" سفر أيوب " : نصه الأول في روايته الأولى
ها هو صابر أيوب اليافاوي بطل رواية مروان عبد العال الاولى (سفر ايوب).. يتغرّب شرقاً.. يبحث في تفاصيل الليل عن درب في عالم رمادي بلا لون في قمة التيه الجديد. يغور في مسالكها، حدودها، مياهها، أشواكها، ويصبح داخلها مثل حبة نوى في برتقالة.
فرق كبير بين أن تعيش المأساة وأن تدركها، وهو نفس الفرق بين أن تكون حزيناً وأن تدرك معنى حزنك.
فبين الرؤية القاتمة والإدراك الناصع، يتراوح الوجود بين ظاهر ماثل للعيان ومدرك كلي.
إنّ التراجيديا الواقعية، والتي انعكست فيها تناقضات الواقع العربي وقضاياه الحقيقية المبسطة، امتدت مع مأساة فلسطين استمرارية كثيفة قاتلة لتختصر مرة واحدة أزمة المفاهيم العامة القاطنة في دهاليز الوجدان العربي حتى ذلك الحين، ولتجسم بكل حدة وعفوية وبساطة مأساة الصراع الحقيقي المستتر بين الضمير العربي ككل وبين محترفي السياسة من النفعيين والإقطاعيين.
لقد انحسر القناع وسقط ملوثاً بالوحل دفعة واحدة، هذا القناع الذي لم يكن يشف حتى ذلك الحين إلا عن منارة القيادة، واستطاع الوجدان العربي أن يستيقظ هذه المرة أيضاً.
ولكن الجرح الإلهي الوحيد: الأرض – الأم الحنون التي اغتصبها الصهاينة، فلسطين الشهيدة التي حفرت في ذاكرة الموت والانسحاق والألم دموعاً وحصاراً أبدياً للحب والبعث.
ومع حمى المتناقضات الجديدة، وضياع الهيولى الحية: فلسطين، ولد الإيقاع المأساوي بشكله العضوي والطبيعي، ليرسم الكاتب في رحلة صابر المتفتحة تحديات التاريخ الحديث لأمتنا، وليضع ضمن شبكة علاقات فوضوية مأساوية معقدة، مصير إنساننا العربي، وإمكاناته تجاه الإنسحاق المرعب.
لكن كيف سأبقى بلا قلق ! ؟
هل رأى أحدا نهراً يعود إلى الوراء ؟
فهو دائماً يجمل هم جريانه، يسير في شقوق الأرض، يرتفع نحو علو، إن شاء القدر، لكن سرعان ما ينخفض في تعرجات الطبيعة وينساب في أعماقها.
وبإطلالة الفكر العربي هذه المرة على دروبه السوداء الجديدة، وباتحاده المخلص مع معطيات الجيل، وبحنينه السوداوي للأرض وشكواه الدافئة، توحّد الإطلاق الذهني الأعلى بالواقع العنيف وتشكل الإيقاع الجديد، ليجسّم صيرورة العنف والحرية تجاه أكبر مغامرة فكرية لا معقولة: الموت والنهاية في فلسطين، والبعث والانطلاق من الداخل نحو تجسّد حضاري آخر.
وتوقفت الشكوى الإنسانية في رحلة الإيقاع الجديد على عتبة التهاية، لتتذبذب بين الموت عانسحاق نهائي مريع، وبين الموت كمجال حيوي آخر، وجسر يعبر نحو البعث.
ولكن الموت بقي على كلا المستويين، موسيقى الجرح الإلهي في أعماق الوجدان المحاصر الضائع نحو انبثاق عفوي داخل الكلمة.
ومع إحساس الغربة، هذا الإحساس الذي صار إيقاع العصر، انبثق الحنين الإنساني في خلايا الإنسان المشرّد الجديد، وصارت الغربة، الأخطبوط الميتافيزيقي في عقلية الإنسان العربي الضائع، أخطبوطاً هلامياً حياً يعيش في خلاياه ووجدانه، ويأكل من شوقه للأرض وحبه لبحر غزة ولجنائن الليمون في يافا الجريحة المعذّبة.
ولم يتجه إيقاع الغربة نحو الحنين السلبي المنكمش الإنطوائي، لقد اتجه ضمن شكواه الإنسانية إلى إطلاق عاطفي، إلى تجد وصيرورة إيجابية شاملة، إلى دعوة جديدة للتشكّل والبعث من خلال التمزق والسردابية المميتة.
ومن هنا كان موقف الفروسية حين أدرك كاتبنا السلاح الذي يمتلكه وهو الكلمة، فساهم بها في معركة المصير التي يخوضها المجتمع، وبذلك يكون قد انتسب إلى ثلة المحاربين بالكلمة.
غسان كنفاني – رشاد شاور – محمود درويش – سميح القاسم والكثير من الشعراء والكتاب في عصرنا الحالي.
هذه الكلمة التي تمثل كل القيم التي يحارب المجتمع معركته من أجل تقريرها وتحقيقها، وفي قمتها حرية الإنسان وكرامته.
كمال قمر
الهدف 10 تشرين ثاني 2002
تعليقات
إرسال تعليق