هذا المعدن ليس لي!
صنع لي الأمير مدينة من معدن ، ناسها و قبابها وابنيتها ، بيوتها ، شوارعها ، واجهات محالها ، أرصفة معدنية والمارة بوجوه معدنية، حتى المرايا الرقيقة تتحطم في صباح الحلم المعدني . حانات ليلية أختطفت منها السماء ، على مدخل المخيم اعلان عسكري : " هذا الطريق خاص بالذهاب للمقبرة "! وهناك عند كل زاوية حادة "جنرال" معدني وعنكبوت ينسج خيوطه المعدنية. ثمة من يتربص بأقدامها الحافية تنقش الطريق ... ويعد خطواتها وهي تكرج مهاجرة فوق غمام السماء.
كان الحلم من سور معدني، يحيط بطريق الموت ، في منام كالملح ، ونوم من حجر. بعد دهر ينتفخ الأمير المترف جذلاً بالإنجاز العظيم. تنقر الخديعة كل طبول الأعراس وأهازيج دول مفترضةـ وخنجر نحاسي يداعب أوتار قيثارتي الداخلية و يحاصر أبواب الزمن وتحجب عني طيور الغسق، إلّا زغرودة تتنفس في حواشي النفس اتجدد بالاحساس في حنايا المساء ، تتقطع في السأم البارد أقراطها الفضية، تخرج من طفولة ساذجة، من بين زوايا القهر المكعب الاضلاع. تعبرني الطرق الصفرية بجنون الألوان الغجرية، الى معادلة النهائيات الصفرية.. تئن بحنين على وسادة ينخرها الليل، كي تعزف في الشرايين أغنية بلون القمح... يزجر عنقها سكين من المعدن، يمثل بجثتها ، ويعلقها على باب معدني، في سوق الملابس المستخدمة.. ضحية تجري خلف قطار، تستجدى العجلات المعدنية أن تكف عن القهقهة الساخرة.
عن قتل بالمعدن ، في الافتراض تلوكنا المدن و تلفظنا من احشائها الجارحة ، في الاحتمال تهربنا كبضاعة بدوية هاربة من ثأر القبيلة ، تعلن الهروب من الجفرافيا فقد عربدت في رحمها الخطيئة، وقبل الاوان ولد على ثغرها جنين الكلام. في عالم من معدن ، تصير بصقة الطاغية من معدن ، تذوب في نبرة الصوت، عند تخوم الحقيقة وتتوزع جنازات تحتفل بالجسد القرنفلي. رصاص يتبع خطاها ، ينساب وراء انفاسها. نباح من أشداق الموت الفاغرة . تصير المحابر من معدن، تكتب على حجر القلب بقلم مغناطيسي، كل أسرار العشق المعدني. كل العلاقات المعدنية الباقية، تتنافر فيها الاقطاب السالبة... تمتزج بي الاقطاب المختلفة التي لا يمحو سحرها ذاك التشابه.
قبلة من معدن لا يمحوها زمن الماء،جامحة لا يلجمها صمت ، من غيداء تتبرج بالجفاف وتتعطر بالطين، تعبر شواطئ الحلم البعيد قبل أن تغرق مراكبها في ازدحام الوقت. مازالت هناك، تراوغ الضحكة البركانية في قاع الوجع وهي تقرع على جرس معدني . قبلة ترفرف كفراشة حول أقحوانة برية تقارع أحمر الشفاه ، تذوب بين نكهتين: احتراق وشهيق. هي دمعة في كأس اللقاء الأبيض، يخربش فروضه المدرسية بالطبشور الابيض على لوح التاريخ الأسود ، كانت سطرا في دفاتر الريح ، صارت حكاية لا يقتلها معدن وهي تلتهم بأنوثتها خيوط الليل.
يا فتاة الرمل، يا أنت المصنوعة من زنبق، يا وهج الشغف المعلق على مشنقة "الامبراطور" المعدني. هل حدثكم أحد عن سيدة الحنّاء؟ عن إيزيس الاسطورية ،عن أمرأة خبأت لي أنوثتها ووضعت الصحراء في حرجها، طوت السفر الابدي في حقيبة القلب الذي ينبض بالرمل، كي تلملم فيها شظايا الروح ، اوراق الوردة الهائمة على حوافي الطرقات . تفتح الصفحة المعدنية على أول خط من كحلها العربي ، في صدرها يرقد أرشيف الحكايات ألف جرح وملح وحلم . حين ترمي أنوثتها في حرج من الاشواك ، ليسكنها الصدى الحميم في ثوب الفراغ.
عن وجه اللحظة الخاوية تقاوم المعدن، والحلم المرعب باللغة الأم، هي تعويذة للثورات التي جف حليب الحرية في صدرها ، جزعة من شمعة مثقوبة في ليل معدني يسيل منها الظلام. عن ولادة من رحم معدني، عن طفولة شقت وجه الحائط المعدني، ولدت على حاجز معدني، ترضع شتات البيت من زجاجات الضياع ، تلوم الزمن العتيق ان تأخر. فتولد بصمت في شوارع الصخب، تتبعثر كالأحرف العربية فوق جسد البلاد. تقرع طبول القافلة ، في ميادين تشتعل بالوحشة وما انحنت ناقتها خلف معدن السجان. تزرعني ضلعاً أخضراً في واحة عينيها.
هذا المعدن ليس لي ! تباً لحلم ولعقل وحزب ونظم وممالك و ملوك من معدن..تباً لزمن من معدن. دول فضائية ، تستقل لساعة خطاب ولا تجد لها اقدام كي تسير، مثل منام بطعم الملح ، لكابوس يوقظه الماء في مدينة من حنين. الصلب كجدار نازي لن ـيخترقه سوى هذا الوميض، في صباح يعج بكل أسباب الحياة، ووطن يلملم خيوط الشمس، ويضعها في باقة عطر عند النافذة الخلفية، وهي تفتح ذراعيها بشغف لتختلس فتات الحرية من وراء ظهر المخيم.
مروان عبد العال
2011-09-09
تعليقات
إرسال تعليق