من رواية إيفان الفلسطيني


قد تكون هناك أسباب أخرى تجعل الحياة بلهاء ورتيبة ولكنها لا تأتي، هذا المساء، على بالي. حينما تضيع الأمكنة، تتلاشى معها الأزمنة ولا أكلف عناء نفسي في البحث والتنقيب داخلها. الساعة توقفت في يدي فأحسست أن العالم قد توقف. الضيف الأبيض، قد أغلق الطرقات، وتكوم الثلج فوق نافذتي، فحجب الرؤيا عن الخارج تماماً، هاتفتني حواء بأن ألازم البيت، ولا داعي للحضور إلى العمل، لأن المواصلات العامة قد توقفت، انتهزت الفرصة للتعويض عن خسارتي للنوم، وتواعدنا على اللقاء مساءاً في حال تمكنت فرق الأشغال من فتح الطرق. اتقلب في سريري ورأسي الثقيل يتمرغ على الوسادة، استيقظت قبل المساء بقليل وأنا أشتهي النوم، ولكني شعرت بالجوع فأنا لم أتناول شيئاً منذ الليلة الماضية، أحسست بهبوط في جسدي وتمنيت حضور صديقتي حواء، في قلبي حنين غير عادي لاحتضانها، أهرب كطفل إلى أرجوحة صدرها. رنّ الهاتف، فقطع صوتها العابر إليّ هذياني، وأنا لم أعد أتصرف كأني ساكن البيت الوحيد، أتوقع أن ينتشل صمتي ذاك الشخص الغريب. إيفا قادمة هكذا قالت، فأوصيتها أن تحضر ما يمكنها حمله من طعام، كان صوتها مشفقاً، وأعلمتني أنها تبحث عن فسحة دفءٍ تقضيها بجانبي. لم يفرحني قرعها على الباب كما هو اليوم، تنفست الصعداء، أساعدها في الدخول متناولاً أكياس كثيرة قد أحضرتها، ضمتني بقوة، وقبضت على خصرها بيد وعلى ردفها بيد أخرى وقبلتها قبلة هامسة فيها الكثير من الترجي، أحسست بحرارة وجهها وبرودة كفيها معاً، أحدثها وهي تنظر إليّ بعينين تشعان بالشهوة، جهزت المائدة بأطباق صغيرة، تتلاصق أكتافها كأنها في صلاة جماعية، وتهتف بما طاب من ضحكٍ وغنجٍ وأصناف الدلال، تحتشد كيوم الحشر في مستطيل يشبه منبر خطابة وتصطف كوفد شعبي يستقبل حضوري، ألقت علي التحية مرفقة بقولها : " كأنك أمير من حكايات ألف ليلة وليلة ". - أدخلي يا عروس النخيل. ارتسمت علامات الارتياح على وجهها وردت بصوت خافت مرتعش " كلامك يشعرني بقيمة نفسي ". لقد ضاقت مساحة المائدة، والجريدة اليومية غطت وجه الطاولة. الأطباق الشحيحة أقلعت منذ زمن على متن الشهوة، من فراغها المتكدس على أرفف المطبخ الصغير، ملت زجاجها الرطب وهي تسير بين مقاعد مشغولة كل صباح بكل غبطةٍ طفولية، تنسى حزنها ويستدرك القلب ميعاد العشق. الأطباق تتلوى جوعاً على رائحة ونكهة، دخلت حلبة السباق في رقعة مدى السرير الفسيح في زاوية نومٍ من خطوتين، في البدء كان الحلم..في البدء كانت الكلمة، كي تفوز بمتعة المذاق الأول، والطبق الأول من رقعة الروح الخضراء التي سقطت من سندسٍ فردوسيٍ مبلل بعلياء النبوة. تلتهمنا الأطباق بنهم، تمضغنا الجدران في وليمة من فيض العطش وتتمازج الأضواء بسحب السجائر والأنفاس والعبير المكتنز فوق ستار سميك، ينسدل على مسرح الحمام الزاجل. لقد تفوقت ببريق الانزلاق على الشهية بفارق كبير من درجة الغليان والاستواء والانتشاء. قررت أن تهبط ساخنة تتراقص بأصدافها وتمد ملاعقها على غطاء ورقي من الأخبار الطازجة. أنا حبيس شخص اسمه عرب، وعالمه الذي يطاردني، وأن إيفان الذي يستسلم بين أضلاعها، ينحشر فيجسدها كأنه في زنزانة، صارت حياته مطلوبة بمذكرة جلب للشبح الذي يتسلل بين أنفاسه. كي تكون وليمة أندلسية في العشاء هزيمته الأخيرة. الأطباق لا تطيق فراق النبيذ الأحمر، إن لم تعانقها دقات اللهفة على حافات المائدة والتمايل الراقص في أرجوحة الحضن على رطوبة الشفاه. ههنا هي إيفا، ولكنها حواء الهاربة من قحط صحراء بلادها من كبت رملي ساخن، لأن عقارب الزمن عادت إلى الوراء وتدثرت في ثوب القبيلة، ستعقد موعداً مع كأس النبيذ وتحالفاً مع فنجان القهوة الممزوج بمسحوق الشوكولاتة. طبق يغلي من شدة الأسى، لأن التفاح الذي جلبته معها، لم ينسَ نصفه الآخر، معتذراً بتواضع فقد سرقت نصفه لغة العطر وذاب النصف الآخر في الكحل خجلاً من تراقص الرمش، ونمضي بالطيف المتسلل فينا نحو ميناء بارد، هنا في دورتموند تواعدنا مع قدوم المساء أن نكرج معاً بعد انتهاء النهار وراء نشرات الأخبار وقضايا الفن باستحياء نتعانق على درجات المبنى. في نافذة الليل نطل كي نسأل عن لحظة الإياب، ونستلهم فيه طعم الفريز ونشوة المانجا الإستوائية والرجاء اللاهب لمرساة الكلام، من غرق السفن الشراعية في حياكة خيوط اليراع على نول البحر وركوب طقوس العشق. الطبق شاهدٌ بأم العين على ساعة احترق فيها الوقت عند الحروف الأولى في أبجدية الروح يناشد الأصداف الحزينة المدفونة في عمق اليم بأن تفجر ينبوعها الذهبي. وطبق آخر قرر أن ينكسر غضباً، لم يعد يهوَ الامتلاء مجدداً وحيداً يصارع فاكهة من نار على مائدة الرماد، فقد أحرقه موقد الشوق حين أشعر اني لو افتقدتها فهي تملؤني، غيابها أيضاً تأكيد لحضور الشهوة. من أنا يا حواء؟ ساعديني في العثور على نفسي، ما من أحد غيرك يستطيع .ما رواه عرب، لم يكن إلا وجهاً آخر لنفسي. منذ سنوات ونحن معاً بعد أن انفصلت عن عائلتي: جولي الشقراء، وابني الذي كبر بعيداً عني. تعرفين كل تفاصيل ضياعي. لماذا أنا هنا ؟ بل من أنا يا حواء ؟ ألا تنصحينني بطبيب نفسي أو عصبي، لا تعطيني دروساً عن النسيان، ثمة ماضٍ قاسٍ يطاردني، وأشعر أنكِ جزء من الحل وكأن سر هذياني بين يديك. ابتسمت حواء عندما ناديتها بهذا الاسم، وهي التي تعودت في ساعات العمل أن أناديها باللقب الذي أعطيتها إياه. فسألتني بغنج ورضى : " وهل مللت من مناداتي بإيفا يا إيفان؟ " لحظة قررت " حواء " أن تضعني في صرتها مثلما تفعل مع حبة التفاح، فتحت حرجها مثل باب الفردوس وألقته بوسع المدى، فإذا صوتها يتحشرج في الأعماق وتهيم في هذيان مخيف على شرفة الغسق، تنتظر بوحها الثمل بأنين مكبوت على عتبة الكؤوس الحمراء. تتوالى أحذية المدن في ملاحقة خطواتها ساحبة أذيال طيفي خلفها والحياة تنسحب من جوارحها فتغدو مثل نحلة حجرية تعرفت عليها يوماً في متحف العلاقات القديمة، لم تقوَ على أن تصدق نفسها فصارت غير نفسها وتكذب فقط لتعزي نفسها، تتحايل عليها بالخداع، في هذه اللحظة أنا أشبهها تماماً. تتذكر إيفا سنوات الحياة في كنف عائلة تعيش في بادية على أطراف العاصمة. لا تستطيع أن تفسر مرارة الأيام التي طاردتها، تنفصل عن العائلة بجريمة العمل في الصحافة، تنام خارج البيت، فيطردها الشقيق الأكبر، يوم ذهبت والدتها عند البصارة " أم عزوز "، وقرأت لها الكف، وأخبرتها أن لديها بنت جميلة، وإن لم تغادر إلى المدينة ستكون حياتها في خطر، ومن كلام البصارة " أم عزوز " بدأت أمها تشجعها على الفرار بحثاً عن حياة أفضل وعالم يحترم إنسانيتها. تبقى في بلدها ولا تتمكن من ملاقاة أهلها، ثم تتصاعد حملات القمع، وينهال عليها التحديد من قوى الظلام كما تسميها ، فتترك البلد إلى هنا، ولا تريد أن تكون ضحية جديدة. لقد نجت إيفا بجلدها كي تحيا بلا خطيئة، وهي أحياناً تشعر أنها بلا جسد يحمل روحها المتكسرة. لم تقتل اسم أبيها ولم تشطب بجرة قلم اسمها الصحراوي وحتى لم تطلق رصاصة الرحمة على سيدة النخيل في قلبها، لحظة قررت بأن تشدّ الرحال إلى السراب الغربي، فتلغي نفسها وليس اسمها. صرت أطوف في شقتها، أتلمس بلدها في مقتنيات منزلها، في صور مجاهدين على الجدران بالأبيض والأسود، وأخرى ملونة لأطفال ونساء بأزياء شعبية، ولقطات مميزة من غروب الشمس في أفق الصحراء وسعف نخيل في سلة مصنوعة بشكل يدوي من قش، وطبق يتوسط طاولة سفرة مزين بعناقيد تمر جاف. رأيت شيئا من بلادها فيها، أخذني منزلها في سفر إلى مكانها ووطنها. ما لم أعثر عليه أنا حتى في خيالي. لأني لم أعش أصلاً في وطني. أدركت لحظتها الفارق بين غربة مواطن وغربة لاجئ. لم أحمل ألبوم صور لأيام طفولتي، ولا ذكريات أسجلها في دفاتري، ولا مقتنيات أحملها من الماضي. حتى الصور التي عشعشت في عقلي، صارت تبهت وتتلاشى. في شقتي الماضي يتبعني بهيئة أوهام روحية عنيدة، وفي شقتها تتصالح معه بأثواب وثمار وصور حيطان. تصافحها روحها يومياً. نطق البيت عنها أكثر مما باحت به شفتاها، بالمعنى والمبنى، فصرت أناجي وجودي في الأشياء. في ذكرياتها الحية وذكرياتي الميتة، أتلعثم مثل آياتي التي انقلبت بين الصور. وغدوت مثل صقيع يلبس جدران الكتمان، بدون إنذار مسبق تسقط أسناني كحروف بيضاء تلوك الأوراق ولا تروي منضدة الكتابة. حينها يصير إيفان هو نفسه ويشبه نفسه. يا ليتني غادرت اسمي وظللت أنا، بلا نفس وبلا لون ولا طعم ولا حلم ولا شكل، وما كانت الخطيئة قد أطلت في مرآتي. حواء ما كسرت مرآتها مرة ولا دخلت عتمة الثقوب السوداء مثلي. ما سقطت في مستنقع الهذيان اليومي. وضعت خلاصي على سكة البداية، أن نسكن معاً كأصدقاء، وأنا لم أكن أتحمل السكن مع أحد، لكني انتصرت على أنانيتي، ولا أعرف سر استجابتها السريعة، هل كانت تنتظر قراري؟ أم أنها الشفقة على حالي؟

تعليقات

  1. معاناة وألم في فلسفة يعرب العاشق
    الذي يبحث عن ملامح غربته في طبق
    كانت المائده تشهد على خطيئة احتسائه
    بكل أنانية الوحده والمعناة ...

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء