مع ذلك إنها تدور!


ذات وطن إقتيد إلى السجن ، وعلى ذات الطريق التي توصل إلى الزنزانة ، مرت قامة أخرى ، جذعها يسابق السنديان وجذرها ينافس الزيتون ، يرنو إلى السماء وهو يتمتم مثل غاليلو " مع ذلك انها تدور " . لأنه يجسد الحدس السياسي بمعانيه وحركة الوجدان الشعبي بتطلعاته ، يؤمن بأن فلسطين تليق بكل من يراها بعيون كبيرة ، من يحمل قلباً واسعاً يتسع لأفقٍ يصل بين ضفاف الماء ويمتد من البحر إلى النهر ، يمسك بروح تفتح رئتيها بحرية من المحيط إلى الخليج . حين يكتب العزيز محمد كناعنة - أبو أسعد " عناوين في الميزان " لتكون أداة قياس للعدالة إلإنسانية ، ولتحرك في الوقت عينه ، جمرات تختبيء في موقد الأحلام ، دون أن يقصد ، فهي تلهب هنا في المنفى البعيد روح ما برحت تتذكر . يتأرجح لسان الميزان في صراع شامل ، بين من يخترع ماضيه ومن تمسك الذاكرة بأنفاسه ، كينونة البقاء لماض نذكره في ما كان وقيمة صورية لوجود يكتب ما هو كائن ويبشّر بقدوم شبح حالم " قرينة الغائب " يجزم بأنه يجب أن يكون . بين سياسة مارقة تلبس الخرافة ثوب الأسطورة ، وحقيقة ثورية تلبس ثوبها ولا تستعير رواية الآخر ، قوة الفكرة لا تكون بإدعاء رواية مختلقة ، ترى بعدسة الغير وفق درجة نظر مقرة حسب مواصفات دولية ويتم إستنساخها كفكرة مكروهة ورؤية مكرّره . أبا أسعد ، يزيل المساحيق عن وجه الخداع ، ينزع زيف الأقنعة عن الوجوه المستعاره بفكرته الصادقة ، يوم تحيكها بشغف مناضل مثابر على وجع فصول من روايتنا اليومية . نقرأها كسرد سريع يبحث بين طياتها وداخل نصوصها عن ألبوم الأمكنة. تلك التي يعيشها الكاتب ونتنفسها في كل مكان يلفظنا كأجسام مستوردة . يترك لي من بعيد ذاك الشوق الذي يعج بعالم من التأملات ، تتشتت وتحلق و تسبح في خيال فسيح ، حار، جميل ، لا مثيل له . حين تصير السياسة تفاصيل وتعرجات ووقائع يكتبها بتصرف كما هي وليس كما يحتاجها الآخر . بقلم حاد يأبى أن تذبح الحقيقة على مقصلة الطغاة . رائد في ذاك الإشتباك الأخلاقي المحتدم بين الحقيقة والخرافة . معا على الدرب ، إن كنت في منفى أم في مخيم ، في معتقل أم في " غيت و" ، لا فرق يا رفيق ستظل أنت أنت ، إبن اللغة ذاتها التي تحلم بأن تصل إلى وطنها المشتهى ، لا يمل إنتظار الجنة ، يحلم بأنها عبارة عن صندوق مزركش بالألوان يحتوي على وطن لا يشبه باقي الأوطان ، من يمل درب الوطن لا يستحقه ، لا يستأهل جدته التي مضت وهي تقص حكاية النكبة كل ليلة . ومن حرقة الفراق يضيع عندها الفرق بين الجنة والوطن ! تصر أنّ الجنة لن تهبط من السماء ، هي لا تشبه طائرة ورقية ، تحلق وتهبط وفق إرادة ماسك الخيط و عند إنتهاء اللعبة . الجنة هناك ولكن مفتاحها هنا على الأرض . ولاعذر للذين أدركوا الحلم ولم يستيقظوا بعد . تماما مثل صدى الصوت الذي تسلل من الزنزانة النازية يومذاك رددها يوليوس فوتشيك " ليس هناك عذراً للذين أدركوا الفكرة وتخلّو عنها ". صلاة القارىء ، أن يصير الوعي عبادة يطهر اللغة مما علق بها من مفردات زنخة ، ويصير للصباح مهمة ملائكية ، يقوم بتنظيف ظلالنا من قذارة جداراتهم العنصرية والرمادية . لقد كتبت كلمات في نص يفيح برائحة التراب : "خافوا من حلمنا بالحرية فكيف بسعينا للحرية؟ تخافون من السفر فكيف من حال ونحن عائدون؟ تخافون من زعتر بلادنا فكيف ونحن الزيتون والسنديان" نحن ندرك بقوة بأن الحرية هي أن يتضاعف كل شيء فينا ويصير للحلم مكان ، والتأمل كالحلم تماماً ، لا يتوقف عن الدهشة حتى يصير له في البيت صورة حية و طبق الأصل . إفتخر بأنك تخيفهم لهذه الدرجة ، مثلما قفز "حنظلة " ناجي العلي من على جدران المخيم ، ليلحق بحلمه المعلّق على "الشجرة" وكما أبدع رفيق حلمك غسان كنفاني سرديات النبوة ، التي تنجب " جيل الإنقلاب " . ندرك أنّ أبدع الثقافة أفعلها ، كالتي لا تمتلك أي زمن ، ولكنها تؤثر في عصر كامل ، حين يصبح الوعيٍ قوة تسطو على كل الزمن . من بطولة زائدة تخط ألامم بداية الطريق نحو الحرية. من كل إيقاع جريء يعزف نشيد العودة ، في إندفاع نحو زمن جماعي . لنربّي الأمل مثل طفولة فائضة ، لأنها التباشير الأولى لولادة قصيدة مغامرة . ألهذا الحد تكون الكلمة التي يؤمن بها أبو أسعد خطِرة ! وليستحق القيد ؟؟؟ لأنه هوية تعتز بالثبات وحق صلب ما زال قيمة مضافة للوعي والحب والحلم . يا رفيق الدرب " مع ذلك إنها تدور ." * مروان عبد العال لمقدمة كتاب "عناوين في الميزان" بقلم : محمد كناعنه- ابو أسعد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء