سيعرفني يوماً أبناء الماء!




سيعرفني يوماً أبناء الماء!




لماذا تتعلق صورة الماء على جدار عينيك؟ قالتها الحورية وقفزت في قلب غدير مائي.
: أحاول تلاوة حديث الماء ، يتلعثم داخلي ، يخفق بأسماء عديدة ترشح بالحنين و تتكدس فوق الأيام .
في كل مرة يزوره طيفها ويرشق سحرها البارد على صفيح المخيم، تهب رائحة الماء مشبعة بملوحة البحر ، لتتسلق جدرانه نثريات الذكرى كل مرة يهاتفني صوتها ، يصدمني خرير الماء كأنه يسافر في الأوردة العطشى .
أسماء تداعب الرموش، لتلتقط من بين حبات التراب أبناء الماء.
: أنا عروس البحر ، لن أدعك تغرق في النسيان، تعالى نكتب الحكاية كي لا يبتلعنا الماء.
عن أولاد يبحثون في حرارة البيوت التنكية عن عشق مدفون في عمق الماء، في لج كل نفس صغيرة ، كان احتفال النهار لا يكتمل بدون فرح مزركش بأطياف الزبد الأبيض اللامع مع شمس المغيب
÷ لنروي من بين الشفاه المطبقة لغزاً لا يستكين في العدم، عن أهداب تنام على هدير بحر غاضب وحكاية تسردها الأمهات على وسادة الضياع يوم كان لهم غير هذا الماء وصار للماء لهفة الأحلام .
حورية تنادي أبناء الماء.. تمشط شعرها الكستنائي وتتدلى جدائلها الخروبية فوق الأزرق الممتد نحو المدى، تنده للأقدام العارية وهي ترسم الوشم على وجع الرمل الساخن فوق شاطئ غريب.. تنحني وتشير بإصبعها الفضي نحو صدفة بحرية أسطورية، تريد أن تفتح لي كتاب القلب المُسدل على أسرار الروح. تدغدغ الشوق في أعماقي للحاق بأذيال ثوبها المطرّز بألوان مرمرية ، لعلها تجعل أوتار الليل تعزف على نافذتي المغلقة لحناً لذاكرة الإياب، تخرج كنوزها من بركان النفس وتكلّل المساء بسلسلة من ماء الزهر بهيئة أطفال يلهثون بلعبة الماء خلف نهر يقطع بين الحارة والحورية.
كم مرة اكتشف أبناء الماء، عشق الينبوع والنهر والبحر والمطر، ومزاريب الماء تغسل أوحال الحارة من بقايا غبار علقت على أطراف الزقاق ، وبقي الشاطئ القريب يغني وحيداً ذاك الأنين المتبدل وانحدار الرمل من وقع الخطى العديدة..
كل الحصى تقرأ على مسامعهم أقصوصة من أبجدية البعيد. صدى همس الكبار يتردد مع لحن الفراق لماء من هناك وتتشقق الشفاه مع أطياف من عطش، ونداء عطر استلقى في غفوة من ندى صباحي، وتركت الريح لمستها فوق كف يد كتبت التجاعيد عليها تاريخ اللقاء الأخير.
تهيج ببريق سحري وكحلها الناطق بملامح الطحالب اللزجة يغازل الموج وهو يدق باب قلعة قديمة تلف خلودها الأبدي بحجارة من سور عكا..
تحمل مرساتها فوق دفة المركب..
تحمل عروس البحر رمحها الناري وتصيح في وجه كلاب البحر بعشقها الفلسطيني، وتخطّ بأحرف عربية طقوس الحب وهو يداعب بعض من رحيقها العذب على أجنحة النورس، طفولة ارتوت من ماء الغربة وكأس الفراق التي ثملت به شوقاً يرتعش في ظلال الماء.
: لماذا تتعلق على موج البحر؟
البحر مازال بحراً، ولكن فيه ماء غير ذاك الماء. ماء تنبع أنفاسه من ضياء القمر، ترقص على ثنايا وجنتيه فارسة البحر، تقيدني بجدائلها المضيئة فتتمازج في إشعاع شمسي، تقرأ غربة الآخرين المخطوطة بالماء المرصعة بخطوات رسمتها مواسم الرحيل، تلتمع بشفافية كأس من ثلج أبيض ناصع، قالت هي.. " لكَ كل الثياب المطرّزة بخيوط النار.."
كيف للحورية أن تغرق؟ جدائلها مبعثرة على اليّم تمنعها من الغرق، حتى لو أنّ للأعماق أسرار تستهويها وتنده لها..
لكل موجة ما خلفها ولكل حكاية ما يتبعها ولكل نهاية بداية... قرب وإبتعاد ، هوج وموج ولقاء وفراق وعناق وموت ورحيل متواصل نحو الأفق وعودة تلامس يباس الأرض.
ثلة الأولاد تزحف نحو النبوة، تحلم بحرية الماء، تريد أن تصل جزيرة نائية في المجهول اختفت في عصور قديمة، لا لشيء، فقط للحصول على نشوة رقيقة تقهر البحر الذي قهرنا، وهزيمة الغامض في قلب طفولة تهفهف مثل نسائم الماء.
تمرّ وجوههم من أمامي واحداً واحداً، تدّق على نبض الماء في ساعة الرمل، عددهم يفيض فيه الزقاق، اندلقت أجسادهم الطرية من السرداب عبر النهر في مقصد لساعة الماء الخارج من فوهة المسبح الصخري.
يومها علِقت طفولتي هناك.على الحد الفاصل بين بستان البرتقال وطحالب البحر. في صيف عام 1971 .
كلَّ من عَبِر النهر عَبِر الحياة..أطفال الحارة مثل رّف الحجل، ناموا على ملامح حورية تنهض من نومها لينام الجميع في بطن الأرض نوماً قد طال. كان القرش شكل الوحش الطائر وإنقلبت السماء للون الأسود وصار الفضاء ضباباً. من بعيد ترتطم الأجساد الصغيرة على عدد ارتطام القنابل..
كانت معالم الأرض ترسم تضاريس جديدة لطريق الماء، وتهوي مع كل صرخة في زوايا البيوت.
غرفة صغيرة افتقدت لكل شلة البحر، فرِغ المكان وتوقفت زقزقة العصافير. كانت الغرفة خرجت لتوها من اختراق قطعة حديد ساخنة ، مزقت سقفها التنكي، لم تدرك معايير وكالة الغوث والمقاسات الدولية بأني سأرث الغرفة من جدتي وأنها قادرة على حمل شظية..
السرير ينتابه قرف من فوضى عملية إغتصاب مرّت فوق الشراشف المتسّخة بالتربة، واللوحة المغمّسة بألوان الطين سقطت عن الجدار وإرتمّت فوق كومة من بقايا كتب تمزقت...
يومها رسمتُ الطفل دامعاً ولم يزل كذلك، كأن الدمعة قد تحجرت على قطعة من القماش. سمعت قهقهة تغيب في جوف البحر، قررت ألا يسقط وعد الماء لأبناء الماء، وأن تغمس ريشتي بسر كل شيء حيّ من ماء لا ينضب ..
لذا، حتماً، سيعرفني يوماً، أبناء الماء...
مروان عبد العال

تعليقات

  1. دمعة الطّفل تمحوها بريشتك السّحريّة، وأناملك المترسّمة فوق زبد البحر لتعانق السّماء ، وتصافح الشّمس إيذانا ًبموعد العودة

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قلم أخضر

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

ميدوسا": خِزَانَة تَجْر الْبِلَاد اليوم الثامن