ترانزيت


نعيق غريب من رطانة اللغة تنضح بما فيها من وباء العفن "المابعد عنصري": (نطالب باعادة أنتشار الفلسطيني في دول العالم) ، دعوة لبعثرة شعب مبعثر أصلا، هي سخافة حاقدة لم تعلم بعد أن كل مخيم هو سفينة، من أسطول العودة لمخيمات تصطف في طابور طويل تشق أمواج البحر العاتية نحو ميناء الحرية منذ 62 عاما، لكل سفينة ذاكرة في قاموس البقاء، واحد غرق في الربع الاخير، وسقط في موكب القاطرة، وفي كل مرة تتجدد المرارة على الواح الصبر، تستعيد سيرة النكبة الطازجة ، فوق فراغ برعمت فوق جثته الخيام ، ترتعش أعوادها وهي تسند قلقها على جذوع شجيرات الخروَع.. حتى لا تجرفها أنياب الريح الباردة وقد فعلتها بقسوة ، لكن إصرار غريزي للبقاء ، احتوته كراريس الأطفال في الخيمة \ المدرسة فتحولت الى مراسي ثقيلة تمسك بإ رادة الحياة. هي مشاعرالفقدان التي خرجت من جحر الماضي وباتت تحفر جرحاً فوق دفاتر الجسد القديم.

تعال وأنظر،حين انتشرنا وقبل ان ننتشر، الفرجة مجانا، ما فعلته يداك كي ينتشر المخيم مجددا ، وهو لم يزل قاربا في أسطول عودتنا ، ليس غولا ولا دمية تستخدم كفزاعة للعصافير الشاردة، بالأمس كان شهيد على كرسي الاعتراف بأن يختار المقايضة بين فلسطينيته أو إنسانيته، حرام عليه أن يسير على ضفتين ، مكانه المستحب أن يبقى جسدا مصلوبا بمسامير البؤس والحرمان فوق صليب الحصار وتكبل خطواته بأكاليل الاشرطة الشائكة. كي يغرق بالإستباحة ، بأنياب حيتان تفرزها مفردات التفوق الانساني، برصاص الدونية حين تصوب الى رأسه ، وتستل مقصلة ماضوية من تحت كومة رمل ، كي تمزق أشرعته وتلقي بلحمنا على متاريس العبثية ، تعاقبه على إقتراف جناية الكرامه بالشبهه أو انتحال الصفة .

كي لا تسقط فلسطينيته بثمن إنسانيته،خوفا عليه أكثر من خوفه على نفسه وعلى هوية لا يدرك المنادي بها ،انه معلما في صناعتها وهي صنعت من دم وعرق وحبر وفكر وجهد وتعب و شكلتنا في المكان، من المخيم" المأوى " الى المخيم " المعقل" الى المخيم " المعسكر" الى المخيم " الثورة" الى المخيم " المجتمع" الى المخيم العائد الى سيرته الاولى "خيمة" بمقاييس العصر الحديث، وفي كل الالوان المطلية بصور المراحل ، ترتدينا ذات شوق حاد، يذبحنا بصلابته ويشيد أقانيم وتفاصيل وملامح الثقافة الاصيلة والحكاية التى سقطت إلينا من افواه الرواة.

تعال و انظر، بلا ضريبة إضافية، نحن ندفعها من حياتنا لكل من أساء الفهم وقرر ان يسبر غور التنقيب في عقد حلقات الدرس والبحث والتحليل في فنادق فاخرة واروقة المعاهد و الجامعات ، واضعا الخرائط والافتراضات وباحثا عن ما يسمى بأمان الانسان ومعناه.. انه المخيم و كل قطعة فيه هي " ترانزيت" للأحلام لا تعرف الإ ظلال الصبر وملوحة الماء، كل خلية تشتعل بالكد والجد و والعرق والتعب و الدرس على سراج يشتعل بفتيل الكاز تحت أسقف الزينكو، انه المخيم الذي زرعنا في كل زقاق فيه قرية فلسطينية ، انه المخيم الذي عشش فيه الجليل ذكريات البيارة .. وأيام الحصاد .. على الميجانى... و احلق يا حلاق بموس الدهبيه .. ويا ظريف الطول ...وحكايات الجدات عن السمكة الخضراء.

تعال و لا تستعجب، هو الترانزيت الخارج عن القانون ليس بارادته والمزمع ادخاله في قانون لا حق له فيه. لذا يلقى على طاولة التشريح. ويزداد اختناقا وحصارا ووتفريغا وترقيما كي تجره عجلة الضياع ، الأوصال تقطع ونسيج يمزق، وانسان مرقم ومهمّش، معرض دائماً للتدقيق والتمحيص والفحص المخبري والنفسي والامني ، كأنه بلا أصاله وهوية وتاريخ وأحلام هائماً بين المؤقت والمؤجل ، دخلت فيه المفردات الجديدة ، من قاموس الشقاء الفلسطيني، للحارة أسماء جديدة براكس حديد و باركس باطون، حاجز، جسر الخشب، برايمات حسب الاحرف الاجنبية وقطاعت مرقمة ورزم . نستعيد الامل حتى لا يهيم المخيم على وجنتي السماء مثل خيط دخان ، بأن لا وطن في الوطن الا سوانا، نعبر الى وطن الناس وهو يعبر فينا.

تعال وأنظر، كيف كان الانتشار صناعة قانون مقفل يحولنا الى ترانزيت مقتلع نحو ترانزيت جديد. عندما يكون المخيم محجراً حصريا للمتهمين بمهنة "الفلسطينية " فقد استحال على اصحاب المهنة الثقيلة فيه او خارجه، فهم على ارض منفى واحد ولم يقوى ان يستقيل الفلسطيني منها او حتى ينال اجازة سنوية، هي مهنة غير قابلة للتقاعد.فشل ذوي المسعى المحموم كي يستقيل الفلسطيني من فلسطينيته من قيمه ومن أحلامه . واستخدمت وسائل القتل برصاص البؤس واغتيال انسانيته بالمنع والاكراه واطفاء الاحلامه ونحره بسكين الترانزيت الطوعي و الى كل المحطات والمرافئ والارصفة و الاتجاهات، الا الى مسقط الحلم ، حينما ينزف كرامة يكون حدادا على الجمل الخطابية الانيقة التي لوثتها غبار الازقة القديمة .

تعال وأنظر، يا داعية إعادة انتشارنا على مسرح الغربة ولا تعطف علينا لأن البؤس يولد الشفقة، ونحن لا نستحقها، ولاننا نعرف بان وعي ابؤس يولد الثورة وليس الانفجار ، لذا نعود لنحفر بأظافرنا صخرة اللجوء، سحلت الازقة ومازالت تتفرع فينا، وتنصب الخيمة سواء كانت العتيقة أو المستحدثة ، من حرير او معدن، الا أنها ترتفع فوق خيول تائهة ، تحملها عجلات شتات وقحة،تعبرنا كسنة من سنين الشوق الجامحة، كانت تكبو في سباق الايام وتنهض، هي مثل حصان ترجل فارسه وظلت خطاه تعدو في رعشة المكان ولا ميلاد يفرح الفراشات ، قبل ابتسامة تولد كالندى على حوافي البيوت المتصدعة ، مذاك، تشرئب أعناق الزهر الجميل..لتسأل : هل حان موسم القطاف؟ حينها أدركنا أن من يمارس عادة اقتلاع الازهار، اقترف خطيئة اغتيال الصباح.

تعال و أنظر، ما برح المخيم ، مكان يأبى أن يغدر بلقمة خبزنا ، وان كان ظلم ذوي القربى أشد مضاضة ، ها نحن نتشرد في زواياه كحقيبة سفر، نحمل فيه حكاية تقيم في النفس ومعها، نتنقل بين محطاته في ترانزيت تشبه علاقتنا بالمطر نحبه ونهرب منه، صار هو وطن يغرق في جحود المطر لأنه يقترف ذنب بأنه وطن يحاذي المطر. كما انه المخيم هنا ظل محاذيا للوطن وليس فيه. محاذيا للمدن ولا يقيم فيها، وصار في مخيم نهر البارد الجديد مخيما محاذيا للمخيم القديم ولكن ليس فيه. لاحياد في العشق قط . لان قرانا الجليلية حاضرة مثل حروف نافرة في امسية الحنين ، تستيقظ كلما يغفو الفراق على كل وسادة تحشوها الامهات من جديد بحكايا جديدة ، ينام مع ليل يلامس موسيقى حالمه في تضاريس الضياع.

تعال وأنظر ، الى المنتشرين القبل والبعد، هنا بقايا من هناك ، من نور قدسي، يزحف كالحنين نحو دفئ مشتهى في وطن بعيد..يلوح بيده في عب شجرة برتقال وارفة في يافا ، هناك يمامة تحار بريشها، تعشق التحليق خارج بيادر القمح، حرة يتلوى جسدها جذلا، تبقى في كل برعم اخضر ، تتحدى ان يقطف الغاصب من ربيع وجهها البسمة.

هنا وطن في حالة إنتشار ،له حق وحيد في بلد ألاستثناء و يسمى " ترانزيت" هي منحة من المضيف للضيف يشرع له كل ألوان الشتات حتى ينصب عامود خيمته الابدية فينا . وهناك وطن موعود يتجول على الشفاه ، نغنيه و نصنعه بزركشات الفرح ، أبيضا كطرحة عروس ،زغاريدنا كالغردق نزفها حنينا من تحت اوشحة الدخان، لتغلق باب حكاية وتبدأ أخرى وتهتف بكل جوارح الروح: كي نعيد كتابة حكايتنا الصارخة على سكة القطار التي تحاذيه او البحر الذي يفتح له تجاويف الموج وعباب الماء ، و متى تحملنا أساطيل الشوق ونمضى من حيث اتينا ، نطل على بحر يتلعثم بالغياب ، من نافذة حلمنا الأزرق.

مروان عبد العال



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر