صندوق أبو ماهر

لم يعد يليق بي إلا السكوت.


أبيح لنفسي أن أفسّر صمتك، لأن في فمك ماء. لقد فشلت كل المحاولات باستدراجك إلى حديث مسموع أو مرئي أو مقروء، مكتفياً " بالصندوق "، قبل أن تقشع النور تلك الأجزاء الخمسة من سلسلة ذكرياتك " تجربتي مع الأيام " ، ربما وجدت صمتك أكثر صدقاً من زيف الكلام وموضة تلفيق الأوهام فأعلق " من الصمت ما نطق "، كنت تهزّ رأسك عابساً وتضرب كفاً بكف، ونحن نقرأ على جبينك علامات الحسرة.

دقّت ساعة الرحيل، فاخترقت بوقعها الثقيل، جدار الصمت القابع فينا، على موج سفر يوغل في ثنايا الصندوق، يضج بتوتر أسئلة معلقة منذ ستة عقود على عمر يؤرخ لدرب جلجلتنا. كأنما صندوق يجيد الكلام ببلاغة لسان عربي، حبست فيه الأسرار، ولفعتها بالكتمان إلى حد الإصرار، ألم تؤكد أنه ولو بعد صبر، لا بد للصدى أن ينطق.

فاض من الصندوق الكرتوني البارد، حرارة شوق عتيق إلى حلم مستحيل، يثقل غياب صاحبه في وعد مؤجل نطارده بأوطان مؤقتة ضمّخت قواميس المنافي، منذ مسقط أحلامك في " سحماتا " فسرت خلالها ظلال ذاكرة طفولية لنشيد صباحي كتبته أنت ورددته أجيال خلفك في ساحات المدارس منذ نعومة الشتات وقساوته معاً : " فلسطيننا لن ننساك ولن نرضى وطناً سواك ".

عن بلد يرقد في النسيان ، عن فلسطين التي تسجد في الصندوق ذاته، بهيئة حنين مزمن، يتكون في الروح، عبر تفاصيل المشهد التسجيلي الطفولي لبيت قروي في مسقط الأحلام، في قرية سحماتا، للقناطر الحجرية، موقد النار وطاقة يطل منها الضوء نحو أرفف على الجدار الطيني، حيث تعبر الحمامات وهي تمارس لعبتها الصباحية. وفي حدقات العيون تورق " الجنينة " التي تظللها شجرة جوز شامخة إلى جوار بئر الماء في بيت والده المزارع " حسين سليمان " الملقب باليماني. ذكريات المدرسة الابتدائية وطرائفها وأسماء ثلاثية لأساتذته الأوائل. حوادث طفولية صادفته من أول خصومة مع طالب الى أول سرقة تعرض لها من طالب يرفض ذكر اسمه لأحد ـ يوم " لطش" صندوقه الصغير الذي يحوي على خرجية شهرية، إلى أول هدية ينالها من شخص وكانت عبارة عن جاكيت من حامد أبو ستة، وأول ربطة عنق من محمد نجم.

"سأعطيك شيئا ثميناً، وهدية لن تنساها أبدا ". وشوشات همسها أبو ماهر في أذني بحرص شديد وبصوت خافت كأنه يشي لي بسر دفين وهو يوزع نظراته الحذرة في المكان، أشار إلى الصندوق وأكمل : كفى لقد قررت الصمت يكفيني ما قلت وبين طيات الورق يرقد الكلام الذي لم يعد حقاً حصرياً لي وحدي. احمله إلى مكتبك. هذا شأن عام وليس خاصاً بي، أنتم أحق به.

كأنما للصندوق أقدام، تتلمس الخطوة الأولى لبواكير الحس الوطني الذي ترعرع على أعواد المشانق، محمولاً على كتفي والده إلى ساحة سجن عكا المركزي يوم الثلاثاء الحمراء ليكون شاهداً على حبل المشنقة الملتف على أعناق جمجوم، الزير وحجازي. ومع والد يبيع البقرة ليشتري بندقية. يشب على تظاهرة مدرسية في ذكرى وعد بلفور، متنقلاً بين أكناف مدرسة البيت المقاوم ضد الاستعمار البريطاني، ومدرسة االنقابي الكبير سامي طه، الذي تتلمذ على يديه، ويدين له بكل ما اكتسب من خبرة ودقة وحرص على الوحدة والتنظيم. عندما انتقل من العمل الوظيفي من دائرة الأشغال العامة في حيفا إلى العمل النقابي في جمعية العمال العربية. في الملف الأخضر الفاتح احتفظ بصورة عن بطاقة عضويته في جمعية العمال العربية، ويذكر فيها أن المهمة هي: منظم نقابات. أي مفوض في أعمال التنظيم.

وقائع مريرة سجلت تفاصيل الاقتلاع من تربة الوطن، حينما كتب: " عندما قاربت الشمس على المغيب، راح الضابط يستعرض الموجودين، واختار خمسة أشخاص كنت واحداً منهم ...وأدخلنا نحن الخمسة إلى غرف المدرسة، ثم راح يعطي تعليمات للجنوده، لطرد البقية رجالاً ونساءًا من القرية. بدأ الجنود بطردهم وإطلاق الرصاص بالهواء لترهيبهم، وكان أحدهم يصرخ بالعربية: هيا، إلحقوا القاوقجي..إلحقوا جيش الإنقاذ..إذهبوا إلى لبنان ..إياكم أن تعودوا ..سنقتل كل من يحاول العودة... بعد التعذيب والتحقيق، نقل المعتقلين إلى معسكر عتليت. للعمل في الأشغال الشاقة.

كأنما الخيمة في الصندوق، هنا وضعت الخيمة أوتادها الأخيرة. في الكرتونة البنية اللون القابعة في زاوية المكتبة، قرب أريكة قديمة، وراء غرفة مجاورة لصالون البيت في حجرة مواربة، أرضها مفروشة بسجادة بنية اللون، وفوق الصندوق الكرتوني، راديو " ترانزستور " صغير. يجثم على ركبتيه كأنه في لحظة أداء فريضة الصلاة، كي يضع الراديو جانباً ويفك عقدة ألياف الحبل المجدول حوله. أبهرني وضعية الصندوق العتيق، أطرافه المقيدة، لونه الباهت، وسطحه المغطى بالغبار، وارتفاع مخروطي من الأعلى، يأخذ الصندوق فيه شكل خيمة مقيدة ومنتفخة تستريح في أحشائها.

الفتى المطيع لم يعاند والده إلا مرة واحدة عام 1948 واعتبرها معاندة محمودة حينما صرخ غاضباً في رفض ترك القرية قائلا: لن أتركها ما دمت حيا. كان يريد البقاء في سحماتا، رفض الخروج من القرية. حاول منع الناس من ترك البلد، لم يرد عليه أحد، القلة التي بقيت هناك تم تصفيتهم بدم بارد . جاءت عصابة مسلحة يهودية، وأخذت الشباب لقتلهم، أما هو فقد بقي على قيد الحياة، أسيراً في أقبية التحقيق لدى الاستخبارات الصهيونية. بعد فترة من التعذيب والترحال بين السجون دفعه الجنود عنوة عبر الحدود اللبنانية.

في الملف الأصفر، مخيم الانتظار على وقع كلام الوالدة.... البكاء في المنام فرج .. مشاهد الشقاء، رحلة العذاب، وألم الفراق المر كي يصير المخيم في صندوق. يوم وصل إلى العنبر رقم (12) في ميناء طرابلس. فلسطيني متعلم يبحث عن عمل. فيجد وظيفة محاسب.



في عام 1949 يترك لبنان إلى دمشق ومنها إلى نابلس لإعادة تنظيم جمعية العمال العربية. وكانت له أول كلمة يلقيها في فلسطين بعد النكبة وقال فيها : " الطريق صعب وشاق وطويل ولكن الحكمة تقول : كل من سار على الدرب وصل ". يعود إلى طرابلس لبنان مدرساً مؤقتاً للغة العربية في كلية التربية والتعليم ثم إلى الاونروا ومنخرطاً في دوراتها التعليمية فما زالت في جعبة الصندوق شهادات الاونروا من الدورات التربية الأولى في العام 1951 مدرساً، فمديراً في مدارسها من ثكنة غورو إلى مخيم برج البراجنة، وبعدها مخيم عين الحلوة.

يترك إرثاً زاخراً في ملفات ملونة تشبه حقائب السفر، تنقلت معه بين الزنازين والخيام والمدن والأوطان، ثورة من الصمت البليغ، في ملفات مصفوفة بألوان متشابهة فقدت رونقها وبانت تجاعيد الزمن على ثناياها، وهي أيضاً مكبلة بذات الخيوط الليفية في حزمة من ملفات محشوة بأورارق ووثائق وبيانات وتقارير ومجلات ومحاضر اجتماعات نادرة، وقصاصات من جرائد قديمة لخبر أو حادثة لفتته. كلها مربوطة بإحكام ومحشوة بقوة في قفص.

كأنما الزنزانة في الصندوق، ينحشر فيها عشرات المرات، وفي كل مرة تفصله الإدارة من العمل، بذريعة السؤال: أهي مدرسة أم ثكنة؟ يتابع السير ولا ترهبه حملات قرع الباب في الليالي المظلمة ولا الاقتياد إلى أجهزة المخابرات المدنية والعسكرية، بين اللطم والضرب واللكم والفلقة والشبح في سقف الغرفة كان في قلبه ينبض عشق أسطوري نبراسه الدائم:" في سبيلك يا فلسطين الموت لن يرهبنا ". الأنبياء كانوا معلمين، وهو يعتبر نفسه يحمل رسالة مقدسة في بناء الإنسان وحياكة النسيج الوطني والاجتماعي للمخيم الفلسطيني، إلزام كل غرفة صف في كل مدرسة، بتعليق خارطة فلسطين، وتسمية كل مدرسة بأسماء مدن وقرى فلسطين، وإعطاء حصة أسبوعية عن تاريخ وجغرافيا فلسطين، وبتأدية القسم والعهد الصباحي وإنشاء مكتبة في كل مدرسة للمطالعة، ودروس التقوية للطلاب، وإقامة مجالس أولياء الطلبة ومكافحة الأمية، والحركات الرياضية والكشفية، وتبادل الزيارات لتوثيق العلاقات بين شباب المخيمات والمبيت في بيوتهم، وبناء الصداقات والمراسلات والصلات الوطنية، وإقامة رحلات مدرسية من المخيمات إلى حدود فلسطين. ثم تأسيس النقابات الأولى تحت الخيام، روابط للمعلمين ولجان للطلبة ونقابات للعمال. وتطور التنظيم الدقيق إلى تأسيس طلائع كشفية تمتد في كافة المخيمات، باسم " فوج الثأر" والآخر " أبطال الفداء ".

كانت العقدة مربوطة بقوة هي الأخرى تكبل سواعد الصندوق، أرادها قفلاً سميكًا، حاولت فكها ففشلت، فعمدت إلى حرق الحبل تلهفاً للمستور فيه متشوقًا لما سيريني الصندوق.

لقد خرج الفدائي الأول من الصندوق. صورة خالد أبو عيشة بقيت ترافق أبو ماهر في سفره وهي معلقة الآن في صدر البيت، ورفيقة دربه أم ماهر، تذكر تلك الليالي بكل تفاصيلها، وهي منشغلة في المهمة التي أسداها لها أبو ماهر في ختم صور العمال المنتسبين الجدد لنقابة العمال، تقضي الليل ساهرة في أداء المهمة، فتطلب منه مساعدتها بدل الجلوس ساكنا كأنه ينتظر شيئاً ما تجهله. فيبتسم مازحاً " هذا شغل نسوان نحن لمهام أكبر "، قالت في نفسها: " النساء تعد الطعام وتخيط الثياب، للعجن والخبز لكن أن تقم بطباعة وختم صور شخصية لبطاقات العمال. وتتسائل ما هو شغل الرجال إذن ؟ " لم تدرك معنى كلامه وأنه ينتظر من الإخوة لحظة الانطلاق ليكون الفدائي الأول والشهيد الأول.

في ذكرى وعد بلفور عام 1964 استشهد خالد أبو عيشة، وبعدها التقى للمرة الأولى مع الأخوين جورج حبش ووديع حداد، حاول إقناعهما أن تصدر حركة القوميين العرب بياناً تعلن فيه انطلاق العمل الفدائي.

رسالة حب تصل الصندوق، لم يستلمها خالد لأنه لم يعد، فهو الشهيد الأول. فاستلمها أبو ماهر نيابة عنه، من فتاة أحبها وأقسم لها أن لا يتزوج غيرها. تقول في رسالتها:" لماذا أنت يائس يا خالد، لم أعهدك كذلك، إليك البشرى : بالأمس وقبل وصول رسالتك تحدثت مع والدي حول الموضوع فأبدى موافقته لذلك نحن بانتظارك."

حضرت الفتاة إلى بيروت بعد مدة، قالت وهي تبكي: لقد أرسل لي رسالة تقول:" سأصعد من بيروت إلى الجبل للعمل هناك، قد تلدغني أفعى، قد يقع حجر فيهلكني، وصيتي لك ورجائي، إذا حدث لي شيء وتوفيت أن تتزوجي، هذه أمانتي لك يا حبيبتي ".

افتتح رفيقه عبد الكريم حمد مهرجان ذكرى أربعين الشهيد محمد اليماني عام 1966 في مخيم البداوي مقدماً شقيق الشهيد ورفيقه أحمد اليماني، فطلب من الحضور السماح له بمناجاة شقيقه الشهيد، فخاطبه بكلمات الاعتزاز والفخر قائلاً :

" أخي أبا الهيثم،

علّمتك صغيراً، كيف تمسك اليراع وتستعمل المداد لتخط اسمك على ورقة سرعان ما تتمزقق أو تبلى.

علّمتك كيف تقرأ التاريخ والجفرافيا والقصة أسلوباً محبباً حيناً ومزعجاً أحياناً، علّمتك كيف تعدّ الحساب، حسياً تارةً ومجردة تارة أخرى.. تمرً الأيام، وإذا بك يا أخي من طراز جديد، علّمتنا يا محمد أن خير قرطاس للكتابة التي لا تمحى هي الأرض، وخير يراع هو الرشاش، وأفضل أنواع المداد هو الدم الزكي النقي الطاهر، علّمتنا يا أخي وأكّدت لنا يا معلم : أنّ الجغرافيا لكي تطبع في الأذهان، لا يكفي أن تدرس عن خريطة معلقة على الجدران: ولكنها تدرس على طبيعة أرض الجليل، وتلال الخليل في روابي المالكية ونابلس ورام الله وبتير.

ولم تنسَ يا معلم، يا أبا الهيثم أن تعلّمنا في الحساب، أن جمع فدائي إلى فدائي يساوي فدائيان، بل يساوي عشرة من الصهاينة اليهود العنصريين، الغزاة، الغاصبين ".

متمسكاً بقيم الوحدة، فهو لم يدرك قيمتها مجاناً، هو ابن ابيه المجاهد حسين اليماني المقاتل في صفوف الثوار، ودائماً كان يروي حكاية على مسامعه، يوم رفض تنفيذ أوامر القيادة وأغضب القائد محمد أبو دية في القيام بمهمة القتل لاثنين من الثوار من قرية خرفيش بتهمة الارتداد عن ثورة عام 1936، وتبين له بعد ذلك أنه كان على حق، وكان لغيابهما عذراً وليس ارتداداً عن الثورة. عفيف اللسان لا يخدش سمعة أنسان لمجرد الشبهه و الاتهام بدون أدلة، قائلا:" الكلمة اللي ما بتصيب بتطوش".

ليس عبثاً أن يصير ضميراً للثورة، لأنه معلماً في دروس طهارة السلاح، ونظافة الكف، وقوة الأخلاق في صيانة السياسة، عندما اشتعل الخلاف الداخلي بين الرفض والقبول للبرنامج المرحلي، يوم قام جماعة القبول بالاعتداء على مكتب للجبهة الشعبية، ونحن نتحرّق لرد الكرامة في ممارسة ذات الأسلوب، صرخ في وجوهنا، من أغلى بالنسبة لنا، المكتب أم الشعب الفلسطيني؟ فصار تحريم العنف بين الإخوة بمثابة سياسة عليا، أسست لفكر ومدرسة أخلاقية سياسية.

هذا الصلب في الرفض، المتشبث في الحق، والمتسلح بكبرياء " اللا " أمام تهافت وهوان " النعم " ، متمسكاً بحلم يمتد من الماء إلى الماء ومن البحر حتى النهر، وكي لا تفقد الغاية الوطنية سموّها، فأدرك منذ البداية مآل التسوية، وأول من نبه بخبرته وحسّه كيف ستكون النهاية.

في الصندوق إنسان فلسطيني بكل التفاصيل، جبلت سماته بنقاء ثوري، متحدياً كل المغريات، وإن كان أكثرها يفسد، فقليلها عنده حرام. قائلاً: إن الثائر الحقيقي من يسير بين قطرات الماء ولا يتبلل. يدرك قيمة المال، يوم كتب عام 1967، شعار : ادفع، واجمع ما استطعت، اقنع واقتصد، ولا تنفق كل ما جمعت.

عرفه المخيم الفلسطيني مثالاً للقائد المواظب عملاً وإيثاراً. هو الذي يبدأ نهاره من السادسة صباحاً، يعيش حياة الناس وبينهم، البعض لا يصدق بساطته ويعتقد أنه مهضوم الحق من رفاقه، حتى طبيب العيادة يفشل في تمييزه لدخول العيادة للعلاج وهو يصر على الانتظار حتى يأتيه الدور ـ لانه لا يريد أن يسجل عليه سابقة باعتبار أنه مفضّل وأحسن من المرضى الذي يراد له أن يتجاوزهم. مرة تسلم في منظمة التحرير لجنة وطنية لبناء الملاجئ في المخيمات بعد استهدافها من غارات صهيونية، حاول أحد أفراد اللجنة بناء ملجأ في منزل عائلته في مخيم البداوي، وهذا يتطلب وفق القرار أن يهدم البيت القديم وتشييد بيت جديد فوق الملجأ. عندما علم بذلك أنب هذا الشخص، واعتبر الأمر إساءة لسمعته. وإن أحداً ما لا يمكن أن يقتنع بأن هذا مكان مناسب للبناء، بل هو مجرد " تظبيطه " له لأنه مسؤول. رفض الامر بقوة ، منبها أن لا يقام ملجأ تحت أي بيت من بيوت عائلة اليماني.

زاره قريب مرة سائلاً: أبو ماهر لواسطة من أجل منحة طلابية لولده قائلاً : أريد تعليم الصبي، ممكن استحصل على منحة بواسطتك ؟ فرد أبو ماهر " كم تقبض؟ "، فرد الرجل: نص ليرة يومياً، فابتسم وقال له الحل بسيط : إصرف ربع ليرة وعلّم ابنك عارف بربع ليرة.

في درس الإيثار، غادر الموقع القيادي في الجبهة الشعبية، فكان بحق مسؤولاً فوق كل المناصب، فارتفع إلى مستوى الفضاء الوطني والقومي، بقي معلمًا للقادة ومثالاً للأجيال الجديدة، قال يومها: " اليوم أعيش الغضب الذي يرافق الأمر الواقع، وأنا أشعر أن مهمتي الأولى اليوم في تفجير ينابيع الحياة والآمال التي تعيش في صدور الأمهات والآباء والأطفال. "

أسطورة أبو ماهر لا يليق بها السكوت، ولا أن تسكن الصندوق، بدمعة تحجبها الغصة بعد كارثة تدمير مخيم نهر البارد، تذكرني كيف حوّلت أوتاد الخيام إلى رايات فلسطينية، واللوعة ترفض أن لا تصبح راياتنا أوتاداً لخيام جديدة. هناك في المخيم، مكان حسي يأبى أن يغدر بلقمة خبزنا، وإن كان ظلم ذوي القربى أشد مضاضة، ها نحن نتشرد في زواياه كحقيبة سفر، نحمله صندوقاً تقيم فيه النفس ومعها، نتنقل بين محطاته في ترانزيت تشبه علاقتنا بالمطر نحبه ونهرب منه، صار هو وطناً يغرق في جحود المطر لأنه يقترف ذنباً بأنه وطن يحاذي المطر. كما أنه المخيم هنا ظل محاذياً للوطن وليس فيه. محاذياً للمدن ولا يقيم فيها، وصار هناك مخيم جديد محاذٍ للمخيم القديم ولكن ليس فيه. لا حياد في العشق قط.

لكل مخيم حكاية، تروى من موضع جرحه، يرنو بحلم واحد نحو قرانا الجليلية، الحاضرة مثل حروف نافرة في أمسية الحنين، تستيقظ كلما يغفو الفراق على كل وسادة تحشوها الأمهات من جديد بحكايات جديدة، ينام مع ليل يلامس موسيقى حالمة في تضاريس الضياع.

صندوق أصم لكنه يأبى الكتمان، معظم أوراقها القديمة كان يفرج عنها بأمر من المحكمة كلما برأته من التهمة. لكن حرية الشعوب لا يسعها صندوق، والحلم المتربص بأشكال وطلاسم، لها ألف معنى وتتوزع داخل الصندوق بشكل أوراق أشجار يابسة، فناجين ومعامل قهوة عتيقة، أزهار يابسة رسائل من أشخاص، أوراق " طابو " ألارض، مفتاح البيت العتيق، وكتاب قديم. كلّها في صدورنا ترنو صوب الحق التاريخي، وصوب ضوء ينبعث من شقوق النافذة.

تنشر مع مجلة الدراسات الفلسطينية.................................................................. مروان عبد العال

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر