابيك وحبل الغسيل والقمر ضايع، الصغار ضايعين، بخلقوا ضايعين وبكبروا ضايعين، وبموتوا وبضلوا ضايعين من يوم ما ضاعت البلاد. وزي ما قال المثل: " وقوم ضل ما ظل. "

قلت مرة لن نخدع أقدامنا، وأستودعك بالقول قد نخدع كل شيء ما عدا أحلامنا .
متى نعثر على سر الانتساب الحقيقي؟
فأنت من كتب يوما :
" لقد حاولت منذ البدء أن أستبدل الوطن بالعمل، ثم بالعائلة، ثم بالكلمة، ثم بالعنف، ثم بالمرأة، وكان دائماً يعوزني الانتساب الحقيقي. ذلك أن الانتساب الذي يهتف بنا حين نصحو في الصباح: لك شيء في هذا العالم فقم. أعرفته؟ وكان الاحتيال يتهاوى، فقد كنت أريد أرضاً ثابتة أقف فوقها، ونحن نستطيع أن نخدع كل شيء ما عدا أقدامنا، إننا لا نستطيع أن نقنعها بالوقوف على رقائق جليد هشّة معلقة بالهواء."

تعليقات

  1. قال غسان:( وكنت أعرف بصورة غامضة تستعصي على اللمس، لماذا بكيت دون إرادة منك. إنني أؤمن بذلك الشيء المجهول الذي يحمل نفسه على الكلمات ولا يستطيع أحد أن يعرفه.
    كنتَ، دون أن تدري، تحسها، تلك الكلمة التي تعني الانتساب والشقاء، وقد تعني عندك نشوة النصر أكثر مما تعني عندي، ان السنوات التي تنسرب من عمري تضاف إلى عمرك، والأمل عندي لا يذوي، ولكنه ينتقل إليك ويضاف إلى آمالك، ويكبر عندك.
    كنتَ تحس ذلك، دونما ريب، وإلا: فلماذا بكيت؟ )000 فضول طفل أم قدر رجل؟؟؟؟

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء