حين أخبرته بقرب الذكرى "30" لانطلاقة جبهة المقاومة اللبنانية، نهض الرفيق الأشقر "المجهول" من مكانه محدقا بعينيه الزرقاوتين الثاقبتي النظر، وملامح ابتسامة سرية ترتسم على شفتيه، ثم صار يتمتم أغنية من تاريخ الثورة الكبرى بصوت فيه شيء من كبرياء رصين وحزن قديم:
"طلت البارودة والسبع ما طل/ يا بوز البارودة من الندى منبل".
لقد فاض بالكلام يشرح كيف قررنا كجبهة شعبية القتال تحت لواء "جمول" "كجندي مجهول" كما قال "الحكيم". أي أن نكون جزءاً غير معلنا يقاتل تحت رايتها. هذا موقف لا يصنف إلا تعبير عن نزاهة أخلاقية وضمير وطني. لقد أطعمنا التجربة من أكتافنا، ثم ينظر إلى كفيه، كانت تتصلب من البرد في مغاور الجنوب والبقاع الغربي. يهز رأسه: تجربة لا تقرأ بالجملة، هناك القليل من أعطى لهذا القرار الصحيح حقه، لقد كان أبعد من كونه قراراً صائباً ومناسباً. كان تأسيساً جديداً لوعي مقاوم نحن لسنا قوة طارئة فيها على مدى تجربة قضيتنا الوطنية.
قامت الدنيا ولم تقعد لدى أجهزة الاستخبارات المعادية، يوم تداول أهل القرية خبر مشاهدتهم الفتى "الغريب" صاحب الشعر الأشقر والوجه الأحمر الأزرق العيون، منهم من قال أنه خبير أجنبي، لقد دوهمت كل محلات الحدادة التي اشتبه أنه كان يدخلها، حيث اعتقل أصحابها فيما بعد للتحقيق معهم حول هذا الرجل المجهول، من يكون وماذا يفعل وما حقيقة هويته؟ قال: لقد كان المجهول هو الفدائي المتواضع الذي هو أنا.
لكن التاريخ لا يختصر بسيرة فردية لأنه حقيقة كنا وقتتها نكتب سيرة جماعية، من حزمة رجال يحملون مفاهيم ومؤلفة من بطولة وشجاعة وكرامة وطنية، ثلة مسلحة بوعي ورؤية وحلم. أن يعاد تصويب قاعدة الصراع، بوجه الحقيقي، بل ببعده الوطني، الذي يحفظ الهوية الوطنية بعيداً عن المصادرة. لتكن مقاومة لطلائع كفاحية لبنانية بدعم فلسطيني وسوري في مواجهة محتل صهيوني بحلفاء دوليين ومحليين. "جمول" لم تكن حروب الآخرين على أرض لبنان. كانت معركة الحرية ضد الفاشية والاحتلال.
تلك هي القيمة السياسية لقرار إسهام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بتأسيس وإطلاق المقاومة اللبنانية ــ الفلسطينية المشتركة التي خاضت أشرس المعارك وأوسعها ضد العدو الصهيوني والقوى الانعزالية والأطلسية. فالجبهة الشعبية كانت أساسية بين القوى الفلسطينية واللبنانية الديمقراطية الأربع التي تميزت في بلورة وصياغة أشكال المواجهة والنضال فيما كان المحتلون الإسرائيليون يطوقون بيروت ويسددون لها أقسى الضربات وأبشعها تمهيداً لاجتياحها. وبالفعل فقد تمخّضت المشاورات عن قرار تشكيل جبهة المقاومة الوطنية في صدر إعلان قيامها في 16/9/1982 مع تنفيذ أولى عملياتها ضد المحتلين الإسرائيليين في محلة الصنايع ببيروت الغربية. وتوالت العمليات العسكرية لرجال المقاومة الوطنية رغم صعوبة الظروف وانفلات القوى الصهيونية والإنعزالية من عقالها حيث ارتكبت مذابح صبرا وشاتيلا، وقامت باجتياح بيروت الغربية، غير أن قسوة الظروف الموضوعية شكّلت دافعاً قوياً لنهوض المقاومة الوطنية بالمهمة التاريخية الملقاة على عاتقها.
قيل أن قوة الفكرة توازي أحياناً قوة جيش بكامله، لذلك كان القتال كواجب لا ينفصل عن كونه فعل سياسي ناتج عن فكره هي تمثل الأفق السياسي الذي حكم فهمنا للصراع أولاً، ولمشروعيته الأخلاقية وثم لهدف العدوان ثانياً. حين شنت القوات الإسرائيلية البرية والجوية والبحرية هجوماً واسعاً ومكثفاً على مواقع الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية الممتدة بين رأس الناقورة ومدينة بيروت، وقامت بعملية اجتياح واسعة للأراضي اللبنانية كانت المقاومة الوطنية الظاهرة التي لا بد منها. الهدف الاستراتيجي المعلن لتلك العملية هو: فرض هزيمة الثورة الفلسطينية وتصفية الحركة الوطنية اللبنانية تصفية نهائية.
لإتمام المهمة كلفت أكثر من 60% من سلاح الجو و80% من سلاح البحرية و55 % من سلاح المدفعية والدبابات. لقد صمدت القوات المشتركة الفلسطينية ــ اللبنانية صموداً بطولياً بوجه ذلك العدوان مما دعا مجلس الأمن الدولي للاجتماع سبع مرات خلال أكثر من ثمانين يوماً من الحصار والمعارك الدامية، وقد سيطرت مجريات الأحداث وتطوراتها والمقترحات المتداولة لوقفها على جميع اللقاءات والاجتماعات المعقودة ثنائياً وثلاثياً ورباعياً وعلى ومستوى الأمم المتحدة والمجموعات الإقليمية والدولية من أجل تكييف مشروع الثورة وتحويله إلى مشروع تسوية فكان الرد التاريخي هو تجسد في مشروع واحد ولكن بجناحي الانتفاضة والمقاومة معاً.
أراد العدو تعميم إيديولوجية الهزيمة، لإنتاج الوعي الزائف حول "قوة جيشه الذي لا يقهر" بل إعادة صياغة الوعي الجماعي على قاعدة قبول اتفاق الإذعان والاستسلام. بعد خروج قوات الثورة الفلسطينية من بيروت. كانت "جمول" حجر الأساس في كل انتصار تحقق لأنه إنطلاقة لوعي حقيقي وانتصار لفكر المقاومة، وما اتساع حجم نشاطاتها وانخراط جميع القوى الوطنية في كفاحها واستمرارها ولو بأشكال أخرى ومتعددة، إلا أنه من الإنصاف والوفاء القول بموضوعية تامة بأن المساندة السياسية والعسكرية السورية قد لعبت دوراً هاماً في تمكين المقاومة الوطنية اللبنانية من تحقيق سلسلة الانتصارات الكبيرة والتاريخية التي حققتها بما في ذلك إسقاط اتفاق (17) أيار، أي المقاومة التي حولت الهزيمة عام 1982 إلى انتصار ظل يتواصل ويتدرج من الجلاء عن بيروت والجبل إلى الانسحاب من الإقليم إلى البقاع الغربي إلى تحرير الألفين إلى الانتصار عام 2006 م.
لذلك تتحدث كرفاق ولكن من داخل هذه المشروعية الكفاحية والسياسية والأخلاقية التي مثلتها "جمول" وليس من خارجها. تنهد الرفيق الأشقر الممشوق القوام رغم أنه اكتشف مؤخراً أن عمره وصل إلى الستين سنه، يتحدث كمن يجري جردة حساب بعد كفاح مرير مازال يقبض فيه على جمرته بقوة، لقد قاتلنا خلف خطوط العدو ومواجهته على" القشرة " أيضا، بأمرة "جمول"، تدريباً وتجهيزاً وتسليحاً، كان هناك أبطال حقيقيون لفعل مجهول ولكنه معلن، ويعدد تلك الأفعال، عمليات وكمائن، ألغام، صواريخ وتفجير سيارات في دوريات الاحتلال، كل من يعرف سر هذه المواقع سيعرف هؤلاء الرفاق جيداً هناك في صحراء الشويفات، عملية الزهراني، بناية عزمي، عملية باتر جزين، كسور الكحالة، الهلالية، مدرسة الشجرة، الباروك، المتحف، خلدة، دوحة عرمون. قدموا على إمتداد مساحة المقاومة شهادات وشهداء وجرحى وأسرى والأهم بلا ضجيج واستعراض وبنكران ذات وإيثار قل نظيره.
هؤلاء شركاء بالدم كتبوا حضورهم بالدم، الذي لا تمحوه زبد الكلمات، صناع الدرس غير القابل للتطنيش وبصمت وتواضع ثوري لا يقبل مزايدة. عليه ومعه تقع مسئولية عدم السماح بإهدار النصر، أيضاً هم رفاق في الإسهام الآغلى " الغُرم " للوصول إلى النصر " الغُنم". عندما يعلم أن محاولات الخصم تعمل باستمرار عبر كل وسائل وأدوات التفكيك لضرب وتحطيم القوة التي صنعت وأبدعت هذا النصر، بالمناسبة لا يهم العدو ما نختلف عليه حول الخلفية الأيديولوجية التي فعلت النصر. بل كيف وبمن تم و تحقق هذا الانجاز ؟ من كان مدداً للمقاومة وسنداً لها ؟ وحكما سينتقد ذاته إن كان من تقصير، أو حتما سيوغل في إرادة وعقل وروح الأخر الذي هزمه .
البطل المجهول ذاك الأشقر الخبير، في شتى فنون القتال، هو الفلسطيني المتهم بالتسبب بانقسام البلد وهو " الغريب" المطارد بحياته وبلقمة عيشه بنظر ضيقي الأفق والضمير، وهو ظاهرة اجتماعية سياسية على امتداد المرحلة السابقة، والتي لعبت دوراً محورياً كقوة تحررية وطنية تخميرية، كما قيل وكتب عنها، تؤثر إيجاباً في البيئة السياسية الوطنية والاجتماعية والشعبية، يجري معاقبتها رسمياً، عبر خلق بدائل مفتعلة من خارج نسيجه الوطني عبر تهميش اجتماعي وإنساني وسياسي، كي يعاد صياغة صورته في الرأي العام بصفته "فزاعة" في رواية أمنية بوليسية غير ممتعة.
البديل لروح المقاومة وثقافتها هو تكسير الضمير الجمعي وتفكيك المجتمع وكما يجري من ركوب أو سرقة أو السطو على موجات التغيير إلى استفزاز المخزون السلبي الطائفي والمذهبي وتحويل الوطن إلى جزئيات متناقضة. يظل هو البطل طالما كان الفاعل المستتر الذي لا يرى صفة البطل تليق بأحد غير الشهداء. مازال يجلس بصمت مستمعاً إلى كلمات خطباء الاحتفالات السنوية في ذكرى "جمول" التي يقر لها بالجميل ويعترف لها بأنها أسست فيه أولاً معنى التمرد كإيذان للوعي الجمعي بموعد ولادة جنين الحرية. أسأله ما هو المطلوب؟ يقول: إعادة إنتاج الضمير!
مروان عبد العال
تعليقات
إرسال تعليق