والفلسطينيون ليسوا ارقاما

حوار لمجلة همزة وصل
مروان عبد العال: فلسطين ليست عقارا ... والفلسطينيون ليسوا ارقاما
علي حمود
الروائي والفنان التشكيلي مروان عبد العال، هو قيادي فلسطيني، تولى مع آخرين متابعة قضية الحقوق المدنية للفلسطينيين المقيمين في لبنان. "همزة وصل" التقته لتسأله تفاصيل مسألة الحقوق والأم وصلت مع إقرار مجلس النواب لبعض القوانين الخاصة بها. ولكن الحديث مع مروان تحول الى مكان آخر، التفاصيل ليست مهمة، إنما الأهم هو المعنى. معنى أن تكون متهماً من البعض في وطنيتك، ومعنى أن تكون شعباً زائداً، ومعنى أن تكون مضطهداً من أبناء جلدتك.
ومروان عندما تستمع اليه يجعلك تتمرّد معه، فتعود للمعاني الاولى للنضال الوطني والقومي الذي نسيناه في لبنان، إلى درجة أننا بتنا نتهم المناضلين بأنهم خارج العصر والزمان. أسمى تلك المعاني أن فلسطين ليست عقاراً وأن شعبها لا يوصف بواسطة آلة حاسبة، وان الفلسطينيين يرفضون ان يكونوا ارقاماً، ولو ارتضى العرب حكاماً وشعوب، ونحن في لبنان في المقدمة، أن يكونوا كذلك. فالرقم اشدّ قتلاً من الحرف.
يقول مروان عبد العال:
بيّنت المناقشات حول الحقوق الفلسطينية في لبنان الاختلاف العميق في النظرة الى الانسان الفلسطيني عموماً، ولوجوده على أرض هذا البلد خصوصاً. فنحن من جيل ولد خارج فلسطين وعاش في عالم مفترض ووطن مفترض اسمه المخيم، ونشأت لديه ثقافة خاصة يصعب على الآخر فهمها والتعامل معها، إلا إذا دخل في أعماقها، وهذا ما لم تفعله الأطراف اللبنانية، المعارضة أو المؤيّدة لمنح "الحقوق". هناك استثناء. ثقافة الآخر قائمة على أن الفلسطيني استثناء، فكيف يمكن ان يقبل التعاطي معه بشكل طبيعي. من هنا فهموا فلسطين على أنها قطعة أرض يتخلى عنها الفلسطيني وينساها اذا أعطي بدلاً منها في لبنان. هذه نظرة عقارية للقضية الفلسطينية، نظرة سطحية لقضية هي أعمق من ذلك بكثير. هي السؤال من أنا، هي سؤال الهوية.
وعندما دخل المتناقشون في مسألة الحقوق أخرجت الأرقام كلها دفعة واحدة: عدد الفلسطينيين في لبنان، عدد العمال منهم، الجدوى الاقتصادية من عملهم، أرقام الضمان الصحي والإجتماعي، أرقام التعويضات..الخ . فتحولت القضية الفلسطينية إلى مسألة حسابية على آلة حاسبة.
النظرة العقارية والمحاسبية للقضية الفلسطينية كشفت تركيبات الشخصية الاخرى (اللبنانية) ونظرتها إلى نفسها وإلى الآخرين.
إحساسي إزاء ذلك هو أن ما جرى أكد واقعاً مؤسفاً، وأكّد شعور الفلسطيني أنه مضطهد. يعرف الفلسطيني ان سبب اضطهاده اسرائيل التي اقتلعته من ارضه، فدفع هو والعرب جميعاً الثمن. ولكن الجيل الفلسطيني الذي عاش في الشتات، تشكلت لديه قناعة، او على الاقل احساس عميق، ان العرب هم سبب الظلم التاريخي الذي يعيشه. وواقع انه انسان خارج القانون، وان ثمة سياسة ضده تؤثر على انتمائه العربي، وكأن هذا الانتماء يعمق بؤسه واضطهاده.
هذا بالتأكيد ليس صحيحاً، ولكن بوجود سياسة وثقافة الكراهية، فإن ثقافة "الغيتو" عند الفلسطيني تقوى، وتنتفي العلاقة الصحيحة بين الشعبين في بلد ما، مثل حالتنا في لبنان. لا شك أن سياسة الكراهية هي من صنع الطبقات الحاكمة، ولكنها تنعكس دائما على القاعدة. من هنا خشيتي ان تتكرس ثقافة الارقام، والربح والخسارة بالمعنى المادي، وليس بمعنى المردود السياسي والحضاري والانساني، في العلاقة مع اللبنانيين. نحن لسنا ارقاماً، والانسان أكبر من أن يكون رقماً. والرقم أشد قتلاً من الحرف.
اعتاد العرب في أمسياتهم أمام التلفزيون قراءة الاخبار العاجلة: مقتل عشرة، او مصرع عشرين، او سقوط ثلاثين... فيتلقون الخبر ذا الرقم الأقل من الضحايا على أنه خبر جيد. وكأننا لا نتحدث عن حيوات الناس، وعن مشاعر وأحاسيس، وأن قيمة الإنسان لا تحصى بالأرقام.
نعم الرقم أشد قتلاً من الحرف.
-كيف قرأت الموقف اللبناني، وهو في الحقيقة مجموعة مواقف، في التعاطي مع المسألة. وهل لمست تفاعلاً او انقطاعاً تاماً مع الشعور الفلسطيني من ناحية، وهل انسجم من ناحية اخرى مع ثقافة التحاصص اللبنانية؟
- مر الموضوع في مراحل عدة. بداية استغرب كيف ان البعض فوجىء بطرح مسألة الحقوق للفلسطينيين. والواقع انه موضوع مزمن لم تتوقف المطالبة الفلسطينية والعربية والدولية وكذلك اللبنانية بمعالجة هذه المسألة. وكنا قد أثرنا مع أطراف لبنانية في مناسبات عدة أن هذه القضية يحب أن تُصبح قضية لبنانية. كذلك فإن الكثير من المؤسسات الدولية المعنية بحقوق الانسان طالبت الحكومة اللبنانية بوضع حد لانتهاكها حقوق الانسان الفلسطيني على أرضها. وبذلت جهود كبيرة في السابق لتغيير هذا الواقع. إذاً الموضوع ليس مفاجئاً لأحد.
بالنسبة للدولة اللبنانية هناك قانون تمييز عنصري ضد الفلسطيني، والاحزاب اللبنانية تقر بذلك. ووراء هذا القانون إرادة سياسية، وتغيير هذا القانون يحتاج إلى قرار سياسي لبناني، أي أنه لا يحتاج إلى حوار لبناني فلسطيني بل إلى حوار لبناني لبناني. هذا ما أردناه منذ البداية، وهذا ما حصل بالفعل في مجلس النواب. وهذه نقطة ايجابية.
أما عن التفاعل اللبناني الفلسطيني، فأنا ألاحظ أن الفلسطيني يدفع دائماً الكلفة في صراعات الآخرين ولكنه لا يقبض الثمن، ولا يحصل على شيء من النتائج. وهكذا في الحرب الأهلية اللبنانية قامت شراكة بين الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وكانت المخيمات الفلسطينية الى جانب بيروت والضاحية ومناطق اخرى، وقوداً لتلك الحرب. لم تكن الأسباب قومية فقط تتعلق بالنضال الوطني ضد إسرائيل، بل كنا أيضاً إلى جانب اللبنانيين في معركتهم لإصلاح النظام السياسي. كنا شركاء في كل شيء. ولكن عندما وضع اتفاق الطائف تمت تسوية كل الأمور اللبنانية، وترك موضوع الفلسطيني من دون علاج، نظراً لغياب رب عمله، منظمة التحرير عن المشهد. كل ما ذكر في الطائف هو رفض التوطين ونزع السلاح، وكأننا تحولنا من شركاء الى متهمين وخارجين عن القانون. وكلنا سمعنا بعد نهاية الحرب موجة التصريحات عن "حروب الآخرين على ارض لبنان" والتي شكلت مزيداً للظلم للفلسطيني بتحميله أعباء الحرب.
لذا أنا أطالب، ومع مفعول رجعي، من كل الذين كانوا شركائنا في الدعوة للإصلاح، إصلاح الوضع اللبناني والفلسطيني، بأن يكون لهم الآن رأي في النقاش الحالي. كنا وقوداً في الحرب الأهلية واستبعدنا من التسوية التي انهتها، لا بل ان هذه التسوية ظلمتنا.
تعلّم الفلسطيني من هذه التجربة ورفض في الأزمة الأخيرة الممتدة منذ العام 2004 وصولاً الى اليوم، التحول الى وقود من جديد، وبقي مع طرف واحد في الصراع مع اسرائيل، ورد كل الدعوات بالانحياز الى هذا الفريق او ذاك في النزاع الداخلي، دعوات ترافقت مع اشكال كثيرة من المغريات والتهديدات. لماذا لا تسجل هذه كنقطة ايجابية في سجل السياسة الفلسطينية الجديدة في لبنان.
يقولون ان المخاوف الأمنية من الفلسطيني سببها البؤس الذي يعيشه، لان المخيم جزيرة بؤس، وتربة خصبة للعنف والارهاب. وهذا غير صحيح، لأن البؤس يولّد الثورة أيضاً، بوجود الوعي، ولكن عندما يدمر الوعي على المستوى العربي ككل، وتأتي البذور من خارج المخيم، ومن خارج البيئة الفلسطينية، يتحول المخيم الى فزاعة للبناني وللفلسطيني على حد سواء. اوليس هذا حال اي منطقة فقيرة ومحرومة، في اي مكان من الوطن العربي.
على هذا الاساس يروجون لمعادلة اما الحقوق واما الارهاب، ويدخلون الفلسطيني في متاهة الصراع اللبناني اللبناني، على قاعدة نعطيكم الحقوق مقابل ان تكونوا معنا. وفي الحالتين نقول ان الفلسطيني ليس سلعة للمقايضة.
بعض آخر قال: ليس لكم حقوق عندنا. وانا اوافق على ذلك، ليس لنا حقوق. والصحيح ان على الدولة في لبنان واجبات. الحق الذي نملكه هو حقنا الوطني بفلسطين التاريخية ولن نفرط به. أما مسألة معيشتنا في لبنان فهي واجب لبناني. هل يريدون منا أن نناضل من أجل حقّنا الوطني ونحن أذلاء في حياتنا، ام ان واجبهم منحنا الاحترام كمناضلين من اجل هذا الحق.
بعض آخر حاول تلقين الفلسطيني درسا في الوطنية. ولم يع ان كل التركيبة الفلسطينية منذ العام 1917 وحتى اليوم، علّمت الناس معنى حب الوطن. وصار الشعب الفلسطيني هو الهوية الوطنية والقومية للعرب كلهم، من ادباء وشعراء ومثقفين ومفكرين. لقد قاتل هذا الشعب عقدة النقص عند العرب ورفعهم الى مستوى عالمي. عندما كان ادوارد سعيد يحاضر في اي مكان في العالم، كانت القاعة تضيق بالحاضرين من كبار المفكرين والمثقفين والاكاديميين، فيقفون على الدرج وفي الاروقة للاستماع اليه.
بدعة أخرى هي الحديث عن الخطر الديموغرافي الفلسطيني. افهم ان يكون الفلسطيني خطرا ديموغرافيا على اسرائيل، ولكن هل هو خطر على لبنان. وعلى اي اساس؟ على اساس انه من مذهب معين او من جنس آخر؟ هنا تتبدى رائحة العنصرية. هناك خصوصية للمجتمع اللبناني في انه مكون من طوائف دينية. اما خصوصيتنا التي تشكلت عبر تاريخنا النضالي فهي اننا كفلسطينيين طائفة واحدة (غير دينية)، هي طائفة فلسطين، ولا يمكن الحاقها الطوائف اللبنانية (الدينية).
وهنا اسأل. ما دام هناك خطر ديموغرافي فلسطيني فلماذا تم تجنيس الاثرياء الفلسطينيين منذ زمن طويل، ولماذا تم تجنيس فلسطينيين مسيحيين؟
نحن لا نوزع قلبنا على القبائل.
سمعنا ايضا كلاما عن اعادة الانتشار، اي توزيع الفلسطينيين المقيمين في لبنان على دول بعيدة، تماما كما حصل مع فلسطينيي العراق. وقصتهم مأساة مؤلمة لم يشهد لها التاريخ مثيلا. ناموا في الصحاري ولم يجدوا حضنا عربيا دافئا، واطلقت المؤسسات الدولية عملية استدراج عروض لاستضافتهم. ذهب بعضهم الى البرازل حيث وزعوا في مختلف انحاء البلد. وعندما ارسلنا مندوبا لتقصي اوضاعهم، منعته السلطات البرازيلية بذريعة انهم دخلوا في "خطة دمج".
هناك مخطط لتسييل شعب بأكمله، انسجاما مع مقولة بشير الجميل "هناك شعب زائد في المنطقة، لدينا اربع دول في منطقتنا وخمس شعوب. الفلسطينيون شعب زائد". يقول محمود درويش: "لسنا شعبا زائداً عن حاجات هذه السوق، اختلفوا على سعر البطاطا واتفقوا على دمنا".
هذه عينات من اللغة التي سمعناها في مقاربة ملف الحقوق المدنية والانسانية للفلسطينيين. لغة مؤذية لنا ولكثير من اللبنانيين. ولا اعتقد ان لبنان بمكوناته الاصيلة يمكن ان قبل بلغة مماثلة من خارج العصر.
-وماذا تغير؟ وما هي آفاق المستقبل؟
-لم يتغير شيء بعد اقرار بعض الحقوق. ما زلنا لاجئين في الخيمة. كبر عامودها ام صغر، تبقى خيمة. كتبت نصاً مهدى الى غسان كنفاني بعنوان "اسم عن اسم بيفرق أيضا". ورفضت صحف عريقة في انتمائها القومي نشره. أقدمه لـ"همزة وصل" كي تنشره.
ما تغير هو ان "الحقوق" صارت موضوعا لبنانيا، وهذه بداية. والذي تغير أيضا أننا اصبحنا ضمن القانون، سواء كان جيدا او غير جيد، ولكن الفلسطيني اصبح للمرة الاولى في لبنان ضمن القانون. في السابق، حتى القوانين التي ظلمتنا لم تذكرنا بالاسم، كنا استثناء. وكانت القوانين عندما تقصدنا تنص على عبارات مثل "الآخرين" ، او "الاجانب الذين لا دولة لهم معترف بها" (في موضوع التملك)، او "المعاملة بالمثل"، وهي في حالتنا من دون دولة تعني اللاتعامل.
الخطوة الاولى اننا صرنا في القانون، فاذا كانت بداية فستكون ايجابية، اما اذا انتهى الامر عند هذا الحد، فهي بالتأكيد سلبية. مثال على ذلك حق العمل، فاذا لم تضف اليه المهن الحرة سيبقى بلا فائدة، لان هناك نسبة كبيرة من الكفاءات الفلسطينية من اطباء ومهندسين وصحافيين وغيرهم، وكل هؤلاء مستثنون. ايعرف الذين استثنوا هذه الفئة كم من عائلة فلسطينية كادحة افنت نفسها ليتعلم ابناؤها ويحصلون على شهادة جامعية؟
مشكلتنا الاساسية هي الاستثناء. اذا طبقت القانون اللبناني من دون استثناءاته التي تطال الفلسطيني تنتهي المشكلة، من دون الدخول في تفاصيل الارقام والاحصاءات والكلفة والانتاجية الخ ... ومن دون الحديث عن توطين وتهجير، يكفي ان يلغى الاستثناء فيصير الفلسطيني عاملا كسائر العمال الاجانب، من دون تسييس للقضية. والفلسطيني لا يريد الجنسية اللبنانية.
من يقول انه لا يستطيع تحمل الوجود الفلسطيني 60 سنة أخرى، فانه يسقط ذهنيا من حساباته حق العودة، وكأنه ييني على حل يستثني العودة الى فلسطين. انا ما زلت ابني على هذا الامل في حين ان الآخر يسقطه. ويعتقد اننا اذا حصلنا على شقة في لبنان سنسقط هذا الامل.
نحن في لبنان الاكثر حرمانا من كل الفلسطينيين في الدول العربية، فهل نتمسك بعودتنا الى فلسطين لاننا محرومون؟ لنأخذ الفلسطينيين داخل فلسطين المحتلة او من يسمونهم عرب 48، وهم افضل حالا من كل فلسطينيي الشتات، ومن فلسطينيي الضفة والقطاع، فهل هذا يعني انهم تخلوا عن وطنيتهم. بالعكس تماما، انهم الاكثر تمسكا بهويتهم الفلسطينية. يقول سميح القاسم ردا على تسمية هؤلاء بعرب 48 بالقول، لسنا عرب 48، ولسنا عرب اسرائيل، نحن عرب العرب.
-والبقية؟
- البقية عند القوى السياسية اللبنانية التي تتولى المسألة. الحزب التقدمي الاشتراكي، حزب الله الذي تبنى مسألة الحقوق في وثيقته السياسية. وهذا التزام نعول عليه.
هناط ثلاثة أمور نترقب ان تؤثر ايجاباً على الموقف اللبناني في مسألة الحقوق، وهي: جلسة خاصة للامم المتحدة في تشرين الثاني المقبل تناقش حقوق الانسان، ودعيت اليها منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، وسيقدم خلالها تقرير عن وضع الانسان الفلسطيني في لبنان. وامام لبنان فرصة للحفاظ على وجهه الحضاري امام الدول قبل ذلك. الامر الثاني هو اتفاق الشراكة مع اوروبا والذي يفرض على لبنان التزامات وإجراءات معينة في مجال حقوق الانسان. وثالثاً، هناك الاتحادات الدولية للنقابات، التي تمنع على اي نقابات وطنية من الانتساب اليها والمشاركة في نشاطاتها اذا لم تعط كوتا معينة للمقيمين على ارض بلدها. والمقصود هنا نقابات المهن الحرة.

Hamzet wassel

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء