مقاطع بالأبيض والأسود


المقطع الاول:
ليل كله ليل
وعتمة كلها عتمة، تنام على حافة الشارع، شقة ( سيلفانو )؛
نخيط فيها ثوب الاختباء
على الطريق الإيطالي نحو الاشتراكية ( للرفيق بالميرو تولياتي )
بقي الطريق والشارع الطويل والرصيف الهادىء لكنه نحو العدم.
بيت للعتمة، نسيج لخلايا النحل الأبيض.
أبيض وأسود مقطع من مبنى، تحتجب داخله غرف صغيرة وأليفة
منشورة كحبال الغسيل في كومة من مباني..
غرفة مفتوحة على غرف. وصمت ينفتح على صوت فيروز.
وينقطع برنين الهاتف: ( برونتو ) ...
تستيقظ في عيون سلفانو المهمة ( يللا ). ويسير بين الطلقات.
روما 2001
المقطع الثاني:
السلالم تحمل نعلها صعوداً وهبوطاً.
تحت إبطها ملف من ورق وألواح.
هي مكتب متجول، على عتبات السلم،
تطارد الفجر...
تطرق الباب، وقبل ( تشاو )...
تعود، تدور المفاتيح في القفل السري:
( تشاو ) : مارتسيا
تعود في منتصف الليل نحو أرجوحتها.
تسرق نومها من تعب النهار:
على عرش السرير حيث هدوء الريح
تذوي مثل نحلة، تتلألأ كبؤبؤ
في تعب العيون، مارتسيا في العمل.
في المركز، في اللقاء، في الأغنية العربية والضيافة العربية،
ورشفة القهوة العربية: لذلك قررت أن تحيا.

روما
المقطع الثالث:
قديمة
تتكوم داخلي كمدرجات رومانية..
تكتب على القلب طلاسم التاريخ
روما، كان هنا ذو القرنين يحمل وجه نيرون
يشعل الروح كسيجارة، وينفخ دخانها
على تماثيل بلا رؤوس، والسماء تشهد
حرثها في جسدي... إمبراطوريات.. غزوات..
وخطب موسيليني.. تصير وطناً لا يذبل، جرح
يتجدد، يانعاً بالأحمر القاني، في ساحاتها يحاصرك
الرصيف. هنا ماجد أبو شرار.
هنا وائل زعيتر
هناك صورة لشهداء بحضور الملائكة
وشكل الآلهة تنطق في لوحات ( ميكال أنجلو )
أنا أحصر أملاكي، وأحصنتي المجنحة.
كلها محشورة في أعين روما.
يدخلون ويخرجون
كل ينظر إلى اللا شيء
صراخ حديد.
احتكاك أجساد في ( ميتروالأنفاق )
والحقيقة تدب على الأرض.
روما
عواء.... وبكاء.... وهواء
مر البحر عليها والنار باقية في الأحشاء
تشبهنا
لأنها ما زالت...
روما
المقطع الرابع:
نبرة صامتة، ألفة ساخنة، وعالم واسع
يمتد كمحيط ويشبه ( ادواردو ).
كان شاهداً على الزقاق الميت في مخيم شاتيلا.
القائمة المشرئبة خلف المتراس على باب رام الله
ويلقي حجراً على الشيطان القابع خلف الشريط.
وشاهداً على الطوق الموصد حول جسد هافانا
حشرنا بين مقطورتين، على خط نابولي.
وديع كصباح صيفي، كلماته تتدحرج كحصى نهرية.
ينطلق كرحلة فرس في الصحراء، يسافر كالريح بين الجهات.
يمر في واحة القلب ولا يرحل.
محاصر في سور زنزانة بين مقطورتين.
تسده الريح جرعة جرعة، عارياً من الرعشة.
في صقيع الخطوات، في الوليمة والرحلة،
لكن حلمه يشبهه تماماً. لذلك لا يمكن أن يحاصر.
نابولي
المقطع الخامس:
صورة أخرى
أبيض وأسود
صورة مميتة: مخيم معلق على حائط، بيوت مخرومة
بعفن الحروب
الصورة الحية: لي... كان حضور الجرح أكبر،
قالت توسكانا: كنائسها القديمة، الصليب الذهبي
وشرطة آرتسو، ممنوع أن تبتسم، تسرق الضحكة والقبلة
أو تطرب لزقزقة حسون.
الصورة المعلقة، قالت ذلك
الصورة الحية أكدت ذلك
الأب جوليو أشار إلى جبال بعيدة
كان اللوز ذاته والتين ذاته، حتى الصبار ورائحة الحبق
صورة طبق الأصل. قال الأب: إنه عشب الخلود ودمع النادبات
ما أقربها إلى فلسطين
فلورنسا
المقطع السادس:
فينوس الإغريقي
طاف عائماً في فينيسيا
كان معه قيس بن الملوّح
يسرق العسل عارياً من الدفء.
مدينة مائية تلتمع مثل الندى الصباحي
مرمرها، يعلمنا عشرة الحمام
أنجيلا.. طفلة كالزبد كرائحة الغمام
كالرذاذ ينبىء بالوعد المعتمر في الصدر
وينفجر كينبوع.
شبعت شوارعها، امتلأت شرايينها بالماء...
وأنا أخاف من الجفاف.
طافت البحار وأنا أخاف من الجفاف
حورية من خرافة، شبح لا يمس، مشهد لا يتلون.
هي رجفة أولى نحو الفردوس
فينيسيا
المقطع السابع:
أسلاك حديدية
صفحة بيضاء، انطباع الوجه على زجاج القافلة.
أكتب عليها الحكاية من ذاكرة سوداء، سفر آلامنا،
وجلجلة صبرنا وصلبنا.
نؤرخ لرحلة القمر، لأسرار النبوة.
صفحة الوجه تلتمع كالبرق، بكر كورق البردى،
ترتشفه كنبيذ أبيض،
تثمل للإنصات والسؤال والإنفعال.
تنسج عليه ظلال من الفرح الهارب تواً من المخيم.
نحو البؤبؤ، ذاك الزمرد في ساحة العينين،
ينقر الكلمات كحمامة بيضاء.
الطريق إلى ميلانو
المقطع الثامن:
يستيقظ الصباح عابساً،
تدخل الغرفة، تدخل سم الإبرة
تتسلل بين الأزرار
نتعلق كلينا على خيط رفيع لا ينقطع.
ننثني ولا ننكسر، تماماً كحكاية لا تنتهي
برحلة لا تصل، وفجر لا يأتي
هي كالمسافة بين رملنا الأصفر وغبار المدينة الرمادية..
كيف أصل الخيط الرفيع ؟ بين طرفي المشهد !
بين الفرس الهائمة في المنفى وحمام ميلانو المقيم
بين عجاج الصحراء وقطرات الدم وشموخ الزيتون
إلى أعمدة هيكل ومدخل مصنع وغبار وسموم
أبيض... أسود
أنجيلا.. لنجعل المشهد مزيجاً للنقاء
حتى لو صار رمادياً
ميلانو
المقطع التاسع:
صومعة مقفلة
نكسر حصنها برمادنا
تورينو.. على أهبة الاستعداد، ندخلها كفاتحين
تقدم لنا مفاتيحها، مدينة مستحمة
مزنرة بالرطوبة ومحاصرة بالندى
تورينو والكوفية
وشرايين نافرة، تهتاج حتى على ظاهر اليد،
نصلها بين الأصابع، نتمازج كغرباء
ولا نفارقها معاً
تركتها خلفي، حكاية وجرح وهياج
يختبىء مساحة الأرض. على وسادتها تنام هزائمي
وتستيقظ ثورتي.
كيف أبقيها بين أضلعي كي لا ترحل.
تورينو ... كنت وحيداً
تورينو
المقطع العاشر:
الجدار عال، السيل جارف
حجارة خارجة من الأرض
وتعانق السماء، صور، وجوه، باقات
حقل سنابل.
عرفتهم تواً لكن منذ زمن:
اندريو، ريكاردو، فرانشيسكو، ستيفانا
ماسيمو، فرانشسكا، ألبرتو، فاوستو، فالترو،
مورينو، غبريلا، غبريلا، غبريلا، غبريلا،
حتى يأتي وقت للعدل ولا تسقط فيه الضمائر.
سنبقى لؤلؤ الفضاء وثرى الأرض.
حكاية وبداية، وعقارب الحقيقة نحو شمسها
تنتهي الرحلة وتنتهي البلاد، تبدأ أفراح الحصى
وزلزال البدائل.
روما

مروان عبد العال 2001
يوميات إيطالية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء