حين تمرد بالرحيل


تمرّد بالرحيل




لمَ رحلت الآن يا حكيم؟ كي لا يبقى لفلسطين حكيمها؟ وأنت المتمرد الأول على صليب التشرد... دائماً تشع في اللحظة السوداء وميضاً من بريق الأمل، نحن نعتب ونسأل لأننا من جيل تكوّن في مختبر روحك وفكرك وشخصيتك، حملها زاداً لطريق طويل دوماً محفوف بخطر الضياع ورحيل الأحلام.

لمَ رحلت الآن؟ هل انقطع في طيات القلب الحبيب وتر الانتظار؟ أما عدت تقوى العيش على قيد الشوق، وأنت من علّمنا لغة الثورة وأبجديتها؟ هل لأن هناك من أنكر عليك البواكير الأولى؟ ألست يا حكيم، باعتراف الأعداء، أول من أدخل مصطلح «العنف الثوري المنظم» إلى قاموس الشرق الأوسط. كما قال غسان كنفاني يوماً: «الغزلان تحب أن تموت عند أهلها، أما النسور فلا يهمها أين تموت».

لمَ رحلت الآن؟ ألم تغرس فينا إرادة البقاء والاستمرار والقتال، وأنت على مفترق الأغوار وفي قلب شاتيلا وعيادة البقعة ومركز الغد؟

كم مرة التقينا وكانت بيروت ثالثنا، وكلما نلتقي تستعيد شباب الجامعة الأميركية، والمرة الأخيرة كي تسألني دامعاً عن مخيم نهر البارد.

هل ترحل يا حكيم لأنك أيقنت بعقلك المنهجي أن الحلم بأمان وهو الذي استمررت بحراسته من أول نبرة كلام حار حتى آخر رعفة قلب فيك، وأنت الذي صرخت في أول الطريق بقولك: «تستطيعون أن تدمروا بيوتنا لكنكم لا تستطيعون تدمير إرادة المقاومة فينا»؟ كم نحبك وأنت تطلب منا بإلحاح: «أيها الشباب، إن أردتم صناعة التاريخ، فكونوا جزءاً من كلٍّ منظَّم».

يوم أيقنت أن البناء الروحي اكتمل، سجلت سابقة أخلاقية وتنظيمية بأن ترحل من موقعك القيادي وتفسح الطريق وتطلب أن تكون مستشاراً لنا. صدقت بنموذجك الديموقراطي لنبلغك وعدنا «إن غاب المؤسس فلن تغيب المؤسسة التي صنعها»، تبتسم لتقول المثل الشعبي الفلسطيني: «مين خلّف ما مات».

يا سيد مقولة وحدة صراع بوصلة لحل التناقضات الداخلية وحفظ الوحدة. حين يدرك الجميع أن للسياسة معادلة لا يخترقها الحكيم، هو يعرف متى يختلف ومتى يتفق. وكيف لا يفسد الخلاف للود قضية، وإن التناقض الرئيسي مع عدو يستهدف الجميع، ويوم الانقسام بعد حرب 82 هتفت بأعلى صوتك: الاقتتال الداخلي حرام حرام.

في الزمن العقوق تتمرد بالرحيل. لقد صمّت الآذان عن النداء وأنكرت على الضمائر رفعتها، فقررت أن تعلن الرحيل. أكملت الرسالة ومضيت. لوّنت الحلم الذي صار يشبهك، فلسطيني ينزرع في الوطن، شهداء يلتحفون التراب، مفتاح الروح وصيتك المعلقة في كل مخيم، والحلم العروبي يشمخ في أعناق الأجيال، وأطياف الإنسانية تتوق الحرية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر