:"ايفان الفلسطيني" قصة تحويل الانسان الى مجرد رقم


في مقابلة مع مجلة النداء اللبنانية:

"لم اعد قادراً أن أكون نفسي..." عبارة تحمل في طياتها بعداً فلسفياً عميقاً، وتصبح أكثر عمقاً عندما يغوص هذا السؤال في شخصية "ايفان الفلسطيني".
"ايفان الفلسطيني" رواية للسياسي، والأديب الفلسطيني، مروان عبد العال، حاول فيها بإسلوب رمزي الغوص في أعماق الشخصية الفلسطينية ـ المُهجر قسراً من بلاده نتيجة الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين ـ لمعرفة ما يجول من تناقضات في عمق هذه الشخصية المُبعدة عن وطنها، وتعيش في أوطان "وهمية"، كلاجئين في العالم العربي وكـ"مواطنين" في بعض دول العالم.
ماذا بقي من الهوية الفلسطينية، وما هي التغيرات التي طرأت عليها، وما معنى الذاكرة وكيفية "إفراغها" للحفاظ على الهوية الفلسطينية... أسئلة كثيرة تطرحها الرواية فكان لمجلة "النداء" اللبنانية حوار مع عبد العال حول روايته الأخيرة "ايفان الفلسطيني" وهذا نصه:
أجرى الحوار: احمد ديركي
س: "ايفان الفلسطيني" ايفان، السفاح المحب لسفك الدماء، أصبح اسماً مألوفاً ومحبوباً في الغرب، فما علاقته بالفلسطيني؟
ج: أعتقد بأن الرواية تنتمي للشكل السردي الدائري حيث استطاعت جمع الثنائية بين متناقضين من يمثل الشكل العالي للشر أي ما انتهى إليه البطل ومن انتهى. وبالتالي ما أردته هو أن أصّور، فقط، أن الصراع على الاسم شكل من أشكال الصراع على الهوية.
س: رواية مفعمة بالرمزية، من النمل إلى ايفان إلى عرب إلى حواء... لماذا استخدمت هذا الأسلوب الرمزي؟
ج: إن الأسلوب الرمزي هو أسلوب بلاغة وإيجاز، وحتى بنية النص، بشكل عام، لها مدلولات كثيرة وأيضاً لها قواسم مشتركة مع العديد من الناس. فالأطفال يخترعون ألعابهم من الطبيعة خاصة عندما يكونون لاجئين، وبذلك تكون جزءاً من الشخصية، ونحن نخترع الرموز، والرموز تكثر عندما يفتقد الوطن.
البطل سلبي ليس فدائياً بل ضده وليس مثقلا بهم القضية ولا ينبغي أن يكون كذلك. فهناك تركيبة متضادة في انسان واحد. كل واحد منهم ايفان. أما سؤال لماذا فشل؟ فالإجابة عنه أنها رواية جماعية وليست فردا ، انها كل اجتماعي، عملية سرد داخلي وكأن هناك مونولوجاً، عبارة عن خطاب داخلي خارج النص لكنه يدفع كلفة القضية.
س: ما مدى تأثرك بـ"برتراند رسل" الذي استشهدت به أكثر من مرة في روايتك؟
ج: لقد أحب برتراند رسل كل الكتابات الفلسفية حتى وإن كانت خارج النظام،فعندما أريد صناعة شخصية سلبية عليّ أن أقبل عكس ما أعتقد، وأكتب عن أشياء عديدة متعلقة بالانسان. ولقد أخذ البطل العبارة ليدعي بأنه مهتم بالثقافة وأنه قارئ ولكنه ليس كذلك .
س: تستهل روايتك بسؤال، وتتمحور الرواية في محاولة للإجابة، في النهاية يموت ايفان وهو يقول "سأبقى لاهثاً وراء لحظة تصنع الزمن مضرجاً بدمي المزركش في رقصة الموت..." لماذا فشل ايفان في صنع اللحظة؟
ج: نحن أمام إشكالات الهوية؟ صحيح أن هناك شيئاً ثابتاً ولكن هناك شيئاً متحولاً وعلينا وعي هذا المتحول.
هناك جاليات فلسطينية أجبرت على الاغتراب، وجيل الستينيات محافظ على ذاكرته، وهناك جيل ذهب الى أوروبا وأصبح أورو- فلسطيني. أما الآن فنحن أمام تشكل جيل ثالث من الفلسطينيين والبعض منهم لا يتكلم العربية وأصبحت فلسطين عندهم مجرد صورة موجودة على الجدار، جيل لا ينتمي الى أي مكان، نبقى أمام سؤال قد لا نستطيع الاجابه عنه، وهو جزء من الجدلية حيث لا يمكن أن تعرف النفس بالسؤال عن الأنا.
س: "أن أكون ايفان، جنون أم عبقرية؟
ج: ليس بالضرورة الاجابة على السؤال، حيث يبدو وكأن هناك شعرة بين الجنون والعبقرية. لقد وضعت ايفان بهذه الشخصية المتناقضة وجعلته يسير على حد السيف. هناك فهم متخلف عن قضية التحرر عندما تكون منقطعة الجذور تصبح استيلاباً. وهناك قسم آخر يدعو للعودة الى الخلف الى الفكر الأصولي، الدعوة هذه تتحول الى حركة تخلف وليس حركة تحرر.

س: "أنا وليس أنا" متى تصبح "أنا أنا"؟
ج: يتحقق ذلك عندما يعي الانسان انه يعرف ماهيته وتحديد هويته. الهوية الفلسطينية ترتبط بالشخصية وهذا نقيض لكل محاولة لتجزئة الهوية، ونحن الآن أمام مرحلة تمزيق الهوية. من أنا؟ هذا هو السؤال، بينما في مجتمعات المخترعة "كالاسرائيلي" فلا يوحدهم شيء، يحاولون خلق هويتهم من لا شيء عبر" إستيطان" الذاكرة الفلسطينية بينما أنت الفلسطيني فإن هويتك الأصلية تتعرض للتمزيق.
س: "... لا أعرف لأي فصيلة من النمل أنتمي ـ الأحمر أم الأسود..." هل فقد "عرب البوصلة لهذا الحد؟
ج: أول شيء في الذاكرة هو صراع النمل الاسود والاشقر في الرواية هي أدوات رمزية من الذاكرة الابتدائية كأن عملية نظر الى المرآة عودة للبدايات. والفكرة كلها هي صراع بين الشرق والغرب، "الانقسام" هذا يعود الى المرحلة الأولى من الطفولة لقد كان نتيجة لأنه دائماً أمام عدو يريد ان يلغيه ولكن السؤال هذا يصبح أكبر في مرحلة النضوج.
س: "صخر... الفدائي... صديق عرب..." هل هو من تصفه بـ"كان فدائياً يستحق النصر، حينما تهزم الجيوش الكبيرة في حروب الواقع..."؟
ج: صخر الفدائي هو البطل الذي يريد أن يعانق السماء، ولكنه انكسر، وهو انكسار لواقع ثورة حقيقية انكسرت.
س: ما أسباب فشل الفدائي؟
ج: سبب الفشل اننا لم ننتصر.
س: يقول ايفان "قضيت نصف عمري لاهثاً وراء نعمة الإنعتاق من ذاكرتي... خلعت نفسي فغدوت شكلاً هزلياً... عاد هذا الشخص ليقرع أجراسي النائمة..." هل من الممكن يهرب الإنسان من ذاكرته؟ إن لم يستطع هل ستكون نهايته كناهية ايفان الفلسطيني؟
ج: لم يستطع ايفان الهروب لحظة تذكره للطفولة ، انها لحظة التناقض ولكنها لم تنجح.
س: "كنا محاصرين... حضر إلى القرية اثنان من اليهود مسلحين وبلباس مدني وقالا لنا إذا أردتم بيع الأراضي والمساكن... رد والدك بعنف... اسمعوا، بالنسبة للبيع لا يمكن أن نفرط بشبر واحد من أراضي آبائنا وأجدادنا..." فهل فرط "عرب" بالأرض؟ (خاصة اليوم هناك فلسطين بحدود 67 التي تسعى السلطة الفلسطينية والدول العربية العربية، الممانعة وغير الممانعة، للاعتراف بها)؟
ج: لدى والد عرب قرف من السياسة، ويعتبر ان أحد أسباب الهزيمة هو السياسة الخاطئة. يقوم بمراجعة بالفطرة يستبعد جذوره الأساسية، ويدفع الكلفة بالرغم من انه ليس الفدائي. لقد آلمه كثيراً فقدان صديقه صخر وفقدانه لأمه.
س: يقول "صخر" محذراً صديقه عرب "...المدن تفسد أخلاق الثوار...". اليوم نحن نعيش في عصر المدن فهل فسد الثوار، وأصبح المسؤولون مثل من تصفهم في روايتك بـ"اعتقلت على يد مسؤول من هذا الصنف..."؟
ج: هذه الفئة الفاسدة هي سبب الانهزام، وتنظيم الفساد عابر لأي حزب أو تنظيم. فهناك من دفع دمه في سبيل القضية وهناك من استغل هذا الدم. والذي صدم عرب هو طريقة تعاطي مسؤول الجريدة معه. انه حوار ما بين صخر صاحب المبادئ وعرب اللا مبالي.
س: في ظل ما يجري اليوم في العالم العربي "ما الذي يجب أن يتبدل الجينات أم الديكتاتور؟"
ج: إن الذي يجب ان يتغير هو، بكل تأكيد، الديكتاتور، انها دعوة الى الحرية. أن تكون حراً في أوروبا ولست حراً في وطنك هي إشكالية ومزج بين حرية فردية وحرية جماعية.وربط محكم بين حرية المواطن التي يجب ان لا تنفصل عن حرية الوطن، وبالتالي انها دعوة الى الحرية داخل الأوطان.
س: "سلمنا رقابنا للجزار، وهي بريطانيا... التي انسحبت من فلسطين لتسليمها لليهود..." فما حال فلسطين اليوم؟
ج: الوضع في فلسطين مازال على حاله، والقهر الأكبر ما زال قائماً. لقد ضحك البريطانيون على القادة الفلسطينيين، وأميركا، اليوم، تعاود الكرة ذاتها. انها استراتيجية عربية تقر بأن أميركا حكم نزيه، وهي في الواقع رأس الأفعى. السؤال كم مرة تكررت تلك الخديعة الالعوبة؟
س: "لم أعد قادراً أن أكون نفسي..." فمن أنا "ايفان" أم "عرب"؟ "... من أنا يا حواء؟" ليطرح السؤال مجدداً من "أنا"؟
هذا رهن بمن يعمل، وعلينا أن ندرك أنفسنا وأن لا نتحول الى "ايفانات" ان يتوزع ايفان المستلب الاسم ونعمم الانفصام في عقولنا، ان تبقى لنا أسماؤنا الحسنى وهويتنا الأصيلة ونعي تجددها ولكن ماذا سنفعل؟
س: ما دور الأدب، وتحديداً الرواية، في الإبقاء على فلسطين في الأجيال التي لم تعايشها؟
ج: الأدب، الابداع شكل من أشكال تفريغ الحمولة الزائدة للذاكرة، الكثير من الحكايات تدخل الى خزين الوطن المتخيل بالنسبة لجيلنا ، انها حدود للذاكرة يمكن أن تمحى ذات يوم وواحدة من أشكال الحفاظ عليها هو "تفريغ" الذاكرة المروية والمسموعة الى كتابة، أي الذاكرة المكتوبة والموثقة . إن "افراغ" الذاكرة (كتابتها) استمرار لمفهوم الوطن، وليس فقط ذكريات يبكى عليها بل هي أنا وأنت والتحديات الوجودية التي تحصل بالهوية.
س: "هنا وطني الوهمي الذي يعيش في حالة انتشار..." وتقول أيضا "حتى وإن هدم وطنك يوماً ما، فسيبقى في ذاكرة أبناء من عايشوه وسمعوا عنه أجيالاً بعد أجيال..." فهل سيبقى "وطني وهمي" وهمياً بعد أجيال؟
ج: انه سؤال افتراضي يضعك أمام خيارات ونهاية .....، أمام تحولات الزمن ، فإما أن يكسر أحلامك، أو أن هذا الأضطهاد قد يولد طاقة التمرد والتجدد في فعل ثوري مقاوم . والخطأ ان هذه الشخصية لا يمكن فصلها حيث تمر ما بين العبقرية والجنون، أما الهوية فسؤال دقيق مازال مطروحا.
ما زال الانسان الفلسطيني يعيش لحد الآن في الخيمة، كرمز للجوء وللمؤقت وللوطن الترانزيت، هو المنفى القسري، او حتى وطن وخيمه تحت الاحتلال او بسببه ... انه صراع على مستقبل المنطقة وتطال حياة كل انسان فيها ، فلسطين نقطة انزال مبكرة ومحددة لكن هي أصل الصراع، لتكون المنطقة وشعوبها خارج التاريخ .. قضية فلسطين هي مسألة الحرية في الشرق العربي ومغربه، وعلى امتداد الميادين العربية، فيها تختصر قضية الظلم، وطالما بقي هذا الظلم قائماً فان هذا الزمن سيبقى زمناً رهيباً.
س: تنتهي الرواية بالقول "أنا ايفان الفلسطيني، سأبقى لاهثاً وراء لحظة تصنع الزمن... طالما أن الشمس دليلي فأنا لست رهيباً بل ضحية الزمن الرهيب." حتى في لحظة الموت أبقى "عرب" "ايفان" ضمن هويته، فما معنى هذا؟ متى لا يكون "عرب" و"صخر" "ضحية الزمن الرهيب"؟
ج: "إيفان " كأسم حركي لغربتنا هو آخر طبعة من نسخة اللجوء الفلسطيني ، بتداعياته الاغترابية والاستيلابية المعولمة ، ما دامت هناك محاولة لسحق شخصية الانسان عبر احتلال هويته بعد ان سرقت أرضه. الهزيمة ليست في وقوعها نتيجة "الحرب" بل الهزيمة تكون أن تم أحتلال عقولنا ، وانتصرت ذهنية المهزوم وسيكولوجيته في حنايا الشخصية الوطنية ، هنا تكمن المصيبة و المشكلة الأكبر، حينها نتحول الى مجرد رقم وبيدق في لعبة الامم ، بل نصبح الانسان "الشيء" الذي خسر كينونته وغدا من دون أحلام.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر