سعاد، كما إيزيس تنتظر القيامة
مروان عبد العال
يستلّ قلمه الشّامخ الذي يأبى الانحناء، ليمتطي بشهوة الروائي صهوة قوس قزح، متورطاً في خوض غمار معركة السرد، ليخطّ بدقةٍ ومهارة طبيب الوخر بالإبر الصينية، حينما قرّر أن يعبر الروائي والقاص فايز رشيد إلى وخز من نوع آخر، وخز لإيقاظ الذاكرة الفلسطينية ولإعادة كتابة تاريخ يسكنه بقوة ،و إن حاول الإفلات منه، ليعيد كتابته من جديد، يستحضر طقوسه الأسطورية، في حكايةِ وطنٍٍ فشل في العودة إليه فقرّر أن يعيده إلينا. هكذا حينما يضيق المنفى ونختنق بالشتات نصنع من الرواية وطناً يتّسع لحلمٍٍ فسيح لا حدود له.
"عندما تكتب بأصابع دامية ، يعني ان الحرية ليست وجبة سريعه ". هكذا صاح " إيفان الفلسطيني" ليخلق لنفسه تفسيرا لفلسفة التضحية والحياة معا لأن في الكتابة، فعل تغيير، حيث تكمن شهوة الانتقام، من واقعٍٍ مرٍ، تنسج بحبكة حكائية، حفراً عميقاً ومبهراً في بطن التاريخ، توغل في ماض من صبر وإنتظار على طول حاضره ومداه، تنبش في الأصلِِ عن سببه ونتائجه، تعلق صورة المشهد الروائي الشخصي في إطارٍ عام. صدى صوت يخفق على ثيمة التاريخ، في شخصية أنثوية اسمها " سعاد " محور الرواية ومركز التفاعلات والتطورات والتغييرات السياسية والاجتماعية وهي الأم الواقعية المتوجّسة من خطرٍ ما يحدّق بها، في دراما إنسانية مشبعة بالحنين، تلتقط تفاصيل الأحداث وتنطق ببساطة عميقة، وسط عائلةٍ مشحونةٍ بالوشائج القوية وصياغة منطقية في إيقاع سردي، تسلسلي وتصاعدي، نص مشبع بملامح القضية ومراحلها، مراحل تشبه سعاد، مثقلة بالانتظار أيضاً، ليؤكد أنّه شاهدٌ وكاتبٌ، بطلٌ وضحية، حينما يترك بصماته ورؤيته فيها، في نصٍٍ روائيٍٍ يحمل صوته ولا يلغي خصوصيته.
يجلجل فيها صوت المكان الممتد من نقطة التماس بين السفوح الغربية لسلسة جبال نابلس والطرف الشرقي للساحل الفلسطيني، على بعد 14 كلم من شطآن البحر المتوسط في نقطة متوسطة بين التجمعات السكانية على خط العرض 32,2 شمالاً وخط الطول 35,1 شرقاً، هناك " تربض قلقيلية " شامخةً بهامة رجالها ترتفع شموخاً رغم الحصار والاحتلال والجدار العنصري، تختال فيها الطبيعة وتبوح النساء، وينطق الرجال، ويتوهج التاريخ برموزه الغائبه ، حين ترجل التاريخ فيها بخطوات وئيدة في صياغة الهوية الوطنية والذات القومية و راصدا بواكيرِِ الثورة و إرهاصات التمرد . حين تحكي شخصياتها بملامحٍٍ بارزةٍ، وحيوية في التعبير، وفي توليفة لأساليبٍٍ سردية تمثلت في سيرةٍ ذاتيةٍ وغيرية، بمجموعها شكّلت صورة الفلسطيني كحالةٍ تقضّ مضاجعَ من أراد له الهوان، لذلك هي ذاكرة مكان يتململ تحت سلبياتِ إرثٍ ثقيل من الإنكار والاغتيال.
صوت الزمان الممتد فيها، حكاية انتظار صبغ عمرها، فهل ملّت سعاد الانتظار ؟ كيف تملّه وهو اللصيق بها، المولود معها وفيها، يتربّص بعينيها الحائرتين والغائرتين منذ موت أمها وهي طفلة، تسأل أين ذهبت ؟؟
فترد الجدة: " ذهبت إلى السماء ". وعندما تسأل: " متى تعود ؟ "، ترد الجدة " يوم القيامة ". ومتى سيأتي يوم القيامة ؟ " سؤال قهريّ طرحت براءة النعناع، فاحتاج لجواب مراوغ من الجدة : "لا يعلمه إلا الله ".
هل تنتظر القيامة وأيُ قيامة ؟؟ قيامة تسبق الرجوع الى أجمل الأمهات ، تطلّ بلهفةٍ من عينين فلسطينيتين حتى الاحتراق. ويمرّ غزال الوجع في قامتها وهي تصهل شوقاً كخيولِِ التمرّدِ في سجاياها. سعاد ابنة حسين الذي ذهب إلى سفر برلك وانقطعت أخباره. هي التي نالت بزواجها لقب " الست سعاد " تسافر في تعرجات الحياة بين قبر عيسى ابنها وقبر رشيد زوجها، وسجن الأبناء وسفر بلون الاضطرار وآخر بلون المنفى وضياع و رعب وألف احتمال، كما ورد في الرواية " لم يجرؤ شعورها في البداية على ترديد كلمة الموت لشدّة ما شقيت وبكت، قبلت في النهاية هذا الاحتمال، تمنّت لو يطمئنها أحدٌ عن الطريقةِ التي مات بها، وكيف، وأين دُفن؟" هي خلاصة " الرّوح الفلسطينية "، لأنها الأم الفلسطينية تنتظرُ على مفارقِِِِ الصبر نكبتها، تُرهن المساء لكأسها الباردة. تتكيء على أعمدةِ الدخانٍِ الصاعدةِ من رئتيّ الحنين حتى التعبد. هي تجسيد لروحِِ وطنٍٍ يفكك ألغازه في بلدة اسمها " قلقيلية ".
سعاد الأم، كأنّها جزءٌ من كلّ فلسطيني، هوية تختصرنا، تتنفس بأسمائنا الحسنى، وتختنق بالصمت في وجه الخيبات السوداء ، تقتلها الكآبة ، أخالها اليوم ترمق ظلالنا بحزن فهي الأم " اللي بتلم" حسب القول الشعبي. والتي لا تتهاون أو تغفر حتى لأخوة "يوسف" وان كانوا من صلبها حينما يتناحرون على آخر قطرة ماء من جب القضية ، و لن تبرئ الذئب الثمل وهو يلعق دم صديقي "فيتوري اريغوني" الذي غادر كي نبحث عنه في كل ظل على جدران المخيم،، يوم كان يتمنى ان يذوب كالملح في بحر غزة و هو يعانق ما تبقى من رماد لبيوتنا ، يقاسم ناسها المرارة ورغيف القهر ، يوقد ارادة البقاء في كل شمعة اشعلها فوق ركام مخيم نهر البارد . تلتهمنا الحيرة من جوع الاسئلة ، المرسومة بقطرات الدم على قميص المبدع "جوليانو خميس" في مخيم جنين، الذي لم يكن ينتظر وساما رفيعا من أحد بل ان نقذفه بألف زهرة وليس بتسع طلقات في الرأس. بئس القاتل العاق حين صار ذئبا غادرا ، ينهش من رحمك الطيب معنى الاصالة ومن حكمتك معنى الوفاء . هم صغار كالتفاهة يا أماه ، وانت قضية بحجم الأنسانية، فقط لانك أعظم النساء بدون تعقيد وفي أبسط ما تفعلينه، ووجهنا الحقيقي بلا تزييف أو قناع، من يحرس اقدامك وهي تجول في المخيم؟ فلذات كبدك تزحف على رؤوسِِ العواصم و تهيم في شتات الدنيا ولا يقطفها ازدحام الأرصفة، تهيء لهم وسادةَ النومِِ المحشوّةِ بزادِ الحكايات، تحت سقفٍ معدنيٍ مهترئىءٍ علّه يطرد تعب النّهار من تضاريسِ الوطن السليب، هي ماء ينبوعنا البعيد الذي ما زال يترقرق دافئاً يغسل قهرها عند كل معبر ومرفئ وحدود ومطار وحاجز وجدار وأشرطةٍ شائكةٍ وبابٍٍ وقفلٍ ومركز تموين وهيئة إغاثة.
كم تشبهُ تجاعيد وجه سعاد أثلام الغربة المحفورة في جبين "أم سعد" حينما قدّمها لنا غسان كنفاني " جاءت مثلما تنفجّر الأرض بالنبع منذ أول الأبد، مثلما يستل السيف من غمده الصّامت، توقفت هناك، على بعد لحظةٍ واحدةٍ من بريقِ العين الصامدة، عري كلمة لم أرَ كيف يبكي الإنسان مثلما بكت أم سعد، تفجّر البكاء من مسامِِ جلدها كله، أخذت كفاها اليابستان تنشجان بصوتٍ مسموع، كأن شعرها يقطّر دموعاً، شفتاها، عنقها، مزق ثوبها المنهك، جبهتها العالية. وتلك الشامة المعلّقة على ذقنها كالراية.. ولكن ليس عينيها.. أم سعد الواقفة تحت سقف البؤس الواطىء في الصف العالي من المعركة، تدفع، وتظل تدفع أكثر من الجميع."
انتظارها جزء مني. تمتد فيه نكبتي، كي أكتشفها يوماً في قاموسِ الفراق، على وعدِ لقاءٍ ما. " الدموع لا تنضب من عيون الأمهات " هكذا وصفها مكسيم غوركي في رواية " الأم ".
"كم هي أليمة حياة الطيبين، وكم سهلٌ موتهم. صحيح أنها كانت أميّة ولم تفهم بالضبط، ما يفعله ابنها. وماذا كان يدور في الاجتماعات التي يعقدها في بيتها مع مجموعةٍ من الشبان، إحساسها وقلبها كأم أخبرها بأن ابنها يكرّس نفسه لقضيةٍ كبيرةٍ قد يضحي بحياته لأجلها. أحزنها ذلك كثيراً، وأشعرها بالخوف الدائم ".
لقد ملّت سعاد الاحتلال وهي ترى الشمس تذوب عطشاً، والهزيمة عالقة كندبةٍ على جبينها، فتغسلها بالتحدي." عادت سعاد من عمان بعد لقائها الأخير بابنها كامل، وهي امرأة أخرى، على الجسر أرادوا تفتيش حذائها من الداخل، أخذوه وانتظرت طويلاً لم يحضروه، سألت الجندي الإسرائيلي : " استني شوية "، أجابها، ملّت الانتظار، فتحت حقيبتها تناولت " حفايتها " لبستها وعادت إلى قلقيلية ".
ماذا تنتظرينَ يا سعاد ؟؟ هل وصلتك أخبارنا ؟ ما أحدثه سكين النكبة في أضلاعنا وقد تمزّق الأبناء، على موائدِ الدولِِ الرحيمةِ واللئيمةِ وتحوّل أبناء التراب وحفيف الأوراق إلى قطعٍٍ من لحمٍٍ ودمٍٍ وحلم. ننشد حضنك هروباً من ريحٍٍ باردة. تعصف بإحساسنا على مدار النّكبة. تزفّك على وهج الغياب نحو حضور يقيّدنا إلى الأبد. هنا وهناك حيث أنتِ، وشال الرّيح يحفّ بخاصرة وطن يهتف في أذني : لا تملّ الطريق !
هل هو وعدُك القدسي يا "إيزيس" ؟ التي ما ملّت التعب كي تجمع أجزاء عاشقِها، تطوفُ البلاد بطولها وعرضها وتفيض الأنهار بدمعها. ماذا تنتظرين يا أماه ؟؟ يا ابنةَ عهدِ الحكاياتِ القديمة، وترنيمةِ كنعانية تمارس السحجة في ضوء الشهب وتفتح صدرها لبيادر القمح وتصنع من زفة الأعراس، وطن يتعثّر في الأنفاق ويعلق على مقصلةِ الانتظار، خلف المعابر ويحتجز على الطرقات، تنثر حبّها أرغفةً تنهش أنياب البؤس المتجوّل في المخيمات، ما زال شالها الفلسطينيّ درعاً للذكرى التي تأبى النسيان.
من الغبن سيدتي أن تدورالأرض وهي تتوسد زندك ولا تقف عند حرجك. وتستعيد شجرة "الزيتون" هيبتها وتزغردُ وريقات الحنون، تبوح بسرّها في قطعةٍ سقطت من فردوس السّماء كي تستقر في ترابك. وحتى تلك اللحظة ستبقى مخيماتنا متكئة على كتفك الذاكرة. سعاد التي إدخرت في حدقات عينيها دمعات راكدة، وتنتظر كلّ سحابة ، تهدهد لها أغاني الجفرا وزخةِ مطرٍ تعزف ناي الدلعونا ونسمة صيف تداعب ظريف الطول.
من أجلك القيامة، كي يستريحَ الانتظار قليلاً. "اعتقدوها ماتت، لم تمت. الأم مثل الوطن لا يموت، وما زالت سعاد تنتظر."
هكذا ختم الراوي، فايز رشيد في إضافة أدبية لا يمكن إنكارها،عود على بدء ، على قيد الوعد، إلى سعاد. يطلق بشارة القيامة وانتظارها الجماعي. وهو بذلك يكتب بأنامل الياسمين، الخط الناري للحرية، كأنه يعاهدها ، إن سقطت من جسده قطعةً ستولد لها ألف زهرةٍ تفوح بأريج البرتقال، فكان بحق يذرف بالسيرة كأنها تتساقطُ منه وجعاً وشوقاً وسرّاً وحلماً وعرقاً ودماً يتصبّب من بئر الفقدان. حرارة أنفاس سعاد تمسّ القارئ كتيار من عشق يدخل الأوردة يبحث عن مجراه، من وطن كان الى وطن كائن، وسيكون. وحينما تحملنا إلى سندس يصلي في أكناف قدميها، تختصر المسافة بين وطن مفترض الى وطن متوقع ، هي فلسطين التي تزفّ وصايا العطر لذريتها، وهي من سلالة ربعٍٍ لا يكلّ من نشوةِ العناقِِلشظايا المطر. لكل فردوس طقوسه الخالدة و لقلقيلية طقوسها السرية والمعلنة، القريبة والبعيدة ولكنها الصغيرة والجميلة، حنين وطن وأجراس حرية . قلقيلية هناك ترتعش أيضا وأيضا تحت أقدام الأمهات.
قراءة أدبية قدمت في الأمسية الثقافية التي عقدت يوم الخميس 21-5-2011 م في قصر الاونيسكو بيروت بدعوة من منظمة الشبيبة الفلسطينية، بمناسبة اطلاق رواية الكاتب فايز رشيد " ومازالت سعاد تنتظر" الصادرة عن الدار العربية للعلوم " ناشرون"..
تعليقات
إرسال تعليق