جفرا وجيفارا ورائحة الزعفران


o



يدلف إليها في مساءات محمومه، وحده يملك معها حق اللقاء، بلا اذن مسبق، ترتوي بحضور فتى الضباب . وفي مروره المتكرر على زجاج القرية البعيده، ينساب من طيات الغيم كي يتنشق في طريقها المسكون بالضجر رائحة قديمه تسحبه الى امكنه بعيده ، تفوح بعبق تاريخ ، وطأته نبرات صوتها ، يوم هتفت في وجهه قائلة:
:أنا وردة ذابله ادمنت الصمت.
احس بشهقة فرح تنضح من أساريره، حينما غادرت سكوتها، فأن لحظة انفجارهاالداخلي، قد دقت. انفرجت عيناه ببريق ،هطلت لحرارتها حبيبات الماء، كانما الضباب خلع ملابسه وأطلق أقدامه تلتهم الرصيف الممتد من دكانها المثخن برائحة الزعفران الى البعيد.
البائعة الصغيرة، تنزوي في نفسها وداخل قمقم اسمه دكان السمانه يملكه والدها في سوق شعبي في الحارة الفقيرة من البلده يحتوي على حوائج بيتيه، ومعها تمتلئ الارفف بالمعلبات يمر فتى الضباب اليها طلبا لحاجة، قهوة او علبه فول او سجائر، الملفت في كل الاوقات، تقبع في الدكان ذات البائعه،تلف نفسها بالصمت والخجل القريب من الخوف. لا تكاد تصل سن المراهقة، مكتنزة الجسم ،لواحظ عينين، تشق وجهها الأسمر، كنصل سيف مسنون ، فتحيل نظرتها الى ضوء جميل يختفى خلف سحابه معتمة.

لاتنظر في وجهه أبداً ،اغاظها في المرة الاولى بسؤال خارج علاقة الزبون بالبائعه ، لعله كسر نمط السؤال وقفز من فوق تضاريس الكلمات، التي طوقت لسانها على مدار سنين المراهقة.
:لا أذهب الى المدرسه.
جملة قاطعه، صدت فتى الضباب وورمته الى مدنه الغريبه.
أردفت: لا دخل لك.
لم تتعود قط أن يأتيها سؤال عن غير أستيضاح مألوف يطال ما في دكانها الصغير. لا تستطيع تجاوز خشبة باب الدكان بلا اذن من والدها، الذى القاها صغيرة فيه كمن يزرع قرنفلة في قفص زجاجي، ممنوع اللمس أو القاء غير مواد الشراء على كفة ميزان، يتحرك لسانه للبيع باستمرار ولسانها يعقد على معايير نحاسيه.
الفتى المبلل برطوبة العتمه،خدعته النظرة الأولى لقد أوحت له برداء كاذب لجلستها بين دكان يحتوي رائحة يعشقها من قرفة و كزبرة وزعتر وبهارات هنديه وقرنفل وزعفران ، يقول: أنا لي أغبرة الطرق وهي تسكن مجلس العطارين. لكن بدأ يكتشف في كل خطوة نحوها برغبه فضوليه في رفع الستار عن وجه كائن ، نزيل زنزانة من سقم.
لفته اسمها عندما ناداها احد الزبائن جفرا . صار يحفر في قواميس اللغة عن معناه ، أبتسم لما اكتشف انه يعني الخروف السمين والصغير.
صار الاسم حكاية، استعاد في دفتر الأيام صفحات خبيئة.
وثقت به، وقررت أن تنتفض على نفسها وتفيض ببركان من كلام إن المخلوق الذي يلتقيها ليس نبياً ولا (تشي جيفارا) بل مجرد انسان.
كانت ترتجف وهي تبوح ما بدواخلها.
: كنت طفلة أتمنى الموت، ومازلت..
أكره والدي وكل الرجال، فهل أنت مختلف..؟
عرفت أنك ضحيه، (هكذا أكد لها)، وأريد مساعدتك. قالها الفتى بتودد وصوت خافت.
: مات داخلي الأمل وصارت أحلامي رماد.إني فتاة مهزومه.
نظرت للأفق وكأنها تعانق الضباب. سر الخوف في العينين وترقب من عصا الوالد الأرعن، فالجفرة ذاك الخروف الوليد يبكر في أحلام الموت! أما أن يتوجس موعدالذبح. لعمري أنه لأمر مريع . والدتها تلعب دور هامشي على مسرح حياتها ، انتفضت وقالت أنا بائعه كي لا أباع في سوق الذل. هل فهمت؟
والدي اعتبرني دابة صغيرة كي أحمل كل هذه الأثقال مبكراً. صباحاً يحضر للدكان ويضعني خلف الطاوله، كألة ميكانيكية تعمل كبائعة. له القيلوله والذهاب للمقهى والسهر وانا العمل كل النهار .
كم أتمنى أن أنام بهدوء بلا قلق. أن أستعيد طفولتي الضائعه، التي أزكمتها رائحة الزعفران. كلما مر طفل امامي يعرف كيف يبتسم ويلعب، ويجري بحريه ، بلا حواجز وحصار ورقابة الوالد ولامبالاة الأم وعصا العقاب، ووسادة مبللة بالعذاب. نعم.... أحترق على طفولة لن تعود. تمر صبية أمامي تغنج وتمرح وتتحدث عن ابن الجيران، فالوذ بصمت عميق لم تفكه الا رقة الضباب . . حتى الإحساس بحب بحجم القلب لم يأت و عرس بمساحة الجسد غير مسموح، تمردت فكانت العلقه السخنة بالضرب كل مرة على المؤخره التي فقدت الإحساس بها، من عصا والد قاسي. إن لم استطع منعه ، اتحداه بأن أمنع دمعي من الإنهمار، فيزداد غضباً. صرت لا أعرف جسدي! أعتقد أن المؤخرة للضرب والركل وأن حياتي هي يوميات كل الأطفال والصبايا بمثل عمري.
تحسد قمقمي هذا الذي يغلي بالوحده ويقفل مثل طوطم روحي في زجاجة ملقاة في دكان. تمنيت أن أكون عصفوراً يملك من الدنيا صباح وردي. وفراشة تائهة في غرفة تبحث عن الضوء، انا لا اعرف شريط في جديلة شعر. ولا معنى لي لثيابٍ جديدة، وآخر صرعات العصر و كيف ولماذا تتبرج الفتيات ولما يلبسن حذاء عالي الكعب وكيف يتدللن النساء؟! لا يوجد لي سوى شالي الكالح . صرت أرى القريه كلها بناسها ورجالها ونسائها بهذا اللون. حتى هذا الدكان اتخيله كحبل مشنقة.
أريد أن أعرف من أنا الآن؟ لماذا والدتي لم تقف معي وتدافع عني وترمي جناحيها حنوا على ابنتها؟
أليست هي من أنجبتني من أضلاعها واول من نادتني بإسمي "جفرا". لماذا ترضى بدورأخرق، هل الى هذا الحد تتنكرني و تريد أن تزرع داخلي واجب خوف المرأة من سطوة الرجال؟ سلطة الأب هذه الفحولة الشرقية من يروضّها؟ وديكة الحارة التي تصيح غروراً وأنانية من يذبحها؟
سئمت وتعبت وبكيت وحزنت، أريد الفرارالى مدينةٍ بعيدةٍ، وانهمر على الزجاج كحبة مطر. وأصافح كفاً لا يصفعني، بل يلقي التحية علي، يمسح دموعي المتحجرة على وجناتي الباردة.. هل من أمل في التغيير؟ أنا عالم محتل من يحررني؟
هل ثمة فدائي! عصا سحريه، تشق لي بحر القهر كي أعبر إلى امتلاءٍ روحّي في عمق إنسان يعترف بإنسانيتي؟! تناديني أصابع كفك الضبابية من خلف زجاج أزرق، يغتسل بدموعٍ من فرح، راحة كفٍ يحملُني إلى رذاذ يانعٍ من مطرٍ ربيعي أخضر.
رائحة الزعفران تملآ الحي، فهي إشارة أن الباب الخشبي قد فتح ذراعيه لزبائن جدد، وان جفرا كلعبة طفولية من خشب سنديانٍ عتيق، تستقر على كرسيٍ لاصق .
ذات صباح، استيقظ الفتى على نسائم مشبعة برائحة النار .
ورجالات القرية بين أمواج الدخان يستيغيثون
: جفرا أحرقت الدكان، هكذا قالوا........
وحده فتاها الضبابي، يقتفي أثر غيابها، وهو ينشد لها الأشعار، مروجاً من سنابل، تتمايل مع الريح كريشة النورس البحري صعوداً نحو قمة الجبل
مروان عبد العال

تعليقات

  1. رااااااااائعة.. قصيتدتك أو قصتك .. كم أنت شاااااعر

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء