كائنات 4



الكائن(الرابع)

سيدي غانم :

أصير أحلم أنه أنا ، بطل لم يفارقني كملحمة شعبية مروية ، الكائن المتذمّر ولكنه ليس مرتداً ، يدهشني كطفل يستعير خيال الراوي وهو يخبرني بحنين وشجن عن " سيدي غانم " ، الفتى الأكحل ، ممشوق القوام، يتحدث عنه كأنه مارد جبار ، رجل غير عادي ، الذي يجلب الحق من بين أنياب الوحش ، والقرش من تحت الصخر، كل شيء في القرية إستثناء فوق العادة ، كنت أحلم أنه أنا ، ذاك المليء الجسد ، يعنتر شاربيه ، هكذا كان جدي يصف " سيدي غانم " ، يدخله في مخيلتي كإحتفاء مدهش ببطل إسبارطيٌ بهيئة " جالوت " الجبار.

يكون أنا حين كانت الحساسين تهوى الوقوف على كتفيه ، ويكون أنا حين كانت الصبايا يختلسن النظر إليه من بين سنابل البيادر الذهبية. أنا هو الكائن الذي يربك المدينة في شهوة القوة وألق الجمال وعنفوان الرجولة،أحلمه كروحٍ للمكان عاشقاً أو ثائراً أو شهيداً.

شياطين القبر يحلو لها السطو على الذكريات ، كانت في دائرة الملائكة ، الملائكة لن تبقى ملائكة إن إستقالت عن عرشها السماوي ، تصير بشراً ، إن دبّت على البسيطة ، يتكون فيها نزوع دنيوي إستثنائي ، تمشي وهي تنثر بذورها الإنسانية في تربتنا ، نلَملِمها كوطن متخيل ، رغم الفجيعة ظل سحر البطل ، يزداد تألقاً، يكبر حتى لو ضاقت علينا الأمكنة ، شخصية تبنى من ذاتها تعويضاً عن فُقدان الأرض ، في رحلة التيه تجد نفسك فيه وأنت تهيم في جهات الدنيا ، الرواية التي يصير لها أبطال يتناسلون ، ويولد منهم أبطال جدد وأبناء وأحفاد ، قسم منهم ينجبه الخيال الخصب وتصنعه سرديات الناس ، عجزت عن مجاراته حتى في معلّقات الجاهلية وسيرة بني هلال ، يقال " كان له صوت جميل شجي يرتل القرآن ويطلق الأشعار فتأتي موزونة ومسجّعة ، يمشي أمام مواكب الأعراس في ليلة الحناء ، يضرب السيف بالترس ويراقص الخيل ويلف عنقه بالثعبان ، يتلوى معه وبه على وقع الأنغام وصوت الزغاريد ، ينفخ جدي متأففاً مترحماً على سيدي غانم ، إنه رجل لا يتكرر ثم يسأل من يكون له شبيهاً أو رديفاٍ ؟ ليس كل قمر مصيره أن يسقط في البئر ، أو يبتلعه الحوت ، ثمّة أبطال لم تبتلعهم الحقيقة ، لأن نصفهم خيال ، من أبناء الحياة وأبناء السماء معا ، أشبه بالملائكة ، قد لا نراهم قط ولكن نحبهم ونقلّدهم ونعيشهم ونحلمهم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر