من أعطاك المنشور؟؟




عدت بي يا رفيق، إلى زمن المنشور، لم أكن أعي خطورة هذه الكلمة لدى عسس السلطة في ذاك الزمن، " زمن العريف بصل ". كل ما كنت أعرفه أن المنشور وقتذاك هو عبارة عن ورقة يدسها أناس مجهولون بين شقوق نوافذنا الخشبية وتوزع تحت جنح الظلام. أي قسوة غياب تحمل الذاكرة ثقيلة الظلال كأنها تقيم في وطأة المستحيل، إلى مربع الطفولة الغريبة والجميلة، نعود القهقرى من وداع أخير إلى لقاء أول، ومن غربة جديدة إلى غربة قديمة، مسقط الرأس الذي ضمنا في حضنه الدافئ في مخيم نهر البارد، كنت مع ثلة أولاد من رفقة الحارة لا يتجاوز أكبرنا العشر سنوات يوم شاهدت فتى عنيد وصلب، قوي البنية، يطوي أكمام قميصه حتى كتفيه ويكبرنا بسنوات، ركن دراجته الهوائية ودخل إلى قلب مقهى " العبد درويش " في حارة السوق.

توقفنا عن لعب كرة القدم في الزاروب المحاذي للمقهى لحظة نشوب عراك وضجيج داخله، تجمعنا لنرى من النوافذ ماذا يحدث وما الخطب. القلوب تخفق بإيقاع غير عادي وأجسادنا الصغيرة ترتعد ونحن نشاهد عدة أشخاص من الدرك، كان مجرد ذكر كلمة دركي تشعرنا بالخوف، فكيف وهم ينهالون بالضرب على شابين !؟ وواحد يصرخ ويشير للآخر، ولكن هذا الآخر، لا يرمش رغم أن جسده قد اصطبغ بلون قرمزي تحت جولات الركل والجلد، ولا يجيب عن أي سؤال، ابن من أنت ؟ ومن أعطاك المنشور ؟؟؟ يومها تولى أحد الرجال الضعفاء بالإجابة قائلاً: هذا ابن محمود الزنغري. وفي سن لم يكن يسمح لنا إلا بالبكاء أو بالهرب والاختفاء. كانت جرعتنا الأولى من القهر وجرعتنا الأولى من الكبرياء، عندما أمرنا " سعيد الصفدي " أكبرنا وأكثرنا شقاوة وكأنه في رجولة أتت في غير أوانها، بأن نساعد صاحب المنشور. يوم صرخ فينا " شوفوا شو رجال " يجب أن نساعده، ألسنا رجال مثله ؟ يا عيب الشوم ! (سعيد ابن أبو جمال صار قائداً عسكرياً في حركة فتح وفقد في راشيا الفخار في عدوان عام 82.

ولأننا لا نستطيع رد طلب سعيد واعتمرت قلوبنا الصغيرة بجرح لا ننساه وبغضب وتحدي أشعله جرأة ذاك الشاب، قررنا الهجوم بالحجارة، على المقهى من ثلاثة جبهات، وانشغل رجال الدرك بمطاردتنا في الزواريب الضيقة التي نحن أدرى بشعابه، حتى تمكن صاحب المنشور من الإفلات.

كان ذلك في نهاية عام 1968، بعد عام انتفض المخيم وكان الوجود العلني للثورة، كان الفتى عمر من فتية التظاهرات المدرسية والهتافات والمولوتوف وشاهدت " صاحب المنشور" للمرة الثانية وهو يحمل " شمايزر صيني " على مدخل مكتب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في نهر البارد.

الرفيق عمر قطيش. ذاك الشاب المندفع على الحياة التي لا يريد لها أن تفلت منه لحظة واحدة وبدفعة واحدة، و يفرط على النضال بلا تعب كما لو أنه يستعجل الحلم، شاب يطارد أحلامه في المخيمات والمدن والعواصم، محطات كثيرة جمعتنا وأنت تتوزع على أصعب المهام من القيادة العسكرية إلى منطقة الشمال إلى قيادة فرع لبنان إلى التفويض السياسي مؤمنا بمدرسة الحكيم :أن الفكر حينما يصير مدرسة السياسة حتماً سوف تمسي السياسة مدرسة للفكر، نختلف ونتفق لأنك تؤمن أيضاً بأن الخطأ الوحيد هو أن يظن الإنسان نفسه أنه منزّه عن الخطأ. إلى إسناد الداخل وإلى الإعلام ومجلة الهدف وأمانة السر والفرع الخارجي.

من أعطاك المنشور؟ يا أبا العبد. كان الشهيد أبو محمد على الفوز، المقاتل الشرس الذي استشهد في مثلث الجليل في بداية السبعينات في عملية خاصة لإسناد غزة وبقي جثمانه هناك وكان في تلك الدورية يومها الرفيق القيادي عمر قطيش. أصغر عضو في المكتب السياسي.

في البدء كانت الكلمة أبلغ من كل المعاني، تعلمنا أن الرجال نوعان، رجل يصنع الزمن الجماعي على مرآة زمنه الفردي، ورجل ينحت الزمن الفردي على مقاس الزمن الجماعي. في كل مرة نلتقي لتسأل عن مخيمك الجريح، أشيع فيك بعض مما زرعنا بأننا اجتزنا خط صناعة الأمل، وبناء الروح، ثم تعود كي تتلو لي أخبار وقائع حربك العبثية مع المرض. إلا أنها قد فشلت أن تخفف عنا قسوة الفراق.

يا رفيق هو وداع فعدت بي من مسقط الرأس والغربة الذي سحق ولم ينطفئ، هو نهر البارد لأن فيه ظلال الشهداء وكيمياء ذاك المنشور وقامة الرجال الأوائل وسؤدد الروح التي تتناسل من رحيق الجليل، يلهث خلف الوطن تائهاً بين المسافات والخرائط بين الجدران والحواجز والأشرطة الشائكة. هاتفتني آخر مرة وكنت أنا هناك، هنأتني بآخر عمل أدبي حين اتاح لك الوقت فسحة قراءة ، وأطلقت لي آخر كلمات أعتبرها وصيتك وهي في الروح.

طوبى لك، لسفر يرجع نحو الخطوة الأولى وللمكان الأول حيث كان الحرف الأول من ألف باء الثورة، والطّرق الأول على جدار الغربة، طوبى للبطن الذي كونك لأجمل الأمهات، التي أعطتك الحكاية والأمانة، وصارت أم الرفاق والمقاتلين وصوت الزغرودة أم عمر.

عدت بي إلى اللمحة التي شكلتني والطفولة التي أفضت إلينا بأسرار وجودنا وحملتنا سوياً فوق درب نتوارث السير فيه، كي نصل من مسقط الرأس والغربة إلى مسقط الحلم فلسطين .

مروان عبد العال

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء