حلق يا حلمي الهارب

أَعْمَقُ الرِّوَايَاتِ هِيَ تِلْكِ الَّتِيْ تُنَّبَعَ مَنّ مُعَانَاةِ وَأَحَاسِيْسْ الْرُوَائِيِّ، تِلْكَ الَّتِيْ تَعْبُرُ عَنْ وَاقِعٍ وَجُرِحَ، وَبِالاخصّ إِذَا كَانَتْ تُطْرَحُ مُعَانَاةِ شَعْبٍ بِكَامِلِهِ، كَمَا هِيَ الْحَالُ فِيْ حَاسَّةٌ مَرْوَانَ عَبدالَعَالَ الْهَارِبَةَ.

أَنَا لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ، وَلَكِنَّنِيْ أَحْسَسْتُ وَأَنَا اقْرَأْ حَاسَّةٌ هَارِبَةٌ بِانّني كُنْتُ هُنَاكَ أَشْهَدُ عَلَىَ زَمَنٍ كَثُرَ فِيْهِ الْظُّلْمَ وَالْمَوْتُ... وَصَفَ دَقِيْقٍ مُثْقَلٌ بِالْأَحَاسِيْسْ، يَنْقُلُكَ إِلَىَ هُنَالِكَ، شِئْتَ أَمْ أَبَيْتَ، لَتَجِدَ نَفْسَكَ مُحَاصَرَا بِزُوَارِيبُ كَانَتْ يَوْمَا مَسْرَحَا لَأَقْدَامِ صَبِيَّةٌ تَتَرَاكَضُ، تَلْعَبُ...لِخُطُوَاتِ نِسَاءْ تُحَمِّلَ رُزَمِ الْمُلَوُخِيَّةً فِيْ مَوَاسِمِهَا، تَتَسَارُعُ كَيْ تَصِلَ بَابِ الْدَّارِ، تَفَرُّدِهَا فِيْ بِاحَتَهُ،تَقْطِفُهَا، تُنَشِّفْهَا لِلْمُوْنِهِ... أُنَاسٌ عَادِيُّونَ يَسْكُنُوْنَ حَيّا، مُخَيِّما، يَأْخُذُوْنَهُ وَطَنِا مُؤَقَّتَا رَيْثَمَا يَعْبُرُوْا ثَانِيَةً عَائِدِيْنَ إِلَىَ الْوَطَنْ الْمَسْلُوبَ، الْوَطَنِ الْحَقِيقِيَّ... مُخَيَّمٌ عَايَشْتُ أَهْلِهِ الطَّيِّبِيْنَ، يُشَكِّلُ جُزْءا مِنْ ذَاكِرَةِ لَنْ يَمْحُوَهَا شَبَحٌ الْنِّسْيَانِ.

الْظُّلْمِ وَالْجُرْحُ الْنَّازِفِ يُوْلَدْ أَلَمْا وَمَرَارَةُ، يُوْلَدْ غَضَبَا، يُوْلَدْ ثَوْرَةٌ، وَيُوَلِّدُ إِبْدَاعَا. إِبْدَاعٌ فِيْ الاسْلُوبْ الْرُوَائِيِّ، بَرَاعَةُ فِيْ إِسْتِخْدَامِ التَشّابِيْهُ وَالْصُّوَرِ اللُغْوَيْهُ، وَفِيْ الْوَصْفِ الْدَّقِيْقِ، فِيْ نَقْلِ الْصُّوَرَةِ وَالْجُرْحُ وَالْمَأْسَاةُ إِلَىَ الْقَارِئِ، لَا بَلْ فِيْ وَضْعِ الْقَارِئُ دَاخِلَ تِلْكَ الْصُّوَرَةِ.... رِوَايَةِ حَمَلَتْنِيْ وَوَضَعَتْنِيْ دَاخِلَ الْمُخَيَّمِ بِشَتَّى أَحَاسِيْس الْحَزَنَ وَالْفَرَحِ وَالْغَضَبِ وَالْثَّوْرَةِ وَالْخَوْفِ - لَا بَلْ الْرُّعْبَ- وَالْمَوْتُ وَالْحَنَانْ وَالْأَلَمُ. فَرَغْتَ لَهَا كُلُّ أَحَاسِيْسِيْ عَلَّنِيْ اسْتَطِيَعُ الْتِقَاطِ أَكْبَرُ عَدَدَ مِنْ تِلْكَ الْحَوَاسُّ الْهَارِبَةَ، مِنْ حَاسَّةِ الْرَّجُلُ الْنَّائِمِ فِيْ الْتَّابُوْتِ الَّذِيْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَكَانْا يَدْفِنُ فِيْهِ، إِلَىَ حَاسَّةٌ الْمَرْأَةُ الْبَاحِثَةُ عَنْ سَرِيْرِ -عَنْ وَطَنْ، إِلَىَ حَاسَّةٌ الْرَّجُلُ الْهَرِم الْحَكِيْمُ، إِلَىَ فَتَىً الْرِّوَاقِ الْمَشْحُوْنِ بِطَاقَةُ الْحُلُمَ، إِلَىَ...... رِوَايَةِ تُجَسِّدُ حَالَةُ إِنْتِمَاءٌ، الانْتِمَاءِ لِتُرَاثِ، لِمُخَيَّمٍ، لنهّرِهُ وَبَحْرِهِ، لِتْرَابْ، لِشَّعْبِ، لِوَطَنٍ يَعِيْشُ فِيْ دَاخِلِنَا، لِحُلْمٍ هَارِبٌ، بِبَسَاطَةٍ الانْتِمَاءِ لِلْإِنْسَانِ. رِوَايَةِ تَنْتَصِرُ عَلَىَ الْصَّمْتِ، تَنْتَصِرُ عَلَىَ الْغُرْبَةِ وَالْمَنْفَىْ وَاللُّجُوءِ، تَتَسَلَّحَ بِسِلَاحِ الذَّاكِرَةِ وَالْحِلْمُ.
الْأَحْدَاثِ وَالنَّكَبَاتِ تَتَكَرَّرُ، الْسِّنِيْنَ اخْتَلَفَتْ، أَسْمَاءُ الْمُخَيَّمَاتِ وَالامَاكِنَ اخْتَلَفَتْ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَدَىَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ. شَعْبٌ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ لُجَوْءٍ إِلَىَ آَخِرِ، مَنْ قَهَرَ إِلَىَ أَخَّرَ وَمَنْ تَشَرَّدَ وَمَنْ مَنْفَىْ إِلَىَ أَخَّرَ ... "إِنَّنَا الْشَّعْبِ الْخَفِيفُ"....تُحَمِّلْنَا أَجْنِحَتِنَا الْمُشَبَّعَةِ دِمَاءً وَكِبْرِيَاءَ وَتَطِيْرُ بِنَا مِنْ هِجْرَةِ إِلَىَ هِجْرَةِ، يَحْمِلُنَا حُلُمٌ يُعْشعسَ فِيْ كُلِّ ثَنَايَا الْقَلْبِ وَالْرُّوْحُ، حُلُمٌ الْوَطَنْ الَّذِيْ يُقِيْمُ فِيْنَا عَلَىَ أَمَلِ دَائِمٌ بِأَنَّ نُقَيِّمَ فِيْهِ. هَلْ كُتِبَ عَلَىَ شَعْبِيٌّ أَنْ يَكُوْنَ دَائِمَا كَبْشَ مُحْرَقَةً لْمُسَاومَاتِ دَنِيَّئَةِ وَخِطَابَاتِ عَرِمَرَّمّيّةً، لِرُّوْحِ سَوْدَاءُ شَيْطَانِيَّةٌ تُحَاوِلَ تَغْيِيْرِ هُوِيَّةٌ الْحُلُمَ الْحَقِيقِيَّ، تَحْوِيِلْ مَسَارِهِ، لَا بَلْ قَتْلُهُ. إِلَىَ مَتَىَ سَيَبْقَىْ هَذَا الْشَّعْبِ يَدْفَعُ دِمَاءَهُ ثَمَنَا لِوُجُوْدِهِ، ثَمَنِ إِنْسَانِيَّتِهِ وَأَحْلَامِهِ، ثَمَنِ عُشْقِهِ وَصَلَاتُهُ لِأُمِّ وَلَدَتْهُ حُرّا ،إِقْتَلَعَ مِنْ بَيْنِ ذِرَاعَيْهَا.. وَلَكِنَّهُ سَيَظَلُّ يَرْكُضُ لِالْتِقَاطِ حَوَاسّ تُعِيْدُهُ إِلَىَ أَحْضَانِهَا....؟
كَلِمَاتٍ كَانَتْ تَتَرَدَّدُ بْأَسَى عَلَىَ مَسْمَعِيُّ - لَنْ يَسْمَحُوا لَنَا بِرُؤْيَةِ فِلَسْطِيْنَ ثَانِيَةً، لَّوْ اسْتَطَعْنَا رُؤْيَةِ نُقْرَةُ رَأْسِنَا مِنْ الْخَلَفِ فَقَطْ حِيْنَهَا نَسْتَطِيْعُ أَنْ نَرَىْ فِلَسْطِيْنَ مِنْ جَدِيْدٍ - كَلِمَاتٍ كَانَتْ تُغْضِبُنِيْ، وَتَسْتَفِزْنِيّ فَأَقُوْلُ بِأَنَّ فِلَسْطِيْنَ إِلْنَا وَرَحْ تَرجَعَلْنا، رَحْ نَسْتَرَدَهَا بِالْقُوَّةِ. الْآَنَ لَا أَغْضَبُ وَلَا احْتَدَّ، بَلْ أَسْخَرُ مِنْ هَكَذَا تَحْلِيْلِ، فَأَنْتَ تَسْتَطِيْعَ رُؤْيَةِ نُقْرَةُ الْرَأْسِ إِذَا اسْتُعْمِلَتِ مِرآتِينَ. بِإِسْتِمَرَارِيّةً الْحُلُمَ سَنَرَى فِلَسْطِيْنَ ثَانِيَةً، فَهِيَ مِرْآَةٌ قُلُوْبَنَا وَأَحْلَامَنَا. حُلُمٌ سَيَبْقَىْ مُنْتَصِبَا دَائِمٌ الّشُمُوُخ ..."حُلُمٌ تُعَلِّقُ بِالْأَرْضِ لَنَّاسِ إِقْتْلَعُوا مَنْ الْأَرْضِ".
فَحَلَقَ يَا حُلْمِيَ الْهَارِبَ، لَنْ يَقْوَىَ عَلَىَ أَسَرَكْ أَحَدٌ
-CANADA      Nadia Shoufani

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر