كوبا ..و الحب المباح!

كلما كان الطريق نحوها طويلاً وصعباً ـ كان الحلم سريعاً و قصيراً ، تحت شمسها الجميلة ، إنتصر الخيال يومًا وصار قصب السكر مزهواً بنكهته الحقيقية ويمارس طقوسه الجميلة وأغانيه الصاخبة مردداً : "أن أسوأ عدو للنفس هي النزعة الإنتصارية" ، الجسد في السفر يهمس بنصر مستحيل وهو مقيد فوق مقعد صغير، رأس يضج في عبور للزمن بلا نهار أو ليل ومع ذلك يقارع النعاس . تدور فيه موسيقى "الجاز" ورائحة شعر مبلل بالماء الساخن، وقمر يجتاح الليل ، ويترك من سواده كحل لعينيك، تحبو على الصفحة البيضاء أنامل تنتشي برقصة غجرية في ليلة زفاف الالوان. تحتسي كوب القهوة ببطىء ريثما تصل الى آخر الحكاية وحتى لا تجف الشفاه . هنا بين أزرقين، كان لي زاوية في أدراج خزائن "أبو سامي" السرية، ينوء من ثقلها على عكازه البني ، تمر سريعا ظلال "رامي" في صورة تختفي بين المارة . ابناء وطن واحد أتو من عدة بلدان الا وطنهم ، نجتمع في قاعة "ترانزيت" قد يحضروا من كل الجهات ويغادروا لكن ليس الى وطنهم ، اتمتم كلمات قصيرة تعزف كوصية في أذني وأنا على الجناح الأيسر من الطائرة .


أناني في عشق متاح كحدة الألوان، مثل ضوء يمارس حرية الانتشارعند زركشة الأشياء والتماهي بفرزها الطبيعي. مررت من عالم رمادي الوجه، ثلجي البصمات، خلف زجاج سميك يختلط الأبيض بالأسود، كفيلم سينمائي حديث بلا ألوان، يموت فيه حتى الصمت . هبطت الطائرة على ارض مشبعة بألوان الفرح وبالحرارة التي تتنفسها الأجساد الملونة وهي تهتز برعشة الطبول،اختلاط يفوح برائحة القهوة، تشاهد فيلم قديم وحميم ولكنه بالالوان الطبيعية ، بدون رتوش وتزيف، رغم الحصار الطويل، مازالت الكرامة ، بشكل كبرياء ممزوج بالبساطة ، يكفي أن كوبا مرفوعة الرأس، مباحة هي الأنانية إن كانت في حب كوبا، يوم قال راهبها " ان الثورة تعني تغيير كل ما يمكن تغييره" .

تلك الثورة التي صنعها الناس ، انتزعت الحرية من بين انياب الوحش ، ولدت من قمقم العبودية وأشرقت الشمس اللاهبة تلبس أفقها الأحمر لتضمد نزيف العبد المشنوق على شجرة "السيبا" المقدسة ، يوم أدرك " خوسيه مارتيه" أن الحرية لا تصنعها الدموع ! في هافانا كانت "مريم " تنطق بكل ما في قلبها من خفقان ، تطبع كلماتها كعزف القبلات ، تقف عند مخارج الحروف التي تسحرها ، تسجل انفعالها وتنفسها الحار كرغيف خبز عربي مع " افا داروفيش" في بيت العرب في هافانا ، وتجري مع كلمات "أوسكار مارتينيز " ،وتنساب كخرير نهر عميق مع حديث " خوسيه رامون بالاغير" وأن ارادت المداعبة في الساعات الحرة فتردد سؤال محمود درويش : لماذا تركت الحصان وحيدا؟ فيصهل الصباح كابتسامة تكرج على شفاه "ايفالينا"...

لأنها الحرية الجذرية تقبع بين فكي خط الامبراطورية و خط "مثلث برمودا" . حزمة رجال احتشدوا عند خط "المونكادا" فحولوا الهزيمة إلى نصر ، اعتقدوا ان سياسية لا قيمة لها ان لم تكن بالغة الذكاء، والثورة ليست سوى عملية بطولية في عصر غير بطولي. لقد أسر المحامي الشاب "فيديل" بعد الهجوم على المونكادا وأخضع للمحاكمة حيث انتقد باتيستا في مرافعة بارعة أتى من خلالها على ذكر سان توماس أكوينياس ولوثر وميلوت ورجالات الثورتين الفرنسية والأمريكية. تحولت هذه المرافعة فيما بعد إلى وثيقة سرية للثوار حملت عنوان: سيبرئني التاريخ".”

خط الحرية على صورتك ، كم انقذت نفسك من قتل الصورة ،لانها المقدمة لقتل الشخص. انتبه من الجريدة !! من الاعلام ..تستطيع ان تقتل فيها سياسي كما تقتل فيها الذبابة! يوم همست أنفاسك ، لا تدنو أكثر فقد أوصيتك بي حين كنت أنت نفسي! حددت فيها ملامحي، لا تغالي بها حتى ابقى جديرة بها وبك، بالصورة الجميلة التي تعلقت بها وعلقتها على نافذتي،" تشي" لن أشتاق للصورة فهي داخلي، مثلما كنت مع 22 رجلاً أعادوا تنظيم أنفسهم في" السيرا مايسترا" وأنت تردد قولك الشهير : " انني أحس على وجهي بألم كل صفعة توجه الى مظلوم في هذه الدنيا فأينما وجد الظلم فذاك وطني" ها هو وطني في كمشة الزعتر وربطة الميرمية، يريدها " تميم " كلقاء حالم اللحظة الغائبة في صورة الخيال ، أحضرت المخيم لك معي يجتاز الحواجز مزنرا بأخبار الحارة و حكايا قبل النوم تستريح معي ساعات مملة في المطارات وتمضي فوق رعب المحيطات ، وساحات الأحزان.كم نكره الغياب ونرتجف كلما اغلقنا حقيبة السفر، كل شيء يرتعش بين أصابعنا في باطن الكف يسقط الكأس حتى لا ترتشفه الشفاه وحيدة ، صرت أمسك أنا بطرف الصباح وأنت بطرف المساء، كنا نلوح بالايام مثل لعبة نط الحبلة، حتى يقفز العالم من فوقها مثل طفل يشبهنا لقد دلتني رسوم الأطفال إليك، ورائحة البحر لشواطئك، صرت أنت الطرف الثالث لمعنى الحرية الوحيد، بك تمتلك الثورة قلبها وروحها وخيط الزمن .

عدت لان ثمة أذن يزداد فيها الطنين ،استغيب فيها "برمودا" وانت على المقلب الأخر، خرافة تصير تعادل مركز الكون، ومكان لتوزيع المحيطات والقارات وخلفه امبرطورية تسرق الحرية وتختطف الربيع من فصول السنة، وترسم خرائط الاوطان وتفرز الشعوب حسب مواصفات الظلم يكون اللون والمعنى والطقس. كيف لعدو أن يجعل لكل ولد بلد؟ يجلس فيها مهما كانت مساحته.

عذراً ايتها الحرية ، لأن "باسل" المنهمك بالمواعيد ،لا يملك الحق باذن مرور بين دولتين عربيتين، والمخيم ينتظر أذن المرور. بلاد تعبرها ألوان الشمس بلا وثائق رسمية ومازال الانسان ينتظر ريثما تأكله الوثائق، لكن ليس لبحر الحرية "جمعية عامة " ولا مؤسسة خيرية منبثقة عنها ! كل شيء قابل ليكون طائرة أو مركب أو حقيبة أو علبة أو "كرتونة" الا الأوطان، فالبلاد لا يمكن أن توزع على العباد ! صرخ السفر مودعاً : إن جعت فلا تؤكل وطنك ، فثمة من أكل حريته أيضا! لك وطن جميل يا "وجدي". كن أنانيا بحبه وجديرا بأن تنتزعه من مثلث الموت و حتى في موسم موت الاوطان.

مروان عبد العال

هافانا 18 اذار 2012

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر