مروان عبد العال: كل الروايات لم تر الفلسطيني إلا في لحظة قرع جدار الخزان

اسكندر حبش


من ذاكرة المخيم والمرويات، استمد الروائي الفلسطيني مروان عبد العال، جزءا كبيرا من حكايات رواياته التي يحاول فيها أن يعيد التفكير بهذا الشرط التاريخي والإنساني الذي فرض عليه. هي أيضا روايات تحاول أن «تبدع» سلاحها الخاص في مواجهة تدمير الذاكرة الممنهج الذي يفرضه العدو. حول الكتابة والرواية، هذا اللقاء:
سنتحدث اليوم عن الأدب، من هنا، سأبدأ بسؤال بديهي: «كيف جئت إلى الكتابة»؟

^ لأقل بداية، كانت الحكايات تتساقط عليّ، وبخاصة من على لسان الكبار. كان ذلك في وقت ليست فيه وسائل تسلية مثل التلفزيون أو غيره، لذلك بدت واحدة من المؤثرات التي عشتها كالأحلام البعيدة. وفي الوقت عينه، كانت تستهويني الكتابات وبخاصة القصص القصيرة والشعر. أنا من بيت كان فيه مكتبة كبيرة، لأفراده هواية المطالعة. كنت أتصفح منذ الصغر الكتب المتعددة، الموجودة في البيت. وبخاصة مجلة «العربي» التي كنا نملكها منذ العدد الأول. أفتحها وأبحث عن القصص فيها. من ثم مع النضوج، بدأت اقرأ كلّ شيء مرتبط بالقضية الفلسطينية، سواء أكان أدبا أجنبيا أم عربيا. هذه المؤثرات خلقت لدي هذا الجو في المطالعة. بداية نشاطاتي كانت ذات طابع شبابي وثقافي...

بأي معنى؟

^ كان هدفها رعاية المواهب الشابة في مخيم «نهر البارد»، وبخاصة في القصة القصيرة والشعر والمقالة. وأعتقد أن هذا النشاط رسخ الكثير من المسائل التي استندت إليها في ما بعد.

ما المقصود بالاستناد إليها؟

^ تساقط هذه القصص والحكايات كما الشخصيات، شكلّ جزءا من تجربتي في العمل. على سبيل المثال، حين كنّا نعرض القصص القصيرة، ونختار الأفضل بينها، نترك القارئ ليلقيها. وفي الوقت عينه، نشكل لجنة ناقدة تناقش القصص في نهاية الأمر. كل هذا خلق مناخا..

في هذا المناخ الذي عشت فيه وكان مشدودا إلى الأدب، ما الذي دفعك إلى التفرغ للعمل السياسي؟

^ أعتقد أن الأمرين أخذا من بعضهما البعض، لا أجد أنهما كانا يفترقان. أعتقد أن المدخل في الذهاب إلى العمل السياسي كان مدخلا ثقافيا. لا أعتبر ذلك عيبا، بل على العكس من ذلك.

طرف الأدب

لا أقصد عيبا، ولكنك قمت بخيار في حياتك؟

^ صحيح، ولكن في الوقت عينه اعتبرت أن ثمة شيئا كليا، حتى في السياسة اعتبرت نفسي دائما «على طرف السياسة»، لا في «موقع قيادي». وحتى في الأدب لا أعرف لماذا بقيت أتعاطى مع الأمر وكأني على طرف الأدب.

سنعود إلى هذه النقطة، ولكنك دخلت أكثر إلى الأمر السياسي؟ قلت إن الأدب كان المدخل، هل كنت بدأت الكتابة تلك الفترة؟ أين نشرت؟

^ معظم القصص التي كتبتها في تلك الفترة نشرتها في المجلات المحلية والنشرات، كان هناك مجلة الهدف، و«نشرة فلسطين» كما الدوريات المحلية الفلسطينية. هكذا كانت البدايات، أضف إلى ذلك أني شاركت في العديد من المسابقات، وبخاصة حين كنت في مرحلة البكالوريا. ثمة مرحلة ثانية مررت بها، المرحلة التي تركت فيها لبنان لمدة سنتين، طلبا للعمل..

إلى أين ذهبت؟

^ إلى ليبيا، جئت إلى مكان كان فيه فسحة كبيرة من الوقت استفدت منها في القراءة. معظم الذين كانوا في «راس هلال» حيث كنت هم من الأساتذة الفلسطينيين الذي أتوا من «الداخل»..

في أيّ عام حدث ذلك؟

^ بين عامي 1977 – 1979. كانوا جميعا آتين من الضفة الغربية وقطاع غزة وكانوا يدرسون في ليبيا. ثمة جزء من هؤلاء كان من أساتذة الأدب العربي، وواحد منهم كان ينشر في مجلة «الثقافة العربية» أي كان أديبا. خلق لي هذا الأمر سنتين من العزلة الأدبية. لذلك أعتبرها مرحلة مهمة في حياتي.

بدأت الكتابة إذاً ولكن تأخرت لتنشر، لنقل أخذك العمل السياسي. من هنا هل إن الأدب اليوم، بالنسبة إليك هو مشروع مواز للعمل السياسي أم إنه مشروع آخر لشخص آخر؟

^ لا أعتقد أن الشخص الواحد يملك «طبقة» واحدة، أعتقد أنه يملك أكثر من واحدة. هذا ما أشعر به. سواء في الرسم أو الكتابة.. ربما كانت هوايات أقوم بها لكني من خلالها أعبر عن نفسي. وفي الوقت عينه، أحيانا لا أجد أن السياسة تتسع لكل ما أريد قوله بصراحة. لذلك ألجا إلى الكتابة. نشرت أول رواية لي العام 1999 بعنوان «سفر أيوب»، وبعد عام 2000 أصدرت الروايات الباقية.

في أي حال، كنت أعتبر أن القضية الفلسطينية الذي أنا منتسب إليها، من الخطأ النظر إليها على أنها قضية سياسية فقط، لأني أعتبرها مشروعا حضاريا كاملا، تمثل قضية حرية كاملة بكل النواحي الإنسانية لذلك فإن شكل الإيصال يجب أن لا يكون فقط شكلا وحيدا لذلك إذا كان لدي القدرة لأعبر عنها بأكثر من مجال وبأكثر من طريقة فلِمَ لا. من هنا وعلى العكس من ذلك، أعتبر أن السياسي المثقف هو أكثر قوة وأكثر حضورا من السياسي غير المثقف...

تطرح هنا، سؤالا كبيرا حول السياسة بمعناها الكامل. بأي معنى تعتقد أنه لا يمكنك أن تعبر عن كل شيء بالسياسة؟ هل الأدب هروب ما؟

^ لا بل على العكس أعتبر أنه في السياسة، يجب أن تضيف لا أن تكرر، أن تضيف معاني للقضية التي تحملها وأن تكون مقنعا. الكثير من عوامل السياسة عندنا قاصرة نتيجة أنها أصبحت جزءا من التكرار لا الإضافة. من هنا أجد أن الثقافة تعطي قوة معنى وقوة إقناع وإيصال رسالة، أصلا قضيتنا تحتاج إلى مثل هذه الرسالة، أيّ لمعرفتها من قبل الآخر بعيدا عن التصريح والبيان والخطاب. فلذلك أرى أن على السياسي أن يكون مثقفا مثلما أرى أن على المثقف أن يمتلك رأيا سياسيا وغير معزول عن هذه المسألة.

كيف تحدد هذا المفهوم الشامل للسياسي أولا وثانيا تتحدث عن المثقف الذي يجب أن يهتم بالأمور السياسة. نعود هنا إلى نظرية غرامشي.

^ لا شك أن ثمة مسألة لها علاقة بالوعي. لا يتشكل الوعي من المجال السياسي فقط. هذه هي النقطة التي أريد أن أتحدث عنها. أعتبر أن المسألة متعددة، لها «أسلحة» متعددة، بالإمكان استخدامها، إذ نحن أولا وأخيرا نريد أن نطور القاعدة الاجتماعية، المجتمع، نريد أن نجعل المجتمع مالكا لعناصر الوعي. مثلا، إذا «دُمّر» العدو بأسره إلا أن أدواته لا تزال موجودة أحيانا، بوعي أو بدون وعي، هي في اللاوعي، في التخلف نفسه. وعلى فكرة يمكن لذلك أن يستخدم كأسلحة أكثر من الأسلحة المباشرة. والدليل أن جزءا كبيرا من هذا المشروع نفذ في المنطقة العربية نتيجة عناصر التخلف. لا تستطيع أن تتحدث عن النهضة عن التنمية عن التطور بدون هذا المشروع الكلي. إذاً للثقافة هنا توجه سياسي بالمعنى العام. هنا درجة الارتباط. لكن يجب أن لا ننسى أنه هنا يخدم أهدافا محددة. أي لا أقوم بثقافة من أجل الثقافة بل لذلك أهدافه، أي تطور المجتمع، هنا يأتي دور المثقف العضوي.

السياسة والأدب

ولكن هذا الارتباط يمكن له أن يشكل بمعنى من المعاني خطرا ما على الأدب والكتابة، أي ارتباطها بحالة سياسية معينة؟

^ بالتأكيد للأدب لغته وأدواته، هناك خيط غير مرئي. هناك العديد من القصص التي تروى اعتبر أن فيها عمقا سياسيا أكثر من السياسة المتعارف عليها. بالطبع هذه وظيفة الكاتب وقدرته على الإبداع، على اكتشافها وتوظيفها، ليس على اعتبار تحويلها إلى نسخة سياسية ولكن في العمق هي سياسة. هناك الكثير من الرموز التي يمكن أن تستخدم موجودة في واقعنا والتي أعتبرها أسلحة غير مستخدمة في السياسة. مثلا هل يمكن اعتبار الذاكرة سلاحا سهلا؟ أعتبر كل المعركة اليوم هي لمسح الذاكرة وتدميرها ولتشكيل إنسان بدون ماض. الحلم نفسه هو سلاح وإلا ما معنى أن يكون هناك إنسان بدون أحلام؟ عندما أقرأ النقاشات الإسرائيلية في مؤتمر هيرتزيليا الذي ضم مثقفين إسرائيليين من كل المستويات، تحدث أحدهم عن الانتصار في معركة السرد أي اعتبر أن الفلسطينيين ما «زالوا أقوى منا وأكثر إقناعا في معركة السرد» أي يعني هذا أن الرواية الإسرائيلية غير مصدقة لغاية الآن وهذا جزء من الأزمة الوجودية القائمة عندهم من هنا حرصهم على إسقاط الايدولوجيا حتى على شكل الدولة..

لنعد إلى الذاكرة، إلى واجب الذاكرة. في كتابتك إلى أي حدّ تعي هذه المسألة؟ لو أردت أن أصوغ السؤال بشكل آخر، إلى أي حد تحمل رواياتك ذاكرة حقيقية بعيدا عن السؤال الأدبي؟

^ أولا ومع الأسف هناك ذاكرة منقولة، مروية...

لمَ مع الآسف؟

^ لأنني لم أعشها، مثلا لغاية الآن لا يزال بإمكانك أن تكتب ذاكرة من فلسطين كنت أسمعها ولم أعشها لكني أعرف أقانيمها بالكامل إذ استعملت أسماء أمكنة لا يعرفها إلا أهل القرية أنفسهم. من هنا أجد أنها ذاكرة غير متخيلة ولكنها بالنسبة إليّ ذاكرة معيشة ومروية. المسألة الثانية لها علاقة بما عشته، حين أريد أن أكون شخصية هناك علاقة كبيرة بما عشته، بذاكرتي، التي سيدخل في تحديد هذه الشخصية شئت أن أبيت. أما مسألة الحبكة فهي مسألة مختلفة. إن مرورها بالماضي عبر كل التراكمات التي حصلت، عبر التغيرات التي حدثت في الإنسان نفسه، نجدها أصبحت تعيش في السياق التاريخي حيث لا يمكنك أن تعزلها عنه. مثلا أنت ترى أحداثا يعيشها الإنسان الفلسطيني، كما مستويات اللجوء، بيد أنه في الخطاب الثقافي سابقا وحتى في الرواية نجد أن كل الأدوات التي كتبت لم تر الفلسطيني إلا في لحظة محددة هي لحظة «قرع جدار الخزان» كما في رواية غسان كنفاني. يجب على هذه الخيمة أن تختلف، هناك احتياجات فلسطينية إنسانية كثيرة يجب أن تتوفر. لا يكون القتال على جبهة واحدة بل على جبهات متعددة.

يعني هناك جزء من قتالك في الأدب؟ في معركتك الكبرى؟

^ بالضبط أعتبر أنه يمكن للأدب أحيانا أن يستطيع التصويب أيضا بشكل دقيق نحو الحقيقة ونحو نقد الواقع الموجود. يمكن أن ترى فلسطينيتك في أحداث بسيطة جدا، وهي واحدة من المسائل التي تجب الإضاءة عليها والتي يجب توضيحها. قد تكون تافهة بنظر الكثير من الناس. علينا أن نهتم أكثر بقراءة التطور الذي حصل.

كيف تفسر هذا التطور؟

^ برأيي كأنما الفلسطيني يعيد تجديد فلسطينيته نتيجة تجديد عوامل القهر، نتيجة استمرار النكبة. ومسألة التواصل تمكن في كيفية عكس نفسها من جيل إلى جيل.

معك في التواصل لكن ما من خيار آخر إلا تجديد...

^ بالضبط، لذلك أقول إنه يجب أن ننظرها، وفي ذلك عناصر قوة وفي الوقت عينه تحلم أحيانا بأطفال طبيعيين، وهذا من حقي. إنها صرخة أكبر من كل الصرخات. لمَ على هذا الطفل أن يلعب دائما لعبة الحرب و«البواريد»؟

هناك شرط تاريخي فرض علينا ذلك اليوم، أن نعيش في المخيم. ربما حين نخرج منه...

^ بالضبط. بيد أني على نقيض فكرة بقاء المخيم. على الرغم من فكرة التمسك بالمخيم كدلالة وهوية إلا أن المخيم هو بالنسبة إلي الوطن الاغترابي ومع ذلك أقول إنه ليس مكاني الأبدي. إنه محطة، علينا أن نعمل على التخلص منها على قاعدة أن هناك أساس



http://www.assafir.com/Article.aspx?EditionId=1737&articleId=175&ChannelId=40736&Author=%D8%A7%D8%B3%D9%83%D9%86%D8%AF%D8%B1+%D8%AD%D8%A8%D8%B4

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء