كي تحلق مع النسر عليك أن تمتلك جناحيه!
سأرتكب معصية جميله بان أٌلغي نفسي مؤقتا، وأتنحى عمداً عن مهمة شاقة بأن اكون ناطقا رسميا باسمك، لن أكتب عنك ، أو موجها كلامي لك، أمنحك كامل الفرصة كي تحضر الى عرسك جذلاً بالمناسبة و تخاطبنا انت . أعذرني إن تقمصت كلماتك الحارة وهي تلهج باحتراق الشوق في أضلاع النسيان، فقد طال غيابك في زمن ينهش ذاكرتي ، ومازلت أسمع صوتك نشيدا أبديا، يجلجل في الصدر كحصى تدق في جرة من فخار الاحزان، و يعاودني في رعشة يومك الآذاري الجديد.
قال لي الشهيد: ما أبعد السفر، في محطة الانتظار ، يوم تكومت اطرافي في حقيبة، وعجلت الرحيل، كي أمتشق قلمي رمحاً و اكتب على مسامات جسدي درسا من فلسفة التضحية ،حكمة تشبه فقه الخلود، عن موت لا يكون اذا كنا، نقدم روحنا كي نستحق الحياة وإذا كان الموت هو الحياة بعينها ولم نكن جديرين بها فاننا لا نكون. ويردف: لانه موتا للآخر في نفسك أنت و لشيءْ جميل و شخص محبوب خارجنا،فقد قدمنا النفس كي تحيا ، وعلى وعد قطعته بان لا تغادر الدرب ، ففيها كلفة خلاصك وليس خلاصي .لانني ان لم اكن لغيري فمن أكون. قضية انا في ذاتي ولست لذاتي أبدا.
تنال جنة الوطن و يعود هو اليك قبل ان تعود اليه ، عندما يصير الوطن بكليته غايتك الأسمى ، التي تسمو عاليا فوق كل المسميات ، لحظتها ستتفتح في ساحات العيون حدائق الحرية وتستعيد راحتك الابدية في أكناف الطين ، وأن أغرس جسدي في حضن حبيبتي الارض، كي تفوح باريجها أزهار الحياة وتزف مرج البراح عرسا للسنابل ، يزغر بيادرا في موسم حصادها السنوي.
هو فراق اضطراري و مراوغ ، ممزوج باللوعة، حين استطاع غيابي أن يسرق مساحة داخلك ، انت الرفيق المحب و المرئي والحي، هي قيمة الإنسان في اعماقنا، لطالما تتفوق عليكم مرتين، مرةً عندما أدرك بوعي أنه يستطيع أن يعيش الحياة كما ينبغي أن تعاش. ومرة أخرى حين أستطاع أن يموت باختيــار وحرية في الوقت المناسب.
الشهيد يؤمن بانه يخسر جزءا من الحياة المؤقته من أجل الحياة الخالدة، هي تحول تدريجي في حياة مستمرة، تولد من موتنا ، كما من كل شرنقة تولد فراشة ملونه ترقص حول الضوء مع احلام الطفولة ،كتبت على مهد البقاء وصيتي لك، بان لا تغرس رأسك في رمل الاحلام ، فالاحلام التي تعشق الحياة ، حفزتنا على أن نموت من أجلها.
قال لي : منذ أن ادركت أسطورة الوجود، تلاشت في نفسي حدود المخاطرة الشخصية ، فان كنت فدائيا يعني اني قررت ان اكون سلفا جزء من العقد الطوعي مع الموت واني الشهيد المؤجل. نهزم الموت حينا، بارادة الحياة و أحيانا عندما لا يقوى الموت أن ينتزع الحلم من قلوبنا.
احس بان داخلي تحتشد مواكب من عشق تعج بسيل من القُبل، غادرت بئرا في واحة مقفرة ، يطير صاعدا نحو سلالم السماء،كن نسراً لا يتعب من الرحيل ولا يعرف أين يموت . وان قصدت فضاء الحرية ، وكي تحلق مع النسر هناك عليك ان تمتلك جناحيه و ان تتعلم الطيران . ألا تريد أن تشرب من نبع الخلود؟ فهو انطلاق نحو القمة، هناك نبتة الغار التي تحرسها عشتار إلهة الخــصوبة .
حبذا لو قرأت نشيد ا لحرية على ضفاف نهر صبغه دم أدونيس بالارجوان ، لهتفت لكم ملائكتها ، بان لا حرية بلا وجود الوعي، الوعي يتكَون فينا عندما يكون وعي للحرية المشتهاة ودونها الموت ،والغاية الرفيعة التي تعزز داخلنا استحقاق التضحية، تعمدت بطهر يشبه صلاة الحبق في محراب السكينة، مثل شجرة شوح تولد في رحم الصخر، في اعالي شاهقة تترفع عن دنس المناصب والغايات الملتبسة واحجيات المنافع الخاصة وتجارة السلطة البائرة. هي أقانيم الثورة التي تشعل روحنا وتشحن أرادتنا بقوة الحق كي نضحي من اجلها.
قال لي الشهيد: تكفيني زهرة من دحنون فلسطين أعلقها وساما على ثوب أذار المزركش بالربيع. قد تختلف الاسماء وتتنوع ، تكتب باحرف وصفات، تتعدد الامكنة والازمنة ، وان سبغت بالالقاب والمراتب، سجلات تتزاحم فيها القوائم و تتنافس الارقام ،تشمخ على أعمدة الموت الجماعي والفردي لا فرق، ولكنها لا تجسد قط الا لهدف واحد ، عليه عنوان واحد واسم واحد . حتى لو خطت وجوهها بشتى الالوان ، وعندما تنحني هامتك لتقطف لي زهرة بلون الدم لان للدم أيضا لون واحد.
يا رفيقي ان كنت الشهيد السابق او الاحق ، ستبقى نبي الحلم الجميل على اتساع الروح وحدود جغرافيا القلب، تظل سجاياك وشم على جبين البلاد ، مهما تناثرت شواهد الشهداء في زوايا المكان ،أينما أقمتم على ضفاف الانهر ، على اطراف القرى ، في ضواحي المدن ، على حافة المخيمات ، ودائما قرب الطرقات حتى يسهل دخول أرواحكم في العابرين ، فتولدون مرة ثانية. تولدون فينا ، فنعبر الطريق الشاق على هدير الصدى، ووقع الخطى ، نرتل ايات البطوله .
يوم أفصح التاسع من أذار عن سر الانتماء الموشح بالدم ، وكتبت بيارق الاحمر القرمزي فجر أسفارنا المقدسة، من عنفوان مضمخ بالزعتر الجبلي، من مداد أختمر في يوم الثلاثاء الحمراء وعن تنافس ثلاثتهم على خشبة الموت (جمجوم وحجازي والزير) وعن ساعد امتد من احراش يعبد كي ينام عليها القسام ويستريح في القسطل غافيا عبد القادر الحسيني كي يستفيق مع جيفارا غزة، في يومه يتناسل فينا أجيالا من العطاء ، أحترقت شموعها وهي تخترق عتمة الطريق.
(ما هم ان نموت في دوي صرخة الحرب، اذ وجدنا بعدنا من يحمل السلاح ، يواصل الكفاح ويحمي ثورتنا للنصر ، فنحن لا نموت) هكذا نردد معكم نشيد الموت، نحن لم نمت أجل، عندما لا تموت الغاية، فلا تأذنوا لطارئ بمصادرة الروح وأغتيال الغاية فيكم. جحافل الاحتلال النازي ، لم تكن لتقتل رجال المقاومة في حال القبض عليهم، بل تجعله يشعر بالهزيمة داخله وهي تفرض على أهل القرية التي ينتمي لها بان تطلق النار عليه. الناس الذين يقاوم من اجلهم ، يمارسون مهمة قتله، كأنهم يصوبون الرصاص لسحق الغاية داخل كل واحد فيهم. يوم صرخ احد المقاومين في وجوهم،قبل ان يطلقو النار، "يا أغبياء اني اموت من أجلكم" .
اعذرني أيها الشهيد ، إن سكت الكلام المتاح في زمن قل فيه المباح ، فقط كي أستأنف البحث عنك من جديد، أجول في المدن المحاصرة ، أدخل غياهب المنافي وأقبية السجون ،أو اتجاوز الجدارات الرمادية والفولاذية العازلة والاشرطة الشائكة والانفاق اوالحواجز الإلكترونية او الاسمنتية، في المعابر والبوابات المغلقة والحدود الفاصلة التي صنعها قاتليك،او صنعناها نحن بايدينا، يوم دخل حساب دمك في مزاد البورصة ، وأستل خنجر "البسوس " في حرب القبائل ، كي يشطر بقايا الجسد او يفصل ما بين أطرافنا وعقولنا.
لأن رؤيا الدم المراق في المنام يفسد الاحلام . إطمئن ولو قليلا، مهما بعُد السفر، عهدي الباقي ، أقارع قلاع المستحيل ،كي يسهل أمر الممكن، لذلك لا خوف على الحلم ولا من يحزنون، مازلت يقظا ولو كره الغافلون، أمتطي صهوة الحقيقة كي أصل ميدان الحق، تغرد داخلي جنية الأحلام وهي على امل مشوب بالحياء ، بان استغرق في التحديق بين الوجوه عسى أن أعثر على ومضات من ملامحك.
مروان عبد العال
تعليقات
إرسال تعليق