مروان عبد العال
مروان عبد العال
سليم البيك
15/10/2009
كنت واقفا أنتظره على الرصيف في شارع الحمراء في بيروت، دقائق قليلة وسينتصف الليل. حقيبة الكامرا تثقل على كتفي، وأصابعي تطقطق بعضها، أتلفّت حولي، أبحث ربّما عن مارّات ريثما.. فجاء صوته يهدر عن بعد: يا سليم. كانت سيارة رانج روفر قديمة - من أيام حركة القوميين العرب ربما- يطلّ منها مروان واقفا (في المقعد الأمامي بجانب السائق) وممسكا بابه الفتوح بيده، والسيارة تتقدّم نحوي.
نقزت من الصوت (طبعا) ولوهلة كدت أفرّ هاربا، إلا أنني أدركت صوت مروان وتأكدت حين رأيته يتجاوز عتمة شارع الحمراء.
فكّرت: أكيد كاين فدائي مروان.
هي المرة الاولى التي ألتقي فيها مروان عبد العال واقعيا، بعد تواصل مديد عبر الإنترنت والتلفون، ومقالاته ولوحاته، وقبل كل شي عبر رواياته الثلاث: 'سفر أيوب' و'زهرة الطين' و'حاسة هاربة'.
دارت السيارة في منطقة الحمراء ومررنا بالجامعة الأمريكية: من هون تخرّج الحكيم ووديع.. وهاي قهوة الشيوعيين.. وهاي قهوة المثقفين المفزلكين.. وهديك مكتبة بيسان.. إلى أن وصلنا إلى الروشة. نزلنا من السيارة وطلب من مرافقه أن يعتقه وأن لا يتتبعه بالسيارة خفيةً. أصرّ المرافق على عدم ترك مروان 'لوحده'، أصرّ هو أكثر إلى أن نجح في الإفلات، شعرت فجأة بمسؤولية لست أهلا لها (ولا شيلة)، خاصة حين مازحني قائلا: أنت الآن مرافقي، وكنت آمل حينها أن يكون (حقّا) مازحا: أنا بقدرش ع بسّة يا مروان. مشينا على كورنيش الروشة نتحدّث في كلّ الأمور: الأدب، المخيمات، الفصائل، الطبيخ، اليسار، الغابسية وترشيحا، الضفة وغزة، الرسم، وأمور كثيرة من بينها أن قيادة ' الجبهة ' لو علمت أنه صرف المرافق لساعات قد تحاسبه.
لم أعرف سبب إصراره على أن يتواجد في المقهى الذي سنجلس فيه مكانا يطلّ مباشرة على البحر، إلا لاحقا حين بدأ يتحدّث عن رائحة البحر هنا. إنها كتلك التي في عكا وحيفا والغابسيّة. الجليل قريب جدا منّا، بضع كيلومترات، ورائحة البحر فيه كثيفة وصوته عميق: متل هيك بحرنا يا سليم.
في مقهى الروضة حكى لي عن 'هبل' بعض المثقفين الذين يرتادون هذا المقهى، وغيره، وعن الأحوال السياسية في فلسطين ولبنان، و.. نهر البارد. مروان هو ابن هذا المخيّم المنكوب ومسؤول ملف إعادة إعماره، في منظمة التحرير، وقبل كل شي هو مسكون بنهر البارد، تماما كما هو مسكون بالغابسية وفلسطين.
صباح اليوم التالي ذهبت إلى مكتبه في مخيم مار الياس، بعض لوحاته معلّقة على الجدران، احداها بورتريه لغسان كنفاني، الذي لا يكاد يُذكر مروان، إلا ويذكّر به. يبدأ مروان بالحديث عن نهر البارد، فيرنّ موبايله الذي لا يهدأ كما تليفون المكتب، ليتكلّم عن المخيّم أيضا، ثم يكمل حديثه عن المخيم ذاته حالما ينتهي من هاتفه. يخبرونه بأن اجتماعا لهيئة إعادة الإعمار سيعقد في يوم ما فيجيبهم بأنه ستقام يومها ورشة رسم لفنانين عرب وسيكون هو من بينهم، وأنه سيتابع معهم كل التفاصيل هاتفيا، بيد موبايله وبالأخرى الريشة والألوان.
بعض لوحاته بقيت في بيته في المخيم وبعضها في بيروت، وبعضها - كما مكتبته ومخطوطاته وأرشيفه ومقتنياته - سُوّي، مع المخيّم، بالأرض. بعض مما تبقى من مكتبته هنا وبعض هناك، ومآسيه ومسؤولياته وذكرياته وملفاته وأوراقه بعض منها هنا وبعض هناك، لكنه يسخر بألم من التشتت الفلسطيني المزمن، ويواصل يومه ذي المئة ساعة، وهمومه الألف، وكأنه بدأ لتوّه.
رواية مروان الرابعة ' جفرا ' ستصدر قريبا، في معرض بيروت للكتاب (' حاسة هاربة ' كانت الرواية الأكثر مبيعا في المعرض الفائت كما نشرت جريدة ' السفير ')، وسيواصل مشروعه الفني الجديد، لوحات الخامات المتعدّدة mixed media وإشرافه على مشروع والده، وهو فنان تشكيلي أيضا، في رسم المخيّم المنكوب، في سلسلة لوحات، بكلّ تفاصيله وزواريبه اعتمادا على ذاكرته التي لا تزال تحمل حتى صورا من الغابسيّة، وسيواصل قتاله على كل الجبهات من أجل إعادة إعمار المخيّم، وسيواصل مهامه الحزبية، وهو في موقع كان فيه غسان من قبله.
فلسطين التي كان لها غسانها، لها الآن مروانها.. بعض من عزائها وعزائنا بذاك الأديب (أيضا) والفنان (أيضا) والسياسي (أيضا)، غسان كنفاني.
كاتب فلسطيني
www.horria.org
كم تمنيت ان اكون معكم ..............
ردحذفسناء لهب