المكان بين الإنكار والاغتيال
" لم يعد مفهوم المكان في المصطلحات التاريخية مفهوماً سكونياً، ربما أكثر مما هو مفهوم الزّمان الذي يرى عادة على أنه صلب عملية التحري التاريخي " هكذا عرّف ( كيث وايتلام )المكان في كتابه الشهير " تلفيق اسرائيل" - طمس التاريخ الفلسطيني- ، حيث حدد مسألة إنكار المكان الفلسطيني ارتباطاً بإنكار الزمان ، أي سرقة التاريخ. وهذا ما جعل أحد الكتاب الصهاينة بالقول : "إنّ الفلسطينيون مهووسون بالتاريخ أما نحن فبالجغرافيا ". هذا ما يفسّر المسعى المحموم للعدو في زراعة الاستيطان وتغيير معالم الأرض، لاّن حيازة المكان كمقدمة لتلفيق الحكاية، أي أسبقية الجغرافيا على التاريخ.
المكان تعبير جغرافي من بداية ونهاية في المقاييس المتعارف عليها في العلوم التطبيقية، وتحديداً الهندسية، لكن المكان في الضمير الجمعي الفلسطيني يتجاوز الحسابات إلى مضامين بسيكولوجية وسوسيولوجية وتاريخية تتجاوز الوعي بالمعنى المعجمي للكلمة إلى نقطة تماهي الواقع بالذاكرة والحلم بالمستقبل والحق التاريخي المسلوب.
الاستثناء يكمن في مجتمع فتقد المكان الأصلي فصار للمفهوم ذاته استثناء آخر، يمكن أن يطلق عليه " روح المكان " من الدلالات والمعاني وتحديداً في مخيمات لبنان، إن لكل بلدة أو قرية فلسطينية إسماً لحيّ من الأحياء: فحي صفورية أو حي الغابسية أو الدامون أو سعسع أو لوبية وصفد ... الخ، هي أسماء تطلق على مساحات غاية في الضيق الجغرافي في المخيمات، ليس كأسماء فحسب بل تعبير إن من يشغل هذه الجغرافيا أناس القرية التي سمّي الحيّ باسمها، في رمزية وجدانية تتجاوز المكان إلى الذاكرة المتوارثة التي لا يجب المراهنة عليها إلى ما لا نهاية.
إذنّ تصفية قضية اللاجئيين لا يتم بقرار سياسي فحسب بل باستراتيجيات وأعمال غير مباشرة، تطلق سياسات واعية من جهات متعددة لاحتلال روح المكان قبل المكان نفسه، عبر إعادة صياغتها وفق هندسة اجتماعية جديدة من جهة أو العمل على خنق التجمعات الحاملة للهوية باعتبارها قضية، وفتح قنوات النّزف والتهميش والتّهجير، أو دفعاً باتجاه اندماج فردي وعبر حلول فردية، الأهم أن لا يبقى هناك صيغة جامعة في مكان تتّصل بروح واحدة وثقافة جامعة. عندما يتم تدمير مخيم، كالذي جرى قبل أكثر ثلاث سنوات في مخيم نهر البارد وما سبق من اجتثاث لمخيّمات عدّة أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، عملياً الذي تدمّر هو هوية المكان المفترضة، أي المكان بوصفه حاضنة لنسيج اجتماعي فلسطيني ومكان لمجتمع افتقد المكان الأصلي، فحوّل المكان بوصفه ركيزة اضطرارية إلى وعاء يعيد تشكيل صورة الفلسطيني ومكانته وبأشكال متجددّة من هوية اللاجئ الفلسطيني. الذي حمل فيها نسخة مفترضة عن بلدته تفاعلت عبر سنوات النكبة في شبكة العلاقات والتقاليد والعادات والذكريات وحتى الأحلام المشتركة.
إنّ الاعتداء على المكان يستهدف محو هذه الذاكرة، وتمزيق المجتمع عن طريق تشتيت النسيج الاجتماعي، باعتبار أن المخيم شاهد حي على نكبة وجريمة ارتكبت باقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وحافظ للحسّ الجمعي. لذا، عندما تمّ تحويل المخيّم إلى فراغ، وتحت مسمّى البناء وإعادة الإعمار من الصفر، دخلت الاستراتيجية في إعادة صياغة المكان أولاً، في إحداث تقسيم رقمي للحارات والأحياء والأجزاء، في محاولة لبتر الذاكرة الشعبية حتى عن المسميات المخترعة التي تشكّلت عبر سنوات النكبة.
إنّ التغيير المبرمج لمحتوى المخيم ولإعادة تشكيل الشخصية الفلسطينية لما لها من دلالة تعكس روح الانتماء وانتاج الوعي الجماعي بالذات يمرّ عبر آليات تغيير يعاكس هويته، هو أمر لا بدّ من تركيز الضوء عليه، فثمّة فارق كبير بين المخيم الوعاء الثقافي والوطني، والمخيم الفزّاعة المخيفة وتحويل الوجه النضالي إلى وجه قاتل، بوصفه بؤرة للبؤس والإرهاب معاً. ولعلّ تجربة مخيم نهر البارد ماثلة للعيان، فهو مخيم منتج اقتصادياً، قبل التدمير صار مخيماً يعيش على الإغاثة وكأنّ إعادة الفلسطيني إلى المربّع الأول لسنوات النكبة كمتسول على أعتاب الدول المانحة، أي بمفهوم الضحيّة السلبية.
حين يتحوّل المكان إلى بقعة خارجة عن القانون، يكون المخيم قد أُدخل في ذهنية الآخر بوصفه مسبّباً للجريمة وليس ضحيتها. لذلك تدمير المكان، يتم عندما يتحوّل المخيم إلى دائرة مغلقة أمنياً يصبح المكان فيه يقارب مفهوم " الغيتو " ، ومن خلال عملية تنقيح الداخل إليه والخارج منه، هذه الممارسة تقف خلفها سياسة صناعة صورة للفلسطيني بوصفه مشروع فتنة بطبيعته، إلى درجة تحويل المكان نفسه إلى لعنة على ساكنيه.
هي تمزيق مبرمج لهويّة صانتها الأجيال، بوصف الهوية الوجه الآخر للمكان والذي ينتج المكان، كحصيلة إجمالية أنتجها المجتمع وتطورت عبر المكان وفيه. صحيح أن الهوية ليست بنيةً مغلقةً وإنما هي بنية مُتَحَوِّلةٌ باستمرار، ولكن على محور ثبات! إنها مصطلح يعكس نفسه تحت مجهر الزَّمن ومعاييره، وفي سياق علاقة تبادلية تنهض على تفاعل، متحقِّقٍ أو مكبوح، مع معطيات الوجود ومكونات المحيط، بحيث لا يُمكن التعامل معه بمعزلٍ عن إدراك مناحي تأثُّره بالسّلطة الزَّمنية للتاريخ، وبمعطيات حركة الحياة وغايات الحراك، أو السُّكون، الثقافي: الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي والقانوني.
لذلك المخيم هو المؤقّت، هوية ومكانة ولكن ثمة خطورة من تحويل المؤقت إلى دائم عبر الأجيال، بحيث يصبح المؤقت أيضاً أقوى من الأصل نفسه. في تحليله لأسباب فشل ثورة 1936 _ 1939 يرى الكاتب والمفكر والسياسي غسان كنفاني أنّ طبيعة الصدام ما بين المشروعين الكولونيالي الصهيوني والوطني -القومي الفلسطيني العربي كان صداماً شاملاً أي عامودياً أي البورجوازي، الإقطاعي والفلاحي والبروليتاري الفلسطيني مع الرأسمالي والبرجوازي والبروليتاري اليهودي، بمعنى آخر أن الصراع هذا لم يترك للمجتمع الفلسطيني رفاهية التطور الطبيعي، بل قاده إلى حالة صداميّة تاريخية ووجدانية مع مشروع كولنيالي احتلالي جغرافي ووجداني وعاطفي وديموغرافي، أي شمولي بالمضامين الإنسانية فكانت النكبة ليست احتلال مكان بل تدمير مجتمع، بما يعني ترابط المكان والمكانة وفق ابن عربي الذي وضع المكانة في موقع متقدّم على المكان حين اعتبر أن: " كل مكان بلا مكانة لا يعول عليه ".
عندما أجبر الفلسطيني على مغادرة أرضه المكان في العام 1948 فقد المكانة في آن، خصوصاً أن الفلسطينيين كانوا بغالبيتهم، 70% فلاحين إلى 30% من سكان المدن، وفي الريف فأرض تمثّل بعداً إنسانياً واقتصادياً ومرتبة اجتماعية ولا مكانة لمن لا يحوز مكاناً.
والأرض تتماهى في البعد الديني - الاجتماعي الفلسطيني بالعرض، ولا غرابة بالتالي مع تغنّي الشعراء الأوائل وشعراء ما بعد النكبة بالأرض وتخوين من يتخلى عنها، مثل قصيدة الشاعر الفلسطيني راشد حسين الذي يقول في سياق ازدرائه لمن يبيع أرضه، في حوارية بين عروس وخطيبها:
" وبعت التراب المقدس يا أنذل العاشقين لتدفع مهر وتبتاع لي ثوب عرس ثمين.. الخ ".
ونفي المجتمع الفلسطيني وعزل كل من يبيع أرضه، وخصوصاً خلال ثورة الحجارة.
إذن، عندما شرّد الفلسطينيون من ديارهم في العام 1948 كانوا في غالبيتهم من الفلاحين المزروعين في الأرض، وكان المجتمع بغالبيته مجتمع فلاحين، خصوصاً أن الحركة الصهيونية والاستعمار البريطاني عملا عبر سياسة مدروسة على سلب الفلاحين أراضيهم وفي الوقت ذاته منعهم ومنع المجتمع الفلسطيني من التحوّل إلى مجتمع صناعي ينتج بروليتاريا ثورية واستطراداً مجتمعاً ينتج تشكيلات حداثية مماثلة لتلك التشكليلات المجتمعية الأوروبية والصهيونية المهاجرة إلى فلسطين.
ولا غرابة بالتالي أنّ التسميات المطلقة على الأحياء المتداخلة في المخيمات هي تسميات تعود إلى البلدات والقرى التي انتزع الفلسطيني منها، بل لا غرابة في أن كثيراً من الخلافات التي ترقى أحياناً إلى نزاعات محدودة تحدث بين أحياء في المخيمات في لبنان بناء على الانتماءات القروية العشائرية العائدة إلى ما قبل الحداثة، فالوعي الجمعي الفلسطيني تجمّد عند مرحلة التهجير القصري وبات المكان العائد إلى الماضي فكرة تلبس اللاوعي إنما الوعي في البعد ذات الصّلة بالإحساس بالهوية المتصلة بالمكان وهو فلسطين عموماً والبلدات والقرى التي تهجّر منها الفلسطينيون خصوصاً.
وفي هذا السياق يمكن فهم سبب دفاع الفلسطيني المستميت عن رقع جغرافية هي المخيمات في لبنان، وخوض صراع غير مفهوم أو غير متفهّم ومستغرب أحياناً كما حصل خلال الحرب الأهلية الدامية بين 1975 و1982 في لبنان، ومبارايات رياضية دموية كما حدث أخيراً بين فريقي الوحدات الفلسطيني والفيصلي الشرق أردني في الأردن، فالمخيم هو المكان المتماهي رمزياً مع فلسطين المسلوبة وفلسطين المتوخاة أو المتمناة ، بين الماضي الضائع ومع ذلك يسكنهم بقوة، والمستقبل الذي يعاند القدر ولا يتحقّق.
لكن إشكالية المكان إذا استقام في الغربة، لا يقود إلى المكانة، فثمة شيء مفقود على سبيل المثال إذا ما هاجر الفلسطيني من المخيم إلى أوروبا، بحيث يبقى المخيم في الذاكرة متماهياً مع الأصل، أي المكان الذي جاء منه الآباء والأجداد في صفورية أو الغابسية أو البصة أو صفد أو إلى ما هنالك من تسميات على أساس قروي أو جهوي فلسطيني في شتات دول الجوار، ثمة شيء يربط ذلك الجيل الذي ولد في المنفى القصري، في المخيم المعزول عمداً عن جواره اللبناني، أو المختلف عمداً أو عفواً عن جواره السوري أو الأردني، بل حتى عن جواره الفلسطيني في الضفة وغزة، بذاكرة القرية التي لم يعرفها، إنما تنامى إلى مسامعه أشياء حقيقية وخيالية عنها.
إن هذا، إلى وقت قريب، كان سائداً خصوصاً في المنافي الأوروبية، ما بعد منافي المخيمات الناجمة عن التهجير القصري المتصل بالمشروع الصهيوني الكولونيالي الإحتلالي في فلسطين. لكن بات هناك جيل من المهاجرين خصوصاً من لبنان إلى أوروبا أبعد من جيل ما بعد النكبة عن النوستاليجيا الفلسطينية. وهو أقرب إلى الارتباط بالمخيم،الرمز المتصل بذاكرة البلدة أو القرية الفلسطينية. والخوف أن تتوالد أجيال تتصل بنوستالجيا ما بعد المهجر فتضيع ذاكرة الوطن. بل ذاكرة المكان الرمز، أي المخيم، فتضيع القضية برمتها، إذ تستحيل فكرة ابن عربي عن أن: كل مكان بلا مكانة لا يعول عليه، الى المكانة في اي مكان يمكن التعويل عليها!! هي اشكالية ستبقى قائمة باستمرار طالما الصراع مستمر. كما هو مفهوم الوطن الأصلي وليس المفترض فقط، والذي يتعلّق بالإنسان الذي يشغل المكان، تماماً كما ورد سرّ غسان كنفاني في " عائد إلى حيفا " في الحوار التالي :
" وسأل نفسه فجأة: ما هو الوطن؟ وابتسم بمرارة، وأسقط نفسه، كما يسقط الشيء فى مقعده، وكانت صفية تنظر إليه قلقة، وتفتح فى وجهه عينين متسائلتين، وعندها فقط خطر له أن يشاركها فى الأمر، فسألها:
ـ " ما هو الوطن؟ "
وارتدّت إلى الوراء مندهشة وهي تنظر إليه كمن لا يصدّق ما سمع، ثم سألته برقّة يكتنفها الشك:
ـ " ماذا قلت؟ "
ـ " سألت: ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة. أجل ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلّا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟ ما هو الوطن؟ بالنسبة لبدر اللبدة، ما هو الوطن؟ أهو صورة آية معلقة على الجدار؟ إنني أسأل فقط ".
" هذا هو الوطن "، قالها لنفسه وهو يبتسم، ثم التفت نحو زوجته:
ـ " أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألّا يحدث ذلك كله ".
وهنا تكمن مهمة الثقافة الوطنية والأدب وسلاح المعرفة والوعي بوصفها الأداة التربوية التي تخوض صراع من نوع آخر، صراع في سياق يؤكِّد أهميّة التفاعل بين مكانة النهضة الثقافية في تفكيك التباس صورة الانتماء إلى المكان في ظل علاقتها بالانتماء إلى مشروع نهضوي جامع ، ويُرسَّخ الوعي بالأهمية الجوهرية للإنسان كونه في نهاية الأمر قضية، تصون الذات الجمعية فيها روح الثقافة الوطنية عبر وضع استراتيجيات مجتمعية تؤثر في المجتمع السياسي والقرار السياسي وتضمن في الوقت عينه تأصيل الصراع بوصفه صراع تاريخي شامل يكفل تحقيق حفظ الهوية والمكانة الوطنية المتجددة . وتنفتحُ على ثراء التنوع الثقافي الإنسانيِّ، وتطور الحياة الفلسطينية، وتفاعلها مع محيطها الثقافي العربي.
مروان عبد العال
روائي ومناضل فلسطيني
المكان تعبير جغرافي من بداية ونهاية في المقاييس المتعارف عليها في العلوم التطبيقية، وتحديداً الهندسية، لكن المكان في الضمير الجمعي الفلسطيني يتجاوز الحسابات إلى مضامين بسيكولوجية وسوسيولوجية وتاريخية تتجاوز الوعي بالمعنى المعجمي للكلمة إلى نقطة تماهي الواقع بالذاكرة والحلم بالمستقبل والحق التاريخي المسلوب.
الاستثناء يكمن في مجتمع فتقد المكان الأصلي فصار للمفهوم ذاته استثناء آخر، يمكن أن يطلق عليه " روح المكان " من الدلالات والمعاني وتحديداً في مخيمات لبنان، إن لكل بلدة أو قرية فلسطينية إسماً لحيّ من الأحياء: فحي صفورية أو حي الغابسية أو الدامون أو سعسع أو لوبية وصفد ... الخ، هي أسماء تطلق على مساحات غاية في الضيق الجغرافي في المخيمات، ليس كأسماء فحسب بل تعبير إن من يشغل هذه الجغرافيا أناس القرية التي سمّي الحيّ باسمها، في رمزية وجدانية تتجاوز المكان إلى الذاكرة المتوارثة التي لا يجب المراهنة عليها إلى ما لا نهاية.
إذنّ تصفية قضية اللاجئيين لا يتم بقرار سياسي فحسب بل باستراتيجيات وأعمال غير مباشرة، تطلق سياسات واعية من جهات متعددة لاحتلال روح المكان قبل المكان نفسه، عبر إعادة صياغتها وفق هندسة اجتماعية جديدة من جهة أو العمل على خنق التجمعات الحاملة للهوية باعتبارها قضية، وفتح قنوات النّزف والتهميش والتّهجير، أو دفعاً باتجاه اندماج فردي وعبر حلول فردية، الأهم أن لا يبقى هناك صيغة جامعة في مكان تتّصل بروح واحدة وثقافة جامعة. عندما يتم تدمير مخيم، كالذي جرى قبل أكثر ثلاث سنوات في مخيم نهر البارد وما سبق من اجتثاث لمخيّمات عدّة أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، عملياً الذي تدمّر هو هوية المكان المفترضة، أي المكان بوصفه حاضنة لنسيج اجتماعي فلسطيني ومكان لمجتمع افتقد المكان الأصلي، فحوّل المكان بوصفه ركيزة اضطرارية إلى وعاء يعيد تشكيل صورة الفلسطيني ومكانته وبأشكال متجددّة من هوية اللاجئ الفلسطيني. الذي حمل فيها نسخة مفترضة عن بلدته تفاعلت عبر سنوات النكبة في شبكة العلاقات والتقاليد والعادات والذكريات وحتى الأحلام المشتركة.
إنّ الاعتداء على المكان يستهدف محو هذه الذاكرة، وتمزيق المجتمع عن طريق تشتيت النسيج الاجتماعي، باعتبار أن المخيم شاهد حي على نكبة وجريمة ارتكبت باقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وحافظ للحسّ الجمعي. لذا، عندما تمّ تحويل المخيّم إلى فراغ، وتحت مسمّى البناء وإعادة الإعمار من الصفر، دخلت الاستراتيجية في إعادة صياغة المكان أولاً، في إحداث تقسيم رقمي للحارات والأحياء والأجزاء، في محاولة لبتر الذاكرة الشعبية حتى عن المسميات المخترعة التي تشكّلت عبر سنوات النكبة.
إنّ التغيير المبرمج لمحتوى المخيم ولإعادة تشكيل الشخصية الفلسطينية لما لها من دلالة تعكس روح الانتماء وانتاج الوعي الجماعي بالذات يمرّ عبر آليات تغيير يعاكس هويته، هو أمر لا بدّ من تركيز الضوء عليه، فثمّة فارق كبير بين المخيم الوعاء الثقافي والوطني، والمخيم الفزّاعة المخيفة وتحويل الوجه النضالي إلى وجه قاتل، بوصفه بؤرة للبؤس والإرهاب معاً. ولعلّ تجربة مخيم نهر البارد ماثلة للعيان، فهو مخيم منتج اقتصادياً، قبل التدمير صار مخيماً يعيش على الإغاثة وكأنّ إعادة الفلسطيني إلى المربّع الأول لسنوات النكبة كمتسول على أعتاب الدول المانحة، أي بمفهوم الضحيّة السلبية.
حين يتحوّل المكان إلى بقعة خارجة عن القانون، يكون المخيم قد أُدخل في ذهنية الآخر بوصفه مسبّباً للجريمة وليس ضحيتها. لذلك تدمير المكان، يتم عندما يتحوّل المخيم إلى دائرة مغلقة أمنياً يصبح المكان فيه يقارب مفهوم " الغيتو " ، ومن خلال عملية تنقيح الداخل إليه والخارج منه، هذه الممارسة تقف خلفها سياسة صناعة صورة للفلسطيني بوصفه مشروع فتنة بطبيعته، إلى درجة تحويل المكان نفسه إلى لعنة على ساكنيه.
هي تمزيق مبرمج لهويّة صانتها الأجيال، بوصف الهوية الوجه الآخر للمكان والذي ينتج المكان، كحصيلة إجمالية أنتجها المجتمع وتطورت عبر المكان وفيه. صحيح أن الهوية ليست بنيةً مغلقةً وإنما هي بنية مُتَحَوِّلةٌ باستمرار، ولكن على محور ثبات! إنها مصطلح يعكس نفسه تحت مجهر الزَّمن ومعاييره، وفي سياق علاقة تبادلية تنهض على تفاعل، متحقِّقٍ أو مكبوح، مع معطيات الوجود ومكونات المحيط، بحيث لا يُمكن التعامل معه بمعزلٍ عن إدراك مناحي تأثُّره بالسّلطة الزَّمنية للتاريخ، وبمعطيات حركة الحياة وغايات الحراك، أو السُّكون، الثقافي: الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي والقانوني.
لذلك المخيم هو المؤقّت، هوية ومكانة ولكن ثمة خطورة من تحويل المؤقت إلى دائم عبر الأجيال، بحيث يصبح المؤقت أيضاً أقوى من الأصل نفسه. في تحليله لأسباب فشل ثورة 1936 _ 1939 يرى الكاتب والمفكر والسياسي غسان كنفاني أنّ طبيعة الصدام ما بين المشروعين الكولونيالي الصهيوني والوطني -القومي الفلسطيني العربي كان صداماً شاملاً أي عامودياً أي البورجوازي، الإقطاعي والفلاحي والبروليتاري الفلسطيني مع الرأسمالي والبرجوازي والبروليتاري اليهودي، بمعنى آخر أن الصراع هذا لم يترك للمجتمع الفلسطيني رفاهية التطور الطبيعي، بل قاده إلى حالة صداميّة تاريخية ووجدانية مع مشروع كولنيالي احتلالي جغرافي ووجداني وعاطفي وديموغرافي، أي شمولي بالمضامين الإنسانية فكانت النكبة ليست احتلال مكان بل تدمير مجتمع، بما يعني ترابط المكان والمكانة وفق ابن عربي الذي وضع المكانة في موقع متقدّم على المكان حين اعتبر أن: " كل مكان بلا مكانة لا يعول عليه ".
عندما أجبر الفلسطيني على مغادرة أرضه المكان في العام 1948 فقد المكانة في آن، خصوصاً أن الفلسطينيين كانوا بغالبيتهم، 70% فلاحين إلى 30% من سكان المدن، وفي الريف فأرض تمثّل بعداً إنسانياً واقتصادياً ومرتبة اجتماعية ولا مكانة لمن لا يحوز مكاناً.
والأرض تتماهى في البعد الديني - الاجتماعي الفلسطيني بالعرض، ولا غرابة بالتالي مع تغنّي الشعراء الأوائل وشعراء ما بعد النكبة بالأرض وتخوين من يتخلى عنها، مثل قصيدة الشاعر الفلسطيني راشد حسين الذي يقول في سياق ازدرائه لمن يبيع أرضه، في حوارية بين عروس وخطيبها:
" وبعت التراب المقدس يا أنذل العاشقين لتدفع مهر وتبتاع لي ثوب عرس ثمين.. الخ ".
ونفي المجتمع الفلسطيني وعزل كل من يبيع أرضه، وخصوصاً خلال ثورة الحجارة.
إذن، عندما شرّد الفلسطينيون من ديارهم في العام 1948 كانوا في غالبيتهم من الفلاحين المزروعين في الأرض، وكان المجتمع بغالبيته مجتمع فلاحين، خصوصاً أن الحركة الصهيونية والاستعمار البريطاني عملا عبر سياسة مدروسة على سلب الفلاحين أراضيهم وفي الوقت ذاته منعهم ومنع المجتمع الفلسطيني من التحوّل إلى مجتمع صناعي ينتج بروليتاريا ثورية واستطراداً مجتمعاً ينتج تشكيلات حداثية مماثلة لتلك التشكليلات المجتمعية الأوروبية والصهيونية المهاجرة إلى فلسطين.
ولا غرابة بالتالي أنّ التسميات المطلقة على الأحياء المتداخلة في المخيمات هي تسميات تعود إلى البلدات والقرى التي انتزع الفلسطيني منها، بل لا غرابة في أن كثيراً من الخلافات التي ترقى أحياناً إلى نزاعات محدودة تحدث بين أحياء في المخيمات في لبنان بناء على الانتماءات القروية العشائرية العائدة إلى ما قبل الحداثة، فالوعي الجمعي الفلسطيني تجمّد عند مرحلة التهجير القصري وبات المكان العائد إلى الماضي فكرة تلبس اللاوعي إنما الوعي في البعد ذات الصّلة بالإحساس بالهوية المتصلة بالمكان وهو فلسطين عموماً والبلدات والقرى التي تهجّر منها الفلسطينيون خصوصاً.
وفي هذا السياق يمكن فهم سبب دفاع الفلسطيني المستميت عن رقع جغرافية هي المخيمات في لبنان، وخوض صراع غير مفهوم أو غير متفهّم ومستغرب أحياناً كما حصل خلال الحرب الأهلية الدامية بين 1975 و1982 في لبنان، ومبارايات رياضية دموية كما حدث أخيراً بين فريقي الوحدات الفلسطيني والفيصلي الشرق أردني في الأردن، فالمخيم هو المكان المتماهي رمزياً مع فلسطين المسلوبة وفلسطين المتوخاة أو المتمناة ، بين الماضي الضائع ومع ذلك يسكنهم بقوة، والمستقبل الذي يعاند القدر ولا يتحقّق.
لكن إشكالية المكان إذا استقام في الغربة، لا يقود إلى المكانة، فثمة شيء مفقود على سبيل المثال إذا ما هاجر الفلسطيني من المخيم إلى أوروبا، بحيث يبقى المخيم في الذاكرة متماهياً مع الأصل، أي المكان الذي جاء منه الآباء والأجداد في صفورية أو الغابسية أو البصة أو صفد أو إلى ما هنالك من تسميات على أساس قروي أو جهوي فلسطيني في شتات دول الجوار، ثمة شيء يربط ذلك الجيل الذي ولد في المنفى القصري، في المخيم المعزول عمداً عن جواره اللبناني، أو المختلف عمداً أو عفواً عن جواره السوري أو الأردني، بل حتى عن جواره الفلسطيني في الضفة وغزة، بذاكرة القرية التي لم يعرفها، إنما تنامى إلى مسامعه أشياء حقيقية وخيالية عنها.
إن هذا، إلى وقت قريب، كان سائداً خصوصاً في المنافي الأوروبية، ما بعد منافي المخيمات الناجمة عن التهجير القصري المتصل بالمشروع الصهيوني الكولونيالي الإحتلالي في فلسطين. لكن بات هناك جيل من المهاجرين خصوصاً من لبنان إلى أوروبا أبعد من جيل ما بعد النكبة عن النوستاليجيا الفلسطينية. وهو أقرب إلى الارتباط بالمخيم،الرمز المتصل بذاكرة البلدة أو القرية الفلسطينية. والخوف أن تتوالد أجيال تتصل بنوستالجيا ما بعد المهجر فتضيع ذاكرة الوطن. بل ذاكرة المكان الرمز، أي المخيم، فتضيع القضية برمتها، إذ تستحيل فكرة ابن عربي عن أن: كل مكان بلا مكانة لا يعول عليه، الى المكانة في اي مكان يمكن التعويل عليها!! هي اشكالية ستبقى قائمة باستمرار طالما الصراع مستمر. كما هو مفهوم الوطن الأصلي وليس المفترض فقط، والذي يتعلّق بالإنسان الذي يشغل المكان، تماماً كما ورد سرّ غسان كنفاني في " عائد إلى حيفا " في الحوار التالي :
" وسأل نفسه فجأة: ما هو الوطن؟ وابتسم بمرارة، وأسقط نفسه، كما يسقط الشيء فى مقعده، وكانت صفية تنظر إليه قلقة، وتفتح فى وجهه عينين متسائلتين، وعندها فقط خطر له أن يشاركها فى الأمر، فسألها:
ـ " ما هو الوطن؟ "
وارتدّت إلى الوراء مندهشة وهي تنظر إليه كمن لا يصدّق ما سمع، ثم سألته برقّة يكتنفها الشك:
ـ " ماذا قلت؟ "
ـ " سألت: ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة. أجل ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلّا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟ ما هو الوطن؟ بالنسبة لبدر اللبدة، ما هو الوطن؟ أهو صورة آية معلقة على الجدار؟ إنني أسأل فقط ".
" هذا هو الوطن "، قالها لنفسه وهو يبتسم، ثم التفت نحو زوجته:
ـ " أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألّا يحدث ذلك كله ".
وهنا تكمن مهمة الثقافة الوطنية والأدب وسلاح المعرفة والوعي بوصفها الأداة التربوية التي تخوض صراع من نوع آخر، صراع في سياق يؤكِّد أهميّة التفاعل بين مكانة النهضة الثقافية في تفكيك التباس صورة الانتماء إلى المكان في ظل علاقتها بالانتماء إلى مشروع نهضوي جامع ، ويُرسَّخ الوعي بالأهمية الجوهرية للإنسان كونه في نهاية الأمر قضية، تصون الذات الجمعية فيها روح الثقافة الوطنية عبر وضع استراتيجيات مجتمعية تؤثر في المجتمع السياسي والقرار السياسي وتضمن في الوقت عينه تأصيل الصراع بوصفه صراع تاريخي شامل يكفل تحقيق حفظ الهوية والمكانة الوطنية المتجددة . وتنفتحُ على ثراء التنوع الثقافي الإنسانيِّ، وتطور الحياة الفلسطينية، وتفاعلها مع محيطها الثقافي العربي.
مروان عبد العال
روائي ومناضل فلسطيني
تعليقات
إرسال تعليق