العاشق المدجج بالحنين

لك أن تستريح، وتوزّع على السّاهرين تحية المساء الأخضر، كي تغفو قليلاً، تمتشق النشيد الذي عانق الأفق، وتدع لنا وعورة الدرب الذي ننتسب إليه، يوم أودعت فينا الحكاية حرفاً حرفاً، فاكتملت بك أبجدية الوطن، وتبقى الطائر الطريد يفرّ من قيد إلى سجن إلى مخيم إلى مدينة، ترفّ بما ملكت أجنحة الحرية من حنين، تسبغ السيرة بكل ألوان النضال وتنثرها كقوس قزح على مدى الثورة، تبني مدرسة الوعي الوطني والقيم الأخلاقية، تحوّل فيها أوتاد الخيام إلى رايات فلسطينية، لتكون ضميرها الحي، ووجهها الجميل وتاريخها الناصع .


تعانق السماء كي يتوسّدها ثلاثة رفاق وضعوا في عنق الثورة عقدها الماسي ومفرداتها الأجمل، هناك في عمّان يرقد "حكيم الثورة " وفي بيروت على مسافة منك تتفيأ تحت صنوبرها " كلمة الثورة " غسان كنفاني، وحبيبك الخفي " مبشر الثورة " وديع حداد المزروع في بغداد. في عواصم ثلاث، كم حلمنا أن تتحوّل إلى جداول تفجّر نهراً يتدفق إلى بحرنا.

نعذر شوقك العتيق يا أبا ماهر اليماني إلى حلم مستحيل، يثقل غيابكم الاستثنائي في أوطان مؤجّلة، إن طاب لها أن تدثّرنا مؤقتاً فهي لا تغني عن وطن ولا تسكن حتى نشوتنا إلى راحة أبدية .

أيها الفلسطيني المطلق والعروبي حتى العظم، هل من ظلّ غيمة مشتهاة ؟ تطوف الدنيا وتمطر زعتراً على تراب فلسطين. كيف نستعيد أقانيم الحلم من أدراج الغياب؟ نعود بالرّفقة النبيلة التي ضمّخت قواميس المنافي، بوعد الحلم في وطن يشمخ بذاك القسم الذي قطعته على نفسك ونمارسه كطقوس صباحية طفولية في ساحات مدارسنا منذ نعومة شتاتنا : " فلسطين لن ننساك ولن نرضى وطناً سواك ".

وفياً للقسم متمسكاً بكبرياء " اللاء " أمام تهافت وهوان " النعم " ، حتى يستمر الحلم الممتد من الماء إلى الماء ومن البحر حتى النهر، وكي لا تفقد الغاية الوطنية سموّها، استشعرت منذ البداية مآل التسوية، وأدركت بخبرتك وحسّك كيف ستكون النهاية. زاهداً في وجه كل المغريات، وإن كان أكثرها يفسد، فقليلها عندك حرام. قائلاً: إن الثائر الحقيقي من يسير بين قطرات الماء ولا يتبلل.

أعرف أنك آثرت الصمت زمناً، لأن في فمك ماء. فشلت كل المحاولات باستدراجك إلى حديث إذاعي أو تلفزيوني، مكتفياً بالأجزاء الخمسة من سلسلة ذكرياتك " تجربتي مع الأيام " وربما وجدت صمتك أكثر صدقاً من زيف الكلام وموضة تلفيق الأوهام فأعلق " من الصمت ما نطق "، فلم تقوَ على إخفاء غضبك من واقعنا وبعضنا يهدر حصاد القضية، وينثر غلالها في الريح، وتصير الأوطان جوائز ترضية للإتباع، ويصير المشهد الأكثر تراجيديا في شكل حوار البنادق والفضائيات ويستمرئ طغيان السلطة في جسد الثورة هواناً وانقساماً. كنت تهزّ رأسك عابساً وتضرب كفاً بكف، ونحن نقرأ على جبينك علامات الحسرة.

لك أن تسترح وأن تخترق جدار الصمت فينا، ولو للمرة الأخيرة، فاعذر توتر أسئلتنا، بعد ستة عقود من السير الصعب في طريق الجلجلة، كيف ترى شكل الوطن يترقرق بين أهداب عينيك ؟ وأفترض أن كل هواجسك تعلن استنفارها ولن تبخل في أن تقرأ علينا إجابتك المتوخاة من الدرس الأخير وأن تقول :

الوطن يا بنيّ ليس حيث أعيش كفرد، بل حيث نصنع الحياة الإنسانية، الوطن حيث تكون فضيلة الحياة، كم يحتاج الوطن للفضيلة كي يكون، تلك القيمة التي نسكنها بسلام مباح مسيج بالأمل القسري. أنتمي إليه بكل ما أوتيت من إحساس وينتمي هو لي ويقتنع العالم بأني أستحق العيش فيه، بل أستطيع أن أكون جديراً به، مثلما هو جدير بي، وحينما أدرك غايتي أكثر من سرّ الانتماء له والتضحية بكل شيء إلا به.

إنّ الوطن يا بني، ليس بمقدورك العثور عليه، فشرط ذلك أن تكون موجوداً، كيف يبقى وطن إن كان هناك سوء تفاهم مقيت مع الذات ومن حولها، الوطن يدنو منا كلّما اقتربنا من أنفسنا وتصالحنا مع ذواتنا.

لذا، إن لم أنتصر على نفسي، حتماً لن أعثر على الجواب. ويل لوطن يكثر فيه الأبطال الحقيقيين منذ وتقل فيه البطولة ثلاثة الثلاثة الحمراء جمجوم وعطا الزير وحجازي إلى الدم الذي خطّ طريقنا خالد أبو عيشة وسعيد ورفيق ومحمد اليماني إلى وطن ندرت فيه الانتصارات الحقيقية وكثرت الانتصارات الوهمية، ويل لوطن يضيع ويتشظى ويصلب ويتبعثر ومع ذلك تكثر فيه الوطنية. تكون البطولة فقط إن امتلكت الشجاعة وخضت حرباً مع نفسك وانتصرت على نواقصها وهزائمها. الوطنية تكون للشهادة خط العشق الأول فيك حتى يكون الوطن فيك.

إن أردت أن تعرف أين الوطن عليك أن تفهم من أنت ؟ إعرف نفسك تعرف أين فلسطين ولا تخطئ البوصلة، اكتشف سرها فيك، إعرف حدودها في أعماقك، أشعل الحرب في أدران نفسك كي تجدها فاتحة ذراعيها لك، وكلما انتحلت شخصية غيرك، وافتعلت من الأشياء والحارات ومن الثروات والامتيازات والرتب وسائر التفاصيل أوطاناً حتماً سيغادرك الوطن الحقيقي، لأنه يصبح شيطاناً كامناً في التفاصيل، كلما التهمك وطن متخيل وطارئ أدركت اضطرارك إليه أكثر فأكثر.

عمت مساءاً أيها القائد العاشق المدجج بالحنين، وصلت رسالتك المعطرة برحيق من دم وحبر وعرق رجال الراية، من صنو وديع وأبو علي، أبو عمار وجورج حبش، أبو جهاد وغسان وفتحي وأبو أياد وأحمد ياسين وكمال ناصر وشفيق الحوت وأنيس صايغ، وأنت تعتز بشموخ أحمد سعدات، تشهد تلك الإرادة التي تفولذت في إنسان ، فالأمانة أيها الكبير تسلّم لجيل يستعد لدرس جديد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء