صبي يكتب على الهواء
باقة يحملها الصبي في حقيبة من قماش، قلم رصاص ومسطرة وممحاة ودفاتر بعدة إحجام ، ويزحف بها في طابور نحو الصفوف الابتدائية، تكثر فيها الدفاتر الملونة الممهورة بختم "وكالة الانروا "، لكنها لا تروقه لآنها مخصصة للمواد الدراسية ، النسخ والاملاء. وكل ما يأمر به مربي الصف. كلها تصطف مرتبه وموظبة و بطلب منه في حقيبته المدرسية.
الصبي يعشق الكتابة على الهواء، ملامسًا شفتيه برأس إصبعه، ليغمسه في دواة من ريق فمه أو يبحث عن رطوبة في الريح أو بنقطة ماء فوق حائط رطب ، كي يصير قلماً من لحم حي ، يغمسه في محبرة من أحلام طرية. يفرغها على فضاء الغرفة بخربشات لوجوه ومشاعر وكتابة لكلمات تتزاحم في جمل فوضوية ولكنها مفيدة ، وكلما يقوم بمحوها بكفه الصغيرة، يطلب من أمه ان تساعده في مسحها. يحب دائما ًأن تكون الدنيا صفحة بيضاء ، ليعاود الكتابه عليها من جديد. بكلمات شفافة لا يراها أحد غيره ولا يقرأها سواه .
يهوى اللعب بإلقاء الحجارة في مياه النهر، يكتب عليها دوائر غضبه، فتستقر مع الحصى في القاع، أما النهر فيواصل السفر بعيدًا عن ضفافه ، ليدرك أن الماء يبقى حبرأ يكتب به وليس عليه ، أما الهواء فيكنب عليه كما يتنشقه ، بكل ما في رئتيه من حرية و حياة ونَفَس . يتمرد الصبي ، يهرب الى صفحة الهواء الطلق، عندما لا تكون الصفحة الورقية ملكًا حصريًا لحركة بنانه وطيّعة لحريةِ خياله . يخترق قيود صفحتها المسطرة ، حينما ترسم له حدود الكلام ، لا يحب ان يكتب على السطر، ولا حسن السلوك كما يشاء النظام .
فروضه المنزلية يؤديها على طاولة خشبية مستديرة ،صنعت لاستخدامات شتى ، منها "طبلية العجين" صباحا وطاولة الغذاء ظهرا، و طاولة الدرس ليلاً. يراقب في الليل صفحات الهواء في فراغ الغرفة وهي تتنفس دخان أسود من خلف زجاجة سراج نفطي، تتراقص شعلته على الفتيلة المبلله بالكاز، فتتلوث بشحاره مسامات الوجه وتتسخ صفحات كتابه النائمة على انسداد في فوهتي الانف .
لم يجد كتابة أكثر حرية كالتي يخطها فوق الهواء، يحفر لوحته على مقعده الخشبي، كانت لوحة متشعبة في ملاحم اغريقية الوجوه، فنتازية الحركة ، يضيف لها في كل حصة قصة . يتحلق حولها سائر أولاد الصف، وفي الاستراحة يزورها ابناء الصفوف المجاورة. جدارية تشبه "غارينكا" على طاولة الدرس وينظر لها الاستاذ بإعجاب ، قبل أن يلوي شفتيها سائلا: هل انت من رسمها؟ تنقلب الابتسامه السرية المواربة الى عبوس سلطوي، تقتضيه هيبة الوظيفة . لينال الفتى صفعة مفاجئة وصراخ هستيري مفتعل : هل هذا المقعد ملك أبيك؟ كي تعبث به كما تشاء؟
يكتب فوق الطريق ، فتمحوها أقدام المشاه، تحبل الزواريب بالكلمات ، فتجهضها الأحذية. وحتى الجدران تقطب له حاجبيها و تضيق مساحتها فزعًا من فظاعة الشعارات المثيرة ، وقد لبست تمازجًا فريدًا من شتى أنواع الاعلانات وهي وتنحني و تنوء بكثرة صور الشهداء . حتى الجدران لم تعد تتسع لحفلاته صبيانية....
لا يملك فسحة أوسع من الهواء. يكتب عليها ما يشاء و يمحوه متى يشاء، وأحياناً بكلتا يديه ويكرر الكتابة في كل لحظة ، لا هامش يحاصره ولا سطر يضبط قلمه ، على الهواء يرسم الصور التى لا يحبسها اطار، ولا يخنقها حاجز يقرفص كالنقاط بين الجمل ، فواصل تتعرى من كل غلاف زجاجي حاجب . كلماته هناك تتنفس وتحلق وتلعب. الصبي يكتبني لأنه مازال يكتب عبر الهواء وليس عليه ، تلك الكلمات الشفافة التي لا يراها أحد ولكن يقرأها كل الناس .
مروان عبد العال
تعليقات
إرسال تعليق