" زهرة الطين " رواية مسورة بالطين، تعج بالغربة والمنفى وتتشبث بالفجر والأمل

" زهرة الطين " إصدار مروان عبد العال الثاني


رواية مسورة بالطين، تعج بالغربة والمنفى وتتشبث بالفجر والأمل...

كأنه البحر لمحاره، والأفق لطيّاره، كلّما غصت في أكنافه، تناهت إليك اللآلئ فراشات وسنونوات، تبشّر بالشمس والربيع والحياة. أو هي النجوم تحبو إليك عصير شهد سدريّ تطفح كأسه بالرؤى، نجيع حكمة تقلّك من عتمة الديجور إلى يقظة النّور، ومن أثقال بالبلادة والابتذال، إلى أنسام الجدّ والابتهال!!. كأنّك عندليب ينقر على عتبات الأسطر بعينيه وقلبه، ويقلّب الصفحات بنبضه وهمسه، فيولد العزيف، تراتيل ودق مسكوبة من مزن العلى، نقاء، وبهاء، وسماء تسعى على الأرض وفي مناكبها، أخضر، عفيفاً، شفيفاً، نظيفاً، فيه طهارة الأبيض، ووفاء البنفسج، وشموخ الأرجوان!!. إنه الكتاب، جامع الأنوار والأشتات، ومفتاح النبض والحياة.

هو ذا نشيد كل قارئ شغوف، وكل باحث نظيف، وكل مبدع عميق حصيف. ولا أخال أديبنا مروان عبد العال، إلا ساعياً أصيلاً ضمن أبعاد هذا الهرم الشامخ، حيث تنسج الكلمة لديه مغسولة الحروف بالدمع والدم والشمس قبل أن يبثّها مداده في نبضنا وروعنا. كيف لا، والكلمة مفتاح الوعي والجمال، وروح يبعث السعي وينهض بالفعال؛ بها يجسر المدى بين المبتدأ والمآل، ويعرف الرجال من أشباه الرجال، وعليها تقوم الشوامخ وتبنى الآمال. لذا كانت رسالة وهويّة، وبياناً يتلوه صاحبها على الملأ بلغة القلب أو العقل، أو بهما معاً، مؤدياً معاني أرادها ومرامي نشدها، ومقاصد سعى إليها، وصولاً إلى قيمة يودّ اجتناءها، أو فكرة رغب في بذرها، أو ترسيخها، حتى لا تأخذها الأيام والسنون بالجذب والمحق والإفناء.

من هذا السمو للكلمة وفحواها، نطلّ على نتاج أبي باسل، في " سفر أيوب " و " زهرة الطين " ، لنقرأ بين السطور في شخصيّتيّ " صابر " و " الطين " أوراقاً من سيرة ذاتية موزّعة بين دفّتيّ الروايتين، أوراقاً مكتظة بمعالم نضالية وكفاحية، ترصد بوعي المفكر الناقد، وترسم بريشة الأديب الفنان، مراحل مهمة من حياة أهل فلسطين ونكبتهم وما لحق بهم وعانوه من بطش الاحتلال وإجرامه، وصولاً إلى مكابدتهم المرارات والحسرات، من أنظمة تنطق بلغة الضاد، لكن أفئدتها تستقي النبض من ماء آخر، لا يمتّ قطره بصلة إلى مضر وقحطان وعدنان.

مع " صابر" يعيدنا مروان عبد العال إلى واقعية أدبية تعجّ بالضوء والعتمة، والنصر والهزيمة، واليأس والأمل، ويترك المجال مفتوحاً أما قارئه الذي يشاطره الدمع والآلام، ليحلّق عبر فسحة " النبأ العظيم " عنوان الفصل الأخير في " سفر أيوب " مصطفق الجناحين ? رغم الجراح -، مندغماً في زواريب المخيم، من دون أن تشلّ رؤاه أو تقوّض عزيمته، أو يفقد ذلك الحلم الأبيّ بتلك العودة الظافرة إلى فلسطين السليبة مهما استطال الطغيان أو تراخى الزمان.

أما مع " الطين "، فإنّ المجال ينفتح على آفاق رحبة في اتساعها، فتصبح الرواية مولوداً ذا ذاكرة ووعي. تحلّق فوق عوالم آسرة في جماليتها الفنية، وتتحد فصولها التسعة في إبراز فكرتها، التي وإن تمحورت حول التراجيديا الفلسطينية، إلا أن ظلالها الإنسانية امتدت وأوغلت في الزمان والمكان والشخوص، عبر تداعيات ثقافية، وسياسية، وفكرية ? فلسفية وتاريخية، أمّنت لها سبيل الصعود الإبداعي النابض بلغة زاوجت بين التعبير السردي والشعرية الموحية، ما أكسب " زهرة الطين " حضوراً فاعلاً في نفس المتلقي، وأظنه مرموقاً في ميزان الإبداع الأدبي. ولأن الكتّاب ثلاثة ? كما قال الأديب والشاعر العراقي حارث طه الراوي - : " كاتب يكتب بالحبر، وكاتب يكتب بالدم، وكاتب يكتب بالماء!! ". أراني أنحاز إلى مروان عبد العال، إلى لغة الغربة والدم والوجع والأمل في أدبه.

فقارىء سيف الدين القاضي، لا شك في أنه مبحر في مدى أنساني مكتنف باللجج والمحارات. فمنذ اللحظة الأولى التي قذفه البحر فيها غريباً وكأنه ميت، إلى شاطئ تلك القرية النائية في المغرب العربي، وحتى العبارة ما قبل الأخيرة في الرواية التي صدح بها القاضي : "... حتى الشمس ترحل.. لكنها تعود أيضاً "، نقف وسط انبجاسات تبدو للوهلة الأولى ذاتية ضيقة، لكن، سرعان ما ينقشع الظن وترسخ الحقيقة همّاً جمعياً يتقلب بين جنبات تلك النفس التي عزفت عن التعلق الحسّي العابر ب " مادولينا " و " شفافية جلدها وشرايينها النافرة المهتاجة " لمصلحة الفكرة النضالية والإنسانية التي جمعت بينهما، تماماً كعزوفه عن " قمر " من دون أن يرحل ويغادر عمقها الفضي المتّشح بفلسفة وقّدة شاطرت خيوطها نسيجه المتحفّز في منتهاه الواعي؛ وأعادت إلى ذاكرته المفقودة قسراً وهجها الحبيس، فراح يسترجع ماضيه المستمرّ صارخاً ملء قلبه وحنجرته: " ..، لا يوجد أكثر إيذاء من الجرح سوى الصمت " وتابع : " شلة الأطفال التي ترعرعت في زواريب المخيم، صارت أشبالاً، وعندما قتلت الطائرات الإسرائيلية عدداً منهن في بستان ليمون وهم يلعبون، مجرد أنهم يلعبون لعبة الفدائيين، كانت الصواريخ تزن أطناناً قلبت الأرض يومها، لم يعد هناك أشجار ليمون.. لم يعثر على عدد كبير منهم.. أما أنا فقد نجوت، صرت بعدها فدائياً.. وأنا في المدرسة فدائي، وأنا في العمل فدائي، في اللعب، في الحارة، في كل شيء ".

وهنا تبرز مشهدية المخيم في الرواية، هذه المشهدية نلحظها تتكرر في أكثر من فصل، وتتعدد عوالمها مرسّخة ما يمكن تسميته: تسجيل الذاكرة الفلسطينية ولا سيما المخيماتية منها، فيتجلى نهر البارد ? على سبيل المثال ? والضابط " جودي " وأيام قوة الوحدة الوطنية الشبابية، كما وتدوّن ذاكرة الراوي شخصية " أحمد الزقزوق " ومحاكمته خطابات الرئيس جمال عبد الناصر النارية، في أداء يكرّس منهج الواقعية الأدبية، كما أن أديبنا عبد العال لم يغفل عن ذكر وإثبات بعض الحوادث الأمنية كتناوله عملية مقتل " نبيل " على أيدي القمع الأمني، ورغم استعارته هذا الاسم لذاك المسمى الراحل، إلا أن التعرض لهذه المسألة يضفي على " زهرة الطين " قيمة التزامية رفعت من أسهمها في مجال الجرأة والشجاعة التي يجب أن يتحلى بهما الأديب وهو يعالج في إبداعه قضايا ناسه وأهليه ومجتمعه؛ فيتفقد هنا، ويوجه هناك، ويعلن هنالك براءته من هذا الموقف أو ذاك.

وفي تعرّضه لذكريات بعض المقاتلين الأوائل في الرواية، ينقل عبد العال عن أبي علي المختار الذي قاد مجموعة فدائية من مخيم " النبطية" باتجاه الطيبة على الحدود اللبنانية قبل نحو من خمس وثلاثين سنة، ربما وكان ثمة حاجز للجيش اللبناني يمنعهم من العبور إلى حولة، حيث كان سلوك دوريات العدو ينقل عنه قوله وموقفه من النظام الرسمي العربي القائم اليوم وتبقى الحدود اليوم " .... ، وتبقى الحدود صامتة، وعواصم كان فيها " أهل الكهف " بجانب، وسوق عكاظ بالجانب الآخر، موظف السلطان يمدح الجنرالات والرؤساء وحكمة أهل الحكم وعشق الخيار الإستراتيجي للسلام ".

لعل في هذا الموقف، الذي لم يخل من نفحة الأداء الكاريكاتوري، ما يشي بعمق الفجيعة الحالة في أعماق أديبنا للحالة السياسية المتردية التي انحدر إليها النظام الرسمي العربي وأراد لشعوبه أن تعيش في مستنقعاتها الآسنة باليأس والخيبة، وصولاً إلى ضرورة مزعومة، توجب عليها الإقرار والاعتراف بحق هذا الكيان الصهيوني الغاصب بالوجود والحياة.

وفي سياق الفكرة المضادة لروح الانهزام والانبطاح يبرز مروان عبد العال شخصية " وحيد" و " مطر " عبر موقفين لهما دلالتهما في رفد فكرة الرواية بهمة الصعود. ف " وحيد " الذي سقطت أمه وإخوته الأربعة مضرجين بدمائهم في حرب ال76 أقسم والده بعد أن عبر الضفة الغربية إلى الضفة الأخرى حاملاً وحيده الذي بقي له من أسرته، أقسم بأنه لن يكون عربياً بعد اليوم، بل نمرياً " فالعرب أمة بلا كرامة ؟؟ ".

هذه القسوة في جلد الذات وتبخيسها بعد أن: الأول نفسي تنفيسي يندرج في خانة الأوليات الدفاعية، والثانية بعد سياسي حادث أمة العرب على فعل ثوري يقلب حكامها ويكتب في سجلها صفحات الفخار والانتصار.

أما بالنسبة إلى شخصية " مطر " التي وردت في سياق حلقة الوصل بين الخارج المكافح من أجل لقمة العيش والعودة المظفرة، والداخل المنتفض على الاحتلال، فإن الموقف الذي أبرز فيه أديبنا عبد العال، بطلة هذا، كان من خلال رده على خالاته اليهوديات اللائي دعون يوماً إلى ميراثه من أمه، حيث قال لهنّ، بلغة جازمة لا تعرف التلكؤ والتردد: " لا تفرحن ولا تعبثن بحقوقي، فأنا سأعود، لأستعيد بلدي كله ".

وهنا يزرعنا صاحب " زهرة الطين " وجهاً لوجه، أمام حتمية يراها البعض تاريخية ويراها آخرون فكرية وهي حتمية زوال هذا الكيان الغاصب، وعودة الحقوق إلى أصحابها الذين حرموا منها جبراً وعنوةً وخديعة، ذات يوم أسود، قبل أقل من 60 سنة؟؟.

لقد استطاع مروان عبد العال، وعلى مدى الفصول التسعة لروايته، أن يقف جنباً إلى جنب، مع رجب أبو سرية في " دائرة الموت " ، ويحيى يخلف في " نشيد الحياة " ورشاد أبو شاور في " الرب لم يسترح في اليوم السابع " وسواهم، يدونون عبر نتاجاتهم الروائية التي التزمت الروح الواقعي في الأدب جوانب مهمة من ذاكرة فلسطين وأهلها وكفاحهم ونضالهم، من دون أن يمنعهم ذلك من الوقوف أمام مراحل الانحدار، والقسمات السوداء المعتمة، مواقف النقد والتقويم ووضع النقاط على الحروف.

ولعل صاحبنا سجّل غير نقطة بامتياز على مدى صفحات روايته، منها أشرافها على مواطن الحكمة، كما في قوله : "... أنّ عظم الحب، عظمت مقاومة النسيان والتمسك بالحياة والوجود والذاكرة والهوية "، وكما في قوله أيضاً: " جهل الذاكرة في ظل جهل التاريخ، ضياع في غياهب النسيان ". أضف إلى ذلك ثقافته الواسعة التي استقت ماؤها من الأدب والتاريخ والفلسفة والريشة والألوان.

لذا كان طبيعياً أن نعثر على رموز من تلك العوالم في روايته من مثل: " جلجامش، حمورابي، غرامشي، ميكائيل أنجلو وليوناردو دافنشي وغيرهم. ولا يفوتنا أن نشير أيضاً إلى أن مداد مروان، لم يكن موقوفاً في روايته على فلسطين ونكبتها وغربة أبنائها ومنافيهم، بل تعدى ذلك إلى العراق ومواجع أبنائه تحت سياط الاحتلال الأمريكي وفتنه، ليتناول في السياق نفسه الصور المقيتة للنظام العربي الرسمي الدكتاتوري، والعولمة ? الأمركة، التي باتت تصم بالإرهاب كل من يقف في وجه الصهيونية والنعصرية والأمركة والرأسمالية العفنة ويقول : " لا... لا... !!.

وفي الختام، وإضافة إلى كل ما تقدم نقول: " إذا كانت " زهرة الطين "، ر في رواية مروان عبد العال الثانية، يطابق اسمها مسمى " زهرة البابونج " في ثقافة الأهلين الشعبية الذين يتحدّر منهم أديبنا، فإنه - ربما ? أراد بهذه الاستعارة في التسمية قصد الدلالات الفلسفية والفكرية من ورائها، لتعبر عن الإنسان وما يحمل من جوهرة العقل والقيم فتؤدي بذلك معنى بليغاً نزع إليه صاحبنا من خلال إطلاق هذا الاسم على روايته، في إيماءة عميقة لتلك المقاربة الحافلة بجمالية المظهر وعمق الجوهر، الذين يجتمعان ويلتقيان في الرواق والفضاء الذّوباني والمثالي لحقيقة الأعيان والمسميات متباينة في مظهرها المتجانسة في منتهاها.

من هنا ننظر إلى " زهرة الطين " نظرتنا إلى الإنسان، أو لنقل ، إلى إنسان له حاجاته الجبلية، ومبتغاه الواعي والفكري، وهو يدب على الأرض ساعياً وباعثاً من أجل الوصول إلى دائرة إشباع تقييم التوازن بين المتطلبات الغريزية وبين الوصول إلى ترجمة الهوية، في إطار يحقق إنسانيته ويطمئن فكره وفلسفته. بل إن إسم الرواية، ومضمونها، وبنائها الدرامي، والإلحاح على الطين وأحواله وأطواره، ربما أيضاً، يحمل إلينا نشدان لا وعي أديبنا تلك الحالة الفكرية السامية، حيث المدى ينفرج على آفاق الهداءة والأمان والسلام المطهّر من المنغصات والأقذاء.

الشاعر مروان الخطيب


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قلم أخضر

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

ميدوسا": خِزَانَة تَجْر الْبِلَاد اليوم الثامن