" سِفرُ أيوب "، رواية مكتظة بالحزن والقمر






" سِفرُ أيوب "، باكورة الكاتب والأديب الفلسطيني مروان عبد العال في مجال الإبداع الروائي. صادرة عن " دار كنعان " للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق 2002م، وتقع في خمس وتسعين صفحة، من الحجم الوسط، وقد قسّم المؤلف روايته إلى خمسة أسفار هي على التوالي: ضوء خلف القمة، فرس أيوب، وترٌ من قمر، قمر من رمان والسفر الأخير هو: النبأ العظيم.

قارىء هذا العمل تستوقفه منذ اللحظة الأولى جدليتا الضوء والعتمة، والنصر والهزيمة" الضوء بالنسبة له، نقطة انطلاق، بداية لحياة جديدة، والوصول هدف تلك الليلة الملعونة.

كان صابر يردد: لن أسمح للعتمة أن تطويني بين ألواح الصبر المميتة، ولن أتوقف هنا مهما كان، فكيف سأسمح لنفسي أن أموت كطائر غريب فوق هذه الصخور المسننة ؟! " ( ص9 ).

إذا كان المفهوم العصري لفن الرواية يحتمل اختلاق آلية سردية لشخوصها، فإننا نلحظ أن الروح الواقعي في رواية عبد العال قد صرع تجليات الوهم. فصابر، البطل الأول في هذا العمل وبعيداً عن اسمه ان كان حقيقياً أم مستعاراً، إلا أنه يبقى ذاك الفتى المناضل الذي رمى به – بعد السجن والتعذيب – الإحتلال الصهيوني خارج أرضه ووطنه، فأجبر على مغادرة مخيم البريج في قطاع غزة ذات ليل مكفهر وداج.

وبهذا تصبح غربة صابر غربتين ويغدو اقتلاعه من أرضه صورة مركبة لاقتلاعين مريرين. كان الأول منهما عام 1948 يوم طرد أهله من بحرهم في يافا فكان النزوح إلى غزة، ثم هذا الإبعاد اللعين له خارج حلمه وقمره، لا لذنب اقترفه سوى أنه أحبذ يافا فناضل من أجل استرجاعها.

وهنا تبدأ فصول حزب معقّد في تراجيديا، صابر، فالاحتلال اللعين بفعلة طرده هذه أراد له أن يهيم إلى حدّ الجنون بعيداً عن أرضه وأهله وحبيبته " فرحة " التي نجحت في أن " تخطف لحظة من عيني حبيبها قبل إبعاده وأن تعطيه شهاداته التي تثبت هويته العلمية، وكأنّ " فرحة " كانت تدرك بحدسها أن البعاد سيطول، وكأنها تقول له: " حلمك بأن تغدو طبيباً لا تضيعه ".

وكما هي حال أكثر المناضلين، يلقى صابر في غيابة السجن والزنازين، ولكن هذه المرة يكون السجان فيها متحدراً من سلالات مضر وقحطان وهاشم !! وأيضاً لا لذنب اقترفه سوى أنه أحبّ يافا فأراد أن يكون وفياً لها، لبحرها وقمرها وعفّتها التي استباحها الغاصب. " صابر لا يعرف عذاباً أشد وأقسى، عندما تجتمع في السجن كل لحظات الإكتئاب، عتمة قاتلة تحيط به من كل الجهات يكاد لا يعرف الليل من النهار، متى ينام ومتى يستيقظ، وأشد ما كان يعذبه عندما يضع السجان شريطاً مسجلاً لفيروز، ويأتي صوتها الملائكي على مسامعه طرياً لكنه يصرخ في رأسه... تخيّل كيف يصير صوت فيروز قاتلاً..! " ( ص11 ).

ولأن فن الرواية ليس حكراً على شكل محدود متفق عليه، نلحظ أن كاتبنا عبد العال يجعل من بطله " صابر " لحمة تستقي ماءها من فكرته ويربط من خلالها أسفار روايته الخمسة، ورغم أن هذه الأسفار يكاد يكون كل واحد منها قصة مكتملة في قوامها الفني، إلا أن الحضور النابض لصابر في المطلع والعرض والنهاية أكسب العمل سياقاً روائياً إلى جانب كونه حافظ على معطيات ومقومات الأداء القصصي في كلّ سِفر، ما جعل هذا العمل يأتي ممهوراً بالبراعة، مخضّلاً بمخيلة خلاقة أشاعت الحيوية عبر رهافة إحساس ولغة شعرية نفذت إلى أعماق شخوصها وأعيانها من البشر حتى الحجر، ومن الندى حتى القمر. " التفت صابر إلى القمر، وناداه : " أيها المحتجب كحبّة هال لماذا تنسحق أمام وعورة هذه القمة " ؟؟ وهو يسير في حقل يفيض بالغموض والعمق وينعكس على مرآته ضفافاً من الحصى الكحلية والفيروزية، كأنه يبحر في شعاب مرجانية يتماوج بين طحالبها ونتوءاتها فتصير طريقه للقرية مزيجاً من القهر والتعب لتضفي على خطواته مزيداً من الغموض والسرية " ( ص 12 ).

وإذا كان السفر الأول في الرواية " ضوء خلف القمة "، يظهر لنا جانياً من مأساة صابر كما بدا لنا آنفاً فإنّ السفر الثاني " فرس أيوب "، يبرز مجالاً مؤلماً وصورة حية من صور مأساة النكبة عام 48. كما أنه يتضمن مشهداً من مشاهد نزوح قرى الجليل الأعلى ولا سيما " الغابسية " وهي القرية التي ينتسب إليها المؤلف. ويلفت في هذا السفر ما جاء عن فرس أيوب البيضاء، تلك التي كانت رفيقة أيوب الخلوص بين الحقول وفي أزمنة الكرّ والفداء. ولأنه أيوب " لن يطول سفره، وغداً سيعود أو قل بعد أسبوع. هكذا سمع نداء الجيوش السبعة...

و" إكراماً لمعشوقته الجميلة، الفرس البيضاء قرر لها طيب البقاء في كنف القرية " ( ص22 ) حتى مضي تلك الأيام الصعبة. ولأن شيئاً من ذلك لم يكن وليداً شرعياً لما يجري على الأرض ربما أحست فطرياً بذلك الفرس فلحقت بفارسها تشتم رائحته بين الفجاج والدروب حتى أدركته والموكب النازح في قرية " دير القاسي "!!! وحين يقرر أيوب وأخوه ذات مساء قارس التسلل إلى قريتهم " الغابسية " علهما يأتيان ببعض حصادها وعطائها من السنابل اليانعة، تكون الفرس رفيقتهما في رحلتهما هذه.

وهناك نظرت الفرس حولها.. واشتمت أنسام الهواء، واستنشقت رائحة التربة، ثم طوت ركبتيها ونظرت بحزن نحو رفيقتها، تمرّغت أرضاً، حاولا إنهاضها فرفضت، هل أنهكها التعب ؟ أم صدمتها اللحظة.. رقبتها تميل نحو بطنها، مغرورقة العينين كأنها بكت بكاء مرّاً. والقمر بدا أكثر ذبولاً وحزناً، تحقق لها ما لم يتحقق لأيوب. ولا لأهل القرية جميعهم بكل عظمائهم وزعمائهم وأسيادهم وكتلهم البشرية السائرة نحو المجهول، هي فارقت الحياة ولم تفارق القرية.." ( ص32 – 36 ).

وفي السفر الثالث " وتر من قمر "، يندفع مداد مروان عبد العال بتلقائية شجية تحاكي طلّة القمر البهي في ليالي الابدار. يرسم صاحبنا في هذا السفر حياة " الغابسية " وطقوسهاوملامح عميقة من تراثها من خلال استعراض جانب من حياة أحد أبنائها وسيد شبانها "غانم" الذي ولد وكبر في القرية و " صار فتى" أكحل ممشوق القوام، مليء الجسد، يعنتر شاربيه، تحسبه قادماً من اسبارطة، له طله جالوت الجبار. كانت الحساسين تهوى الوقوف على كتفيه والصبايا يختلسن النظر إليه من بين شقوق النوافذ، كيف لا.. وهو رافع العمدة وهي شرعة يتبارى الشباب في حملها أشبه ب"جرن الكبّة"، وما تحداه أحد وخرج فائزاً، لا يتم عرس إلا بحضوره، ولا تجلب عروس دون أن يقود لجام فرسها " ( ص 41 -42 ).

وفي هذا السفر أيضاً يرصد صاحبنا بعضاً من عطاءات قريته في لوحة طبيعية أحسنت ريشة عبد العال إخراجها للمتلقي حتى يكاد أحدنا يرى نفسه قائماً هناك وسط البيادر، أمامه التين الموازي وحوله أحراش الصبار والزعرور والزيتون والخروب، ومدّ عينيه تهجع الوديان التي تنمو فيها نباتات طيبة كالزوفة والزعتر والميرمية والسنّارية والعكوب والقرصعنّة. أما " السدرة " هذه الشجرة العملاقة المقدسة، المزينة بالحرز والرقية والشرائط الملونة "، ( ص40 )، فهي عالم آخر يشبه عوالم الإغريق، والبابليين. كانت نساء القرية يحلفن باسمها فهي رمز الخير العميم، فلا بد من شكرها على ما تسبغه الطبيعة عليهم من نعم.. " ( ص41 )، وهي الشجرة ذاتها التي أقسم الكثيرون " أنهم رأوا السدرة تسجد ليلاً فتلامس أغصانها الأرض " ( ص 41 ).

وفي السفر الرابع: " قمر من رمان " يعود صابر للظهور على مسرح الأحداث ويفهم من السياق أنه قد تابع دراسته الجامعية في دولة ما حتى تخرّج مجازاً في الطب البشري. يعود صابر من غربته الثالثة طبيباً، لك يكن مسموحاً له أن يطأ أرض يافا ولا حتى أرض غزة حيث أهله وأصحابه وحبيبته " فرحة " التي كانت ستسعد كثيراً لكون حبيبها قد حقق جانياً من حلمهما المشترك والذي سيهيىء الظروف ليصبحا زوجين في عش واحد مظللين بقمرهما الندي والحنون.

" دخل صابر المخيم طبيباً، كان يسير في زقاقه كأنه مسقط رأسه، ينظر في وجوه الكبار، فيستعيد وجه والده. صار يداوي الناس ويحوّل الأطفال إلى خلايا نحل، لأنه يدرك أنهم يوماً سيصنعون قفير عسل فوق رؤوس الصخر " ( ص 51 ).

وهنا يدخلنا عبد العال في منعطف هام، حيث مكان الحدث مخيم من مخيمات الشتات، وهو مخيم نهر البارد، يصرف صابر سنوات من عمره في هذا المخيم، يحمل همّ القضية كما أهلوه، يأكل من خبزهم ويروي ناظريه في بحره كلما عاده، كأن بحر يافا ماثل أمام روحه الذائب ونفسه المتشظية توقاً وحنيناً إلى هناك.

وحين تعجف الأيام ويندر الحليب في ضرع الثورة، وحين يتمزق القمر وينقسم الناس على حلمهم الندي، تغيب صورة الفدائي في دثار المدامع الحارقة، وتنبعث الطحالب والفطريات الوبيئة بين الأزقة خائنة المداد والدم، عندها لا تتسع الدنيا لفراشه.." لقد فجر الإنقلاب كوز الرمان، وأضحى جدار المخيم ملوثاً بروث البقر. والأفعى تتحول إلى حرباء تتلون مع كل بيئة وصنف.. " ( ص52 ).

وعندما فقد صابر " أصحاباً كثيرين وأغلقت أمامه بيوت الراحلين إلى المجهول، فرغ المكان، هزم بالفراغ، لم يعد يرى في أزقة السوق من يحاوره ولا في حارة الحاووز والدامون وصفورية والمدرسة والعيادة " ( ص60 ). ويزيد الطين بلة ذاك الصوت الأشم لذلك الجندي الباسل، يستوقفه في مكان ما بلهجة حاكت قساوتها وعنتريتها قساوة الصوت الذي دفعه دفعاً لأن يرحل ويتجه غرباً " ( ص59 ).

لم تكن السويد، المنفى الجديد، أحن من الأمكنة التي غادرها، هناك تعرف إلى " أحمد " حفيد أيوب، واكتشف بمعيته ما حزّ في النفس شوقاً لا قبل له باحتمالها. يقول أحمد الذي مضى على منفاه السويدي أكثر من ثلاثة عقود، مخاطباً " صابر " الصديق القديم – الجديد : " أتمنى لو مت هناك ( نهر البارد ) فوق التراب الدافىء وليس في هذا العالم الزجاجي، وتحت هذه الشمس البلاستيكية ووسط ناس يسيرون مثل ألعاب الدمى يتحركون كالآلات.. أريد أن أحتفل بموتي، لو مت هنا.. ماذا سيحدث ؟ قال صابر. ردّ فوراً: ستبلغ البلدية بوفاتي، فتكلف ثلاثة من موظفي المراسم لإتمام عملية الدفن " ( ص63 ).

" ... يتنهد صابر ويقول: يعني حلم الحياة انتهى وبدأ حلم الموت " ( ص66 ). وتتسع أرض السويد لأحداث عدة تتكدس في ذاكرة صابر المتعبة والمثقلة بحكايا المنفى، وتمر سنوات ويستحصل صابر على الجنسية السويدية، لكن شمس غزة بقيت حاضرة في مسام جلده كما لكنتها عابقة في لسانه.

ويستزل وجدان صابر عقله وقناعاته في لحظة توق إلى الأهل والأصحاب والأحبة فيقول في نفسه: " سيكون للسلام فائدة حتى لو على المستوى الشخصي الحقير " ( ص76 - 77 )، حينها يسدل الستار وتنتهي الرحلة التي عمرها للآن ثلاثون عاماً من النفي والإغتراب. يرسل طلباً للتصريح بالعودة، ويقوم والده بكل ما أوتي من عزم بالإتصال مع المعرف والأصدقاء، حتى نال إذن الزيارة!! زيارة؟؟! " لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم يواسي نفسه، سأذهب زيارة ثم أحصل هناك على رقم وطني وأصير مواطناً ؟ ( ص78 ) وتدور في خلده جملة من التساؤلات الحميمة " ماذا سيجد في المخيم ( البريج ) كيف أحوال القطاع ؟؟ الأهل؟ الوالد؟ العمّة التي تحبه كثيراً؟ الأصدقاء؟ الرفاق؟ هل ستكون حبيبته " فرحة " في استقباله.ز ؟ ( ص 77 ).

إغرورقت عيناه بالدمع.. رزم حقائبه وسافر إلى عمان " ومن هناك نحو القمة الؤابية التي اجتازها مطروداً في العتمة ذات ليلة، وصل الجسر الخشبي.ز نزل نحو النقطة الحدودية، وكان معه عدد من النساء الذاهبات نحو الوطن، نظر الجندي في وجهه وأخذ التصريح ثم دقق فيه جيداً.. ثم قال الجندي : " الجميع يذهب إلى السيارة. أما أنت مشيراً إلى صابر.. أين حقائبك أنزلها من السيارة؟ .." بدأ صابر يرتجف.. ما الأمر؟ ولماذا أنا؟ هل نتحاور؟! قال له لا وقت لدي.. أنت ممنوع من الزيارة. قال صابر (مستغرباً) لكن ألا يوجد هناك معاهدة سلام؟ وهي تنص على عودة المبعدين والنازحين وأنا منهم. قال الجندي متسائلاً: " وهل تعتقد أننا مجانين ؟ إنّ إعادة أشخاص مثلك لا يمكن أن يعتبر سلاماً.. أنت الخوف بعينه " ردّ صابر : " ولماذا أعطيتموني تصريحاً ؟.. " ردّ الجندي: " كي نقول لك مباشرة أنت ممنوع وحتى لا تبقى تعيش الوهم مدى حياتك!! إن شئت ان تشكونا فاذهب إلى الطرف الآخر ( ويعني النقطة الفلسطينية ) " ( ص78 – 79 – 80 ).

ويقفل صابر عائداً إلى عمان. وكأنذ الأرض تموج به، لكأنه يبعد للتو عن أرضه وأهله وخفقه!! ويلحق به والده بعد أيام، وعند الموعد المحدد مع الوالد يقف صابر عند باب الفندق منتظراً طلعته " يروح شمالاً ويأتي يميناً يفرك يديه، يعيد مسح عدسات نظارته، وينظر باتجاه السيارات القادمة من خلف الأشجار العالية. ولحظة ومض الضوء في أرجاء الفندق، كان داخلاً بلحيته البيضاء وعقاله العربي وكوفيته الحمراء كجلد الفهد وهو يختبىء تحت عباءة يرميها بإتقان وتفنن فوق كتفيه.. رمى نفسه في أحضانه يتنشق رائحة العرق التي اشتاق لعبقها الأبوي.. تعانقا بشدة دون كلام مفهوم أو مسموع " ( ص81 – 86 ). وماذا يمكن أن يقول المء حين يلتقط كبده الضائع، أو حين يشتم عبق المأوى الذي نما في ظلاله؟..

يستحيل الكلام المعبّر في لحظات الصمت البليغ، وتصبح الكلمات عرجاوات أمام غزارة الشوق واندفاع العبرات. ثلاثة أيام يقضيها صابر مع أبيه كأنها ثلاث دقائق عيية، استحال فيها الكلام ضرباً من النظر الهائم الدامع! وحين يجن ظلام الليلة الثالثة من لقاء الأب ابنه المنفي يقف الوالد على باب الفندق مغادراً كبده، قائلاً لصابر: " فرحة " تهديك السلام، هي وزوجها وأولادها الخمسة وبالمناسبة واحد منهم اسمه صابر.." ( ص88 ).

وفي السفر الأخير من روايته، يحملنا مروان عبد العال إلى جدلية ثالثة تضاف إلى جدليتي الضوء والعتمة والنصر والهزيمة التي افتتح بهما روايته، تبرز لنا جدلية الأمل واليأس من خلال عودة صابر كسيراً حزيناً إلى ساحة عيش قديمة جديدة.. لم يعد إلى هويته المزيفة في منفته السويدي، إنما اختار المخيم، صورة الوطن المؤجل " دخل في أوجاع الناس، عالج وشفي الكثيرون من تحت يديه.. لكن وجعه الإنساني لم يستطع أحد علاجه بعد " ( ص92 )، لم تغب عم وجهه في زواريب المخيم آلام وانكسارات" تبدأ من الوطن بأهله وناسه وشؤونه، من ضياع متكرر.." ( ص91 )، كما لم ينس لحظة كيف تفلتت من يديه أشياء عزيزة، والده الذي وصل روحه ثم غادر، والحب الذي فرّ من راحتيه، والعودة المستحيلة!!.

" يتقطع صابر في أكثر من صابر، واحد هنا وآخر هناك، ويفصل ما بينهما شريط شائك وحدود تزداد رسوخاً وترسيماً.. ينقسم أفقياً بين أقدام تسير وعقل يلحق، يرفع نحو القمة ويتشرد في فضاءات حلزونية البناء والفكرة، يزداد انتماء كلما استعاد لحظة قهر فيلوذ قسمه السفلي نحو نداء الجذور.. يشمخ حلماً كلما اهترأ الواقع، فيرتفع في سموّ إلهي حتى لا يبتلع.. إنه الجسد الذي يتآكل كي يتجمع ويكتوي بالنار حتى يبرأ.. يقتات من جذع نخلة لا تحمل رطباً.. ويشرب من بئر نضب ماؤها، ويحدق بعيون جفّت مآقيها.. لا يريد أن ينتظر النبأ العظيم.. هو يريد أن يخلق النبأ العظيم.." ( ص92 – 94 ).

وعند هذا الحد، يزرع مروان عبد العال في نبضنا نسغاً مدوياً مفاده ان عزيمة صابر عادت تستقي ماءها من جذوتها التي لا تنضب أوارها، من تلك الفكرة التي تقوم كالنيشان النبيل على كتف تمتاح سمواً وثباتاً من صدر معتمر برؤى وقّادة لا يمحو وقارها الضعف، ولا تعرف سبيلاً إلى كينونتها الرخيمة قطعان اليأس والإنهزام. انها ملامح القمر القادم الذي شق غياهب الغيوم الملبدات على صفحات هذه الرواية أكثر من أربع وأربعين مرّة شاهقاً ملء رئتيه، وراسماً تلك الفسحة الذهبية التي ستطال الأرض الحبيسة ذات فجر تعانق فيه خيوط الشمس الفضية ذاك الألق الندي الحنون.



بقلم الشاعر مروان الخطيب

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قلم أخضر

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

ميدوسا": خِزَانَة تَجْر الْبِلَاد اليوم الثامن