أغنية قمرية حزينة


لا توجد مشقة أقسى وأصعب، من العثور على بطل، فكم هي جميلة هذه البداية، عندما يعثر الكاتب " عبد الكريم الحشاش " في مغارة " عجلان " بطل الرواية، على قصة يكملها بعد استشهاده فتصير " أرض القمر ".
سيرة لولبية، تعج بالحكايات وتؤرخ لأحداث وتخرج بإنشاد مرتل، جميل وممتع، لتتحول بمجموعها إلى سمفونية قمرية، تدور في مدار أرضي تعزفها أنامل قاسية على وتر الربابة، وترنو بكلماتها شفاه بدوية، وتختلط فيها أغاني الحادي بحديث القوالة وسحجة الفرحين. كلها بحث فلسفي طربي عن بطل مفقود.
تتنوع الشخصيات، تبرز ثم تتهمش، تعيش تفاصيل مفقودة في عقد الذاكرة الرملية الضائعة. تتطاير في سراب الصحراء والمنفى، وتزيل غشاوة جافة من على وجه رطب. فتنمو جميعها على جذع شخصية " عجلان " وفي مساحة واسعة.
يدور الجميع حول " عجلان "، تعيش الحدث، والموقف من خلاله، تأتي الحكاية وتذهب.. تسير في قافلته الموزعة على أشلاء الوطن الكبير، وتدخل معه أعماق إنسانية مثقلة بالحزن والأسى.
أراد الكاتب أن يبين الشاهد على الهزيمة، فوجد من شخصية " عجلان " مرآة للهزيمة، وهي تقع، وتتوالد، وتتمدد، فهو يولد فيها ومعها على رمل حار يركض بها خلف فراشة، ويسرح خلف السخلات. ويحملها مثل جرس معلق على عنقه ويسافر بها في كل اتجاهات الريح.
يرافقه رنين النكبة ويصدح في أذنيه، في حضرة الديوان، وفي المخيم وفي السفر ومراكز الحدود والبوليس، بأحداث تاريخية موثقة بإمعان، ترافقها أقاصيص متناقلة من أولياء ومرابطين ومجاهدين.
هي رواية تصحح لنا ما انكسر من ذاكرة، بلقطات جميلة من داخل النفس والمكان، فتبدو الدلالات الرمزية مرتبطة بالمكان، ومحفورة في الضمير، لتقول أن الانتماء للمكان والأشياء تأخذ بعداً مأسطراً ومرمزاً بصورة جميلة. مثل المغارة والخص والديوان وبيت الشعر والحظيرة وبيوت الطين والقش والوعرة والمهابة والأحراش والمواكر والزوايا والمخيم ورحلة البلح وموسم العجوة وشجرة القيقب.
هي ترحالية قسرية، لا تعني أنه لا ينتمي إلى مكان، فالعلاقة بالمكان خالدة، وبأدق تفاصيلها الخاصة به وحده " كسر قشرة بيض وصب بداخلها على الدقيق الملقى على الحجر الذي ينبعث منه الدخان.. ". فمن قال أن هذا البدوي ينتمي دائماً إلى اللامكان.
إنه يصحح فعلاً ذاكرة لم تكن ترى الأمور إلا من زواياها الرخوة، فاعتبرت أن مجاميع البدو ليسوا سوى وشاة ومهربين. فليس هو ذاك، الذي إن حمل لفافة تبغ قالوا: " إنه حشيش " ! ولا إن حمل صاجاً أو حجر رحى أو حتى مرآة قالوا : " هي لإرشاد العدو ! " إنه تلخيص مقزم لتحويل الإنسان إلى شيء بلا هوية، أي إلى مجموع يعيش في دائرة الطمس والتهميش والتشيؤ.
إن من ينتمي إلى عالم " عجلان " الحقيقي ويدفع مثله هزيمة كان ثمنها باهظاً جداً، ومن ألم ودم. هو ذاته يلتصق بمنطقة قاسية ونائية، فهو ابن البيئة ذاتها، فكان الأسرع بالتقاط صور النكبة ليؤكد فلسطينيته من خلال تصفح الوجوه في المخيم " .ز وشاهد الوجوه عابسة، كدرة ومكفهرة. ترسم عليها أهوال المأساة وتلقي بظلالها عليها النكبة.. ".
إنك تعثر في الرواية على عالم غائب وأغنية قمرية حزينة، آتية من فج صحراوي عميق. صحيح أن عجلان سقط وهو يجتاز سفح جبل الخريج المطل على وادي عربة، واختفت جثته منذ تلك اللحظة، لكن سرعان ما تعثر عليه لأن اختفاء القمر مستحيل.
تعثر عليه في حكاية الهوية التي تنصع بالانتماء، والروح التي تتمرد على السائد، فتترك المكان لآخر، عدو يعبث بالماء والكلاء معاً. فيردد عجلان وبلسان الأفعى هذه المرة، وهي تلوذ بوكرها هرباً من مطاردها ".. أكل النار ولا ترك العقار ".
وفي النهاية الهداية، إن الهزيمة ليست قدراً، وإن هزمت الجيوش، فإن البطولة الفردية لا تموت، والإرادة والوعي والذاكرة المستعادة ستبقى حية. فالدليل.. هو قمر دليل ملهم.. يهدينا إلى الطريق بصحبة الدب الأكبر والأصغر القطبي.. شرط أن نقتفي أثر عجلان.. لعل وعسى تنبلج في السماء نجمة الصبح الجديد.
عن رواية " أرض القمر " للكاتب عبد الكريم عيد الحشاش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مروان عبد العال
عام 2000

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء