العابر بين خيمتين
قادم من هناك .. طريدا ًمن نصف القلب، مقتلعاً من أضلاع الجليل، عابراً إلى حفيف الحلم، يوم بكت شمس فلسطين، توزّعت على أرصفة البلاد، وامتدت إلى الشاطئ الآخر وتشردت دموع الحنين من هناك أتى، من دفئ اللوز ونحيب أنفاس قطر النّدى، يومذاك كان الفتى الخروبيّ الملامح، إبن الاثنا عشر ربيعاً، حملته رياح الغربة من مسقط رأسه وحلمه قرية "غوير أبو شوشة" على أطراف مدينة طبريا، ومن روابيٍ ترنو بخطوطها نحو عين ماء بحيرتها الصافية، يوم كان يغفو معها في حضن الأرض. كي يستفيق في زمن زحمة الخيام، وتنغرس قدماه الطريتين في أوحال مخيم عين الحلوة كلّما أراد أن يعبر بين خيمتين.
صلاح صلاح يعبر خلسةً بين خيمتين، تحت الخيمة " المدرسة "، وتحت الخيمة "البيت"، و " بيت الجيران " خيمة، وتحت الخيمة " العيادة "، وتحت الخيمة ديوان العائلة ومجلس الكبار ،وتنهمر على مسامعه وقائع المأساة فيها تتكون الذاكرة وتتأصّل، وعلى نغمات دقات المهباج ورشفات فنجان القهوة السادة، تتلوى الشفاه آيات الحنين و حكايات الفراق ونوادر عن أيام الحصاد ودبكة البيادر، عن صباحات مفجوعة بالفقدان، بالانتظار والشوق، وبالحسرات والنكبة ،بالخذلان والخيانات.
وخبر الديوان العاجل يأتي عن طفلٍ اختنق سهواً تحت طرف خيمة. وآخر مات قهراً بفعل البرد القارس، وصلاح العابر بين خيمتين، يجتاز الابتدائية، صار الخبير في فككّ الحرف، ولغاية ما في نفس شيخ الديوان يستحضره لقراءة نشرة "الثأر" على مسامع رواّد المضافة، فور أن يحضرها من مدينة صيدا "سليمان بكر" إبن قرية صفورية. وتبدأ أبجدية السياسة، تنعش عقل الشاب اليافع، التوّاق للثأر، المسكون بالحلم .
كان الدرب و البداية، عام 1952 حين رتّب أول اتصال مع الشاب القومي العروبي ابن مدينة صيدا "نزيه درويش "، ليصبح صلاح أول منظّم تحت الخيام، أول ناشط سياسي ومفرغ للعمل السياسي لحركة القومين العرب. والمسؤول عن الفرع الفلسطيني في مخيمات صيدا وكي يكون هو الغطاء لشقة الإجتماعات السرية في مدينة صيدا، يكتشف عام1955 أنه بات يسكن بيتاً له سقف ونوافذ وليس شادراً. وكان الاعتقال الأول على خلفية مظاهرة ضد الأحلاف وتأييداً للثورة الناصرية، وكان يومها اللقاء الأول مع الدكتور جورج حبش.
صار الدرب هو العبور المستدام إلى حيوات الاضطرار والاقامات المتعددة والمؤقتة، والأحلام المؤجلة. تؤسس لبدايات الفعل القومي. في الفرع الفلسطيني، ليتوج العبور الثاني إلى مدينة طرابلس لمهمة قيادة الحركة في مخيميّ نهر البارد والبداوي عام56 . وثم سوريا عام 57 مسئولاً عن المخيمات قرب مدينة دمشق، وامتدت المسئولية والتحدي ليقيم في مدينة "تل كوجك" على حدود العراق كنقطة وصل مع تنظيم الحركه في بغداد.
صار الهارب إلى أحلامه بالوحدة والتحرير. هارباً من وجه العدالة. أو نزيلاً بين أقبية السجون. فكانت حصيلة عمره النضالي أن اعتقل 21 مرة، ونال أكثر من حكم امتد من سبع سنوات إلى المؤبد. مشاكساً للجلّاد، يفر من دولة إلى أخرى ، كان أبرزها عام 1963 عندما دشن فيما بعد سجن حمص المركزي الجديد وقرار الفرار، باجتياز جدار باحة السجن، ومع رفيق له نزيل السجن ذاته بعد أن قام بتدبيل مفتاح السجان بمفتاح مزيّف، جلبته له فتاتان من مخيم حمص كانت إحداهما فتاة صارت رفيقة دربه وكفاحه وحلمه السيدة "سميرة صلاح"، و عبر التسلق على خرطوم ماء، تمّ الفرار وفي رحلة سير من مدينة حمص إلى طرابلس على الأقدام وفق مخطط لعبور الحدود رسمه له خبير في التهريب ايضا يقبع في السجن ذاته وليستقبله في طرابلس المناضل القومي " برهان الغلاييني ".
صار الهارب مشاكساً عنيداً، والعابر المجرّب مسئولا عن إعداد رجال شباب الثأر وكتائب الفدايين بمهمة توصيل شباب الحركة من المخيمات في لبنان، إلى معسكر أنشاص في مصر للتدريب. واستمر بأدائه السياسي ليكون مسئول التنظيم الشعبي الفلسطيني في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية الذي كان يرأسه المرحوم شفيق الحوت أيام أحمد الشقيري ، وذلك عام1964 ويستمر من خلالها في الإعداد للثورة الفلسطينية المعاصرة.
عابر على حدّ الموت إلى الحياة. ذات يوم ألقى رجال الشعبة الثانية جثة مجهولة في كورنيش المزرعه بين ثكنة الحلو ومكتب المنظمة. لكثرة التعذيب ظن رجال الأمن أنه قد قضى نحبه، فقروا التحرر من الجثة. لقد مرّت عليها كل أشكال التعذيب، ولم تقدّم أي اعتراف ولم يصغ حتى لرأفة القيادي الحركي في الزنزانة الثانية المناضل أبو ماهر اليماني، واستفاق صاحب الجثة المجهولة في المستشفى، ليتم التبين لاحقا أنه صلاح صلاح . والتهمة كانت تهريب و تشكيل فرق مسلحة.
عابر إلى درب الثورة , من مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ويحتل مواقع قيادية في صفها الأول ، مندفعاً دائماً نحو العمل الوطني الفلسطيني الأوسع ويحتل المراكز الأولى في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية متمرسا في عملها السياسي والنقابي والشعبي وحتى قضايا اللاجئين.
عابر بين سفرين ولم يتعب! ذاك الهادئ والعميق في فكرته و تجربته وصلابته، ملتزماً بالأطر الوطنية ومنفتحاً على الفضاء القومي الأوسع، متمسكاً بالعهد والوعد. وعضواً في المؤتمر القومي العربي. ونشط في مجالات العمل الشبابي بعد أن قرّر التنحي طوعاً وقناعة عن القيادة وهو يفخر بالانتماء، وبقي زاده الأثمن نموذجاً يضع المؤسسة التي سقاها بتجربته الغنية فوق الفرد ، ويعطي للأجيال نفحة من مأثرة العطاء والتضحية والخبرة.
كيف لي أن أعبر في هذه العجالة بشرف التعريف برجلٍ من سلالة الأوائل، الرفيق المناضل صلاح صلاح، أعترف بأنّي جهدت كي أستطيع أن أعطيه حق لم يسعَ له. وأُلقي القبض على ما تيسّر من رحلة وعبرة وزمن صلاح صلاح، لآنه من عصر لا يمكن أن يوجز، بل أن يقرأ، ومن ذاكرة جيل قد كرَّمنا هو سلفاً بالعطاء والخبرة والدّرس.
عابر بين خيمتين ومازال. مسيرة النّضال، ومسيرة الشّقاء بلا كلل أو ندم ، "زرعوا فأكلنا " لقد زرعت في جيل القضية أنّ المخيم قضية و شاهد على النكبة. ركيزة من ذاكرة وطن وهوية. لن نمل العبور رغم أشواك الدّرب ، ونحمل ثقل الأمانة، حتى نعبر فيها إلى عودتنا وحلمنا الأجمل. وإن تأجّل الحلم لن ينكسر، بل سيزداد عمقاً. وإلى الغد، لأنّ هناك غد هناك بداية تتجدّد، ونحن أنصار الغد، الغد هو الأمل الذي لا يعرف النهاية. هو الحلم الذي يصير ممكناً لحظة أن نبدأ بعبور درب المستحيل.
يا أبا ربيع نحن أنصار البدايات.
وكلّ الشّكر للمنتدى القومي العربي على هذه المبادرة العظيمة في هذا المساء البيروتيّ العروبيّ الجميل.
مروان عبد العال
ألقيت في حفل تكريم رجال العهد القومي الذي أقامه المنتدي القومي العربي في مركز طبارة بيروت 20-2- 2010
تعليقات
إرسال تعليق