حاسة هاربة..فصل من رواية



سراديب الحيّ العتيق، تؤدي صلاتها تحت جنون النار، والجدران سقطت خشوعاً على سجادة عتيقة وسط البيت. صوت طفولي، برقّة الماء ينساب من بعيد، اقتحم خيالي المطارد من قرع القنابل واخترق أذني المصليّة بأزيز الرصاص، مشهد طفل رأيته مرة على ظهر سفينة عملاقة، يصرخ بأعلى صوته. يختلط لحن الناي مع هدير محركات الباخرة العملاقة. كأن البكاء يعاند عباب البحر. فكتبتُ يومها على ورقة صغيرة نقائض حواسنا الباردة: «دويّ محرّك وصوت طفل».
الصوت الرقيق، ينده من بين الخراب يفوح برائحة صوت أنثى، نسترقه من جوف الانفجارات وصدى المكان.
الأنوثة تأتي مثل ريشة نعام في واقع صخري، وتوحّد ذكوري موحش، لخمسة رجال غابت عن أجسادهم قطرات الماء، وثقل الهواء برائحة البارود، فحضرت إفرازات العرق، ورائحة الجوارب العفنة في مكان محجوز تحت الأرض.
أن تقول إنَ هناك صوت أنثى، في مساحة خلت من أقدام تدبّ على الأرض، كأنما حواء في الجحيم، وأن آدم قد استعاد ثأره التاريخي.
هل نضحك أم نبكي؟ عندما يختلط الحنان بالرعب، والحلم بالكابوس، مثلما يختلط الإحساس الدفين باحمرار الوجه وقشعريرة الجسد البارد.
الصوت الذي ينادي بنشيج مثل الغناء، بدندنة تقترب رويداً رويداً. فنهرب من قرف الأيام التي خلت إلى عطر نسائي غائب. ينسكب على اللحظة العفنة مثل وابل من ماء بارد.
«من يتبرع منكم بحياته من أجل امرأة؟». الأمر الطبيعي أن ينتخي الجميع للمهمة... بشهامة الرجال انطلق ثلاثة في عملية محبوكة لإحضارها إلى الملجأ.
الطريق مسيطر عليه برصاص القنص. سميناه: «ممرّ الموت». فالمكان هو الواجهة البحرية للحي العتيق في حارة النهر.
هكذا هم، يندفعون مفعمين بالرجولة، لإحضار ماء للشرب أو لقمة خبز أو دواء من سيارة الإسعاف، القادمة لإغاثتنا في لحظة هدنة تم ّ الاتفاق على أن تخرس لها البنادق لساعة فقط. يحضرون الترياق، من روح الموت مثل من يقطف الهليون من حرج الصبّار. انطلقت أيدي الرجال تبحث عن جنس لطيف يحلّق في سحابة فسفورية. «هي» الإضافة الجديدة إلى عالم الـ «هو»، فاستحقّت التضحية مثل لقمة العيش وقطرة الماء والظلال الباردة في صحراء خالية.
انتظار تحترق فيه الأشواق وتمتزج بألوان الغسق واختصار لدفء الوطن، يشعّ لوجه الملاك المرتقب.
استنهض في داخلي ذاك السؤال الطفولي، الذي استكان في عقولنا الصغيرة حتى عاد الآن: هل فلسطين ذكر أم أنثى؟ نستغرب لماذا نقول هذه فلسطين! وتصير من جنس الأنثى، وعالم «هي».
في الصغر، كنا نريدها من جنسنا. نتشبه بها، نريدها مرآة لوجوهنا وصورة لذواتنا. أكلتنا الحيرة، وصدمتنا الحقيقة، وهي تفتك بعقولنا الصغيرة، كما تفتك العقرب ببطن جيفة.
نشتكي من أنوثتها!
نريدها بطلاً أسطورياً قاسياً لا حكاية ورد، وغزلاً لقوافي الشعراء، فالوطن ينمو فينا رجلاً.. يفيض بفحولة شرقية.نستعيض به عن هزائمنا. نريده شهيداً وضريحاً وذبيحاً، ونبكيه ونرثيه ونخافه ونحبه، كي يكون خندقاً وشارة دم على صدر المدن.. ورائحة مسك على أرصفة الشوارع. وطن أردناه ذكراً وعشقناه فتاةً جميلة، تفوح برائحة الحبق و طراوة النعناع وجمال الدحنون.
ولدت هنا، في هذا الحي العتيق، في حارة النهر، حيث تلتفّ ذراع النهر وتلتقي مع الشاطئ في تشابك جميل على خاصرة المخيم... نكمل رقصة «التانغو» ونحن نعاشر حصاه اللزجة، ونداعب نعناعه البري ونستعيض عن الأصل بنسخة منقحة، تستعيد شريط الوطن مع أجنحة النورس البحري الهاربة من الأفق البعيد، والشمس التي تغرب كل مغيب، ونحن نسأل أين تختفي خلف البحر؟..
جدّاتنا يُجبن بأنها تذهب لتنام!... ولكي نكتشف خيالاً شاعرياً.. يقول لنا بأنها تذهب لتغسل قدميها في ميناء عكا وتعود... نظيفة مع فجر جديد.
كبرنا في الحي العتيق، مثل زنبقة بين الأشواك.. نعبث بالرقة في غربتنا الحادة مثل شفرات العشق الجارح، على ضفاف نهر جفّت دموعه بحضورنا، وانتشرت فراشات الفرح على أمسياته.
حضن مغمور بدفء الحكايات. لجوء مستطاب، نهرب إليه فزعاً من جفاف المنفى وإن كان من أجمل المدن. محطة نحمل فيها حقيبة الحلم وندير ظهورنا نحو الشمال، فسكّة الحديد التي تحاصره شرقاً تشير لنا بإصبعها نحو جهة الجنوب.
رقيب مخابرات بلباس مدني أنيق، يحمل كرباجاً، ويجول ليلاً كي يلقي القبض على الساهرين، على رأس فرقة من العسس، تسترق السمع وتتجسس على الحلم يدور في الأقبية المظلمة، وتمسك بكل مستمع لإذاعة مسموعة لا ترغب فيها السلطه، وتمنع أن يكون للمرء وجه بلون تراب بلاده، أو أن تكون أغنية للعرس، وشبّابة الراعي، وكمنجة الفلاح رفيقات لرقصه الشعبي. وتمنع فوق هذا كله التنقل، والكلام، والقراءة، والسلام بلا إذن من السلطة.
حي يتفلّت من قيده؛ يريد أن ينتزع زهرة حريته من وراء الأشرطة الشائكة، مثلما يبحث العريان عن رداء. حضر أول شهيد من أبناء الحي. من عملية تجاوزت الصفر وطاولت التوريط، قطرة دم على جسد مسربل بتراب الوطن ملفوف برايته الملونة، التي رفرفت في سماء الحي للمرة الأولى.
كأنما اشترى بالدم حضور الغياب ومزق حائط النسيان، فتغير النشيد فجأة وصار أستاذ المدرسة ينشد بدل «قوموا الى اللعب نبنِ لنا بيتاً بالرمل والخشب»، يصرخ على مدى الصدى في الصفوف المجاورة «سقط الشهيد ودحرج الحجرا...من قال أني لاجئ كفرا...».
الشارع العام صار محفلاً للمسيرات والاحتفالات الوطنيه يزدحم بأهل الحي وعلية القوم يتحاشرون في الصف الأول. الشارع العام تزحف على طوله الأجساد ويزدحم بصدر الحضور، كان للمسيرة صورة التراتب الاجتماعي وتأكيد الانتماء الوطني وإن كانت الصورة تعكس علاقة الصف الأول بالوسط بذيل المسيرة. في بداية المسيرة يصرخ قادة الحي الجدد: يسقط «وعد بلفور»، في منتصفها حيث الكادر الوسطي يردد خلفهم: يسقط «واحد بلفور»، أما الجموع التي تسير في الخلف فَجُلّ ما سمعته ورددته بحناجرها: «يسقط واحد من فوق». الأولاد يمشون مثل طوابير فدائية في عمق الأروقة. ويهتفون بأغاني الثورة الجديدة.
أنا يا أخي يا أخي يا أخي/ آمنت بالشعب المضيّع والمكبل/ وحملت رشاشي لتحمل بعدنا الأجيال منجل/ ها ها ها وجعلت جرحي والدماء/ للسهل والوديان جدول
دين علينا دماؤنا/ والدين حق لا لا لا/ لا يؤجل.
انتفض الحي السجين على سجنه الداخلي، وانطلقت روحه الوطنية، كي تملأ الفضاء. الحي حر... في الكلام وجمع الذكريات، وتوزيع الأحلام على الأرض.
حرية بقيت مكبوتة في قنينة، حرية داخل الأقبية، مراقبة ومحاصرة خارج حدود الحي العتيق، حتى كاد أن ينفجر، فزحف باحثاً عن متسع لأجيال جديدة، فكان الحي الجديد. يومها.. انشطرنا إلى شطرين، جديد وعتيق. صارت لنا جمعية، حكومة مخاتير، عليّة القوم، ومجلس أعيان وحرس يحمي الأزقة من أعداء الحي.. ورجال يندفعون نحو البحر، كلما لاحت باخرة سوداء، وأطلقت شاراتها الليلية نحو الحي..
كنا جنوداً في داخله إن استحال علينا الذهاب إلى حدود الوطن جنوداً. كنا نعمل داخله مثل خلايا نحل إن استحال علينا العمل خارج الحي، صار لنا معملاً ومصنعاً، وسوقاً. صارت معالمه وأقانيمه وشخوصه، بهيئة الوطن الصغير نسخة من المؤقت، كي يأتي الوطن الجنة والأصل في عقولنا..
من صوت الأنثى الضائعة، من غنائها المبرق مثل النصل في صمت حزين، وسط أسقف الإسمنت التي تحترق كأشجار الفلين في نهار يسخر منّا. وليل يدلي بلسانه الأحمر وبحر يجهش بالبكاء. وسؤال يطاردنا بعيني امرأة، يتدلى من أهدابها مثل علامة استفهام. وهي ترتسم على المشهد المأساوي مثل علامة تعجب. تصير ملامح قرية جليلية، فيها جامع وحيد، يقرفص بين أشجار التين. ووحدها «قرينة» الغائبين، تجوب التلال الخاوية. المرأة «قرينة» أهل الحي الذين استفاقوا على الموت، فغادروا، شاهدة على حياة هناك، تجرعتها أنا في الحي العتيق مع كوب الشاي والميرامية مغمساً بمنقوشة الزعتر.
صدى رقيق، بكاء على حبيب، كأنه نواح على ذكرى. همس وأغنية، يلهث مثل صهيل فرس جامحة.
سيمفونية الرصاص تدور في رأسي، والانتظار يمتزج برائحة الخوف. صرت أتخيل مشاهد مخيفة في ملجأ حصين تحت الأرض، أنا وصديقي ننتظر الزائرة المجهولة. أسترق النظر من شق الباب الحديدي استلهم سلامة الرجال، وجهها المطل كي يشرق.
لكن الغياب طال، فهل كانت الطلقة أسرع من اللقاء؟ أم أن الشظية القاتلة هزمت موعدنا الجميل؟ أيها الموت لا تكن أعمى، أو عديم الإحساس. لا تكن غبياً كالمدفع...
سمعت شخصاً من المجموعة قد حضر. سبقه وقع الخطى تنحدر على درج الحصن إلى أن وصل على وقع اللهاث يخفق في صدره حتى عجز عن النطق...
وبصوت خائف، سألته مستنكراً:
أين البقية؟
ارتمى على فرشة عتيقة، وتنفس ملء رئتيه، ونفخ حرارة النفس نحوي والعرق يبلل ملابسه وخصلة الشعر فوق جبينه ثم أجاب: «رفضت أن تأتي، قرر الزملاء البقاء معها».
«هل أخفتموها حتى رفضت المجيء، أم أن الخطر كان لكم بالمرصاد؟».
«كدت أقتل لكن لا بأس لو نجحت في إحضارها». قالها بشهامة وكبرياء.
لكن، لماذا رفضت الحضور؟ هنا المكان آمن وهي تحتاج لنا.. وانهالت الأسئلة، كأنه في جلسة تحقيق صارم.
تعرفت إلى ضيفة لم تحضر. كانت من ملامح الحي العتيق وإن غادرته منذ زمن نحو الحي الجديد.
ملامح المرأة استعدتها أمامي قبل رؤية وجهها في زمن الاستغراب. شعرها أحمر، لم أكن أعرف إن كانت تستخدم الحناء، لكن أطرافه الظاهرة من تحت غطاء الرأس المزركش كانت تضفي على وجنتيها احمراراً خفيفاً، وشفتاها المزمومتان كأنهما في حالة تحفّز لقُبلة.
كانت جارتنا في الحي العتيق، قبل أن ترحل إلى الحي الجديد.. أكلتني الحيرة عندما علمت أنها وحيدة في الحي، وبقيت هنا تبحث عن الدار العتيقة... ورفضت المجيء إلى هنا رغم إلحاح الشباب، هم يعبرون ممرّ الموت بحثاً عن امرأة تستغيث وهي تسير في لبّ الموت تبحث عن سرير!
امرأة تبحث عن السرير.
سرير؟
سألت بصوت مسموع، كيف يمكن السرير أن يبقى واقفاً هنا؟
واسترسلت الأسئلة:
هل فقدت عقلها حتى تبحث عن مخدع؟ لا الحي ظلّ حيّاً ولا الدار ولا مرقد ننام عليه؟؟ حتى القبو صار قبراً.
عن أي سرير تبحث؟؟ سرير حب أم سرير حلم.
سرير الموت!
* مقطع من الفصل الأول لرواية «حاسة هاربة»، عن دار الفارابي ويسجّل فيها مروان عبد العال تجربة مخيم نهر البارد في الحرب الأخيرة

تعليقات

  1. الرفيق المبدع مروان عبد العال
    بعد طول انتظار و أمل، تمكنت من الحصول على رويتين من روايتك: زهرة الطين و حاسة هاربة، فكوني اعيش و اعمل في دولة قطر من مدة ليست قصيرة، كان الحصول على ابداعك يحتاج لجهد استثنائي، و ما زلت انتظرالحصول على رويتك الاخيرة: جفرا لغاية في نفسها.. ارجو ان اتمكن من ذلك قريبا
    قلمك يا رفيق شهادة مفتوحة على جراح شعبنا، المخيم و الفدائي، الذاكرة القريبة لشعب تعمدت ذاكرة بطهارة الدم و عنفوان التجارب.
    لست الا قارئ اسعده الحظ بقراءة ابداعك، و انا انهي رواية زهرة الطين حامت ذاكرتي على روح المجدلية، و سندباد فلسطسن الأزلي، على طهارة الجرح و عمق الروح.
    و في حاسة هاربة، تشظت ذاكرتي في كل فصل من فصولها، نهر البارد عنوان آخر في مسيرة المخيم بمجازره و انتصاراته

    تحياتي لك رفيق ،
    جبر سلامة
    الدوحة- قطر

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قلم أخضر

رواية 60 مليون زهرة